هناك مثل إنجليزي شهير يقول: احذر مما تتمناه، "Be careful what you wish for" ويعني المثل أن الإنسان يستميت أحيانا في الحصول على أمر، أو تحقيق منجز ما، لكن في حال وقوعه تأتي معه الكثير من المتاعب والآلام ليتحول ما تمناه وما سعى إليه في حياته إلى لعنة، تذكرت هذا المثل بعد أن فرغت مؤخرا من قراءة سيرتين لأكبر رواد أعمال عرفهم التاريخ؛ سيرة ستيف جوبز، وسيرة إيلون ماسك، واللتان كتبهما مترجم السير الذاتية الشهير والتر إيزاكسون. نادرة هي المرات التي أشعر فيها بضيق وانزعاج خلال قراءتي لكتاب ما، ربما كانت المرة الأخيرة قبل سنوات عندما قرأت رواية تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلون نظرا لأنها توثق لجحيم حقيقي عاشه السجين عزيز بنبين، لكن لم أتوقع أن أشعر بالضيق وأنا أقرأ سيرا ذاتية لأشخاص غيروا مجرى التاريخ بنجاحهم وهو ما حقق لهم شهرة ساحقة وثروات قارونية طائلة مثل جوبز وماسك، ولأنهم جمعوا المجد من أطرافه فمن المفترض حسب التطلعات البشرية أن تكون حياتهم النموذج الكامل المتكامل لكل ما يتمناه الإنسان في حياته؛ الشهرة والمال والاحترام وتخليد اسمه، ولكن، كلما تبحرت في سيرتهم الذاتية ينتابك شعور غريب بالامتنان للحياة البسيطة التي تعيشها، ويقل كثيرا شعورك بالغبطة تجاههم. حياة جوبز مثلا كانت مليئة بالمعاناة منذ طفولته التي عاشها منبوذا حين تركه والداه للتبني، عاش عمره وهو يلاحق طيفاً من الكمال، حفر جبالا من التحديات ليضع بصمة أدخلته التاريخ من أوسع أبوابه، لكن الهدير الذي يكتنف روحه المعذبة لم يهدأ، لم يجد السكينة حتى في لحظات انتصاره الكبرى، ظل هذا الشعور يطارده رغم أنه حاول طرق كل الأبواب الممكنة ليجد السكينة، ارتحل للهند وعاش مع البوذيين واعتنق ديانتهم وعاد لأميركا نباتيا حليق الرأس هزيل الجسد، لكن شيئا لم يتغير في شخصيته المضطربة المضمخة بالمعاناة، توفي تاركا ثروة تقدر بعشرة مليارات دولار جمعها عبر حياة تعيسة مليئة بالمعاناة. سيرة حياة إيلون ماسك التي سطرها والتر أيزايكسون لم تكن هي الأخرى أقل تعاسة من حياة جوبز؛ فقد عرف عنه مزاجه الحاد جدا وتقلبات شخصيته التي تصل في كثير من الأحيان إلى إيذاء من حوله بالكلام الجارح، تلك الشخصية التي كان يسميها والتر الشيطان الذي بداخله، الكاتب أورد في السيرة أن ماسك رد ذات مرة على شخص أعرب عن أمنيته في أن يعيش حياته بسخرية مريرة أن حياته مليئة بالتحديات القاسية وجلد الذات المستمر، مشيرًا إلى أن الواقع بعيد تمامًا عن الصورة البراقة التي يراها الآخرون. وأخيرا، الحياة ليست صراعًا بين النجاح والخسارة، بل بين الامتلاء والفراغ، النجاح الذي يجرد صاحبه من القدرة على الاستمتاع، الذي يسرق منه لحظاته الصغيرة ويضعه في دوامة لا تنتهي، ليس نجاحًا، بل فخ أنيق، المجد الحقيقي ليس في امتلاك كل شيء، بل في معرفة ما يكفي، في أن يظل المرء سيد خياراته، لا أن يكون مدفوعًا بها إلى حيث لا يستطيع العودة.