أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر البلوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى    أمير تبوك يدشّن ويضع حجر أساس 48 مشروعًا بيئيًا ومائيًا وزراعيًا بأكثر من 4.4 مليارات ريال    هبوط اسعار النفط    باكستان تدعو لاتخاذ خطوات تنفيذية لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    الهولندي "ManuBachoore" يحرز بطولة "EA Sport FC 25"    الصين تستجوب مسؤولا رفيع المستوى    أوروبا تعلن استعدادها لمواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا    أداء قوي وتنوع الأنشطة.. 7.9% نمو الإنتاج الصناعي    حساب المواطن: 3 مليارات ريال لدفعة شهر أغسطس    استقبل المشاركين من «إخاء» في اللقاء الكشفي العالمي.. الراجحي: القيادة تدعم أبناء الوطن وتعزز تمكينهم بمختلف المجالات    سعود بن بندر يستقبل مدير فرع رئاسة الإفتاء في الشرقية    حسام بن سعود يطلع على برامج جامعة الباحة    نسمة القمم    أميركا ومحاربة الفقر    شدد الإجراءات الأمنية وسط توترات سياسية.. الجيش اللبناني يغلق مداخل الضاحية    مقتل واعتقال قيادات إرهابية بارزة في الصومال    مجهول يسرق طائرة مرتين ويصلحها ويعيدها    المملكة قاعدة خصبة لمواهب الذكاء الاصطناعي    الرئيس الذهبي    السوبر.. وهج جماهيري وخفوت قانوني    النصر يسعى لضم لاعب إنتر ميلان    القادسية يعترض على مشاركة الأهلي في السوبر    ثنائي ريال مدريد على رادار دوري روشن    النيابة العامة: رقابة وتفتيش على السجون ودور التوقيف    «منارة العلا» ترصد عجائب الفضاء    «الهلال الأحمر بجازان» يحقق المركز الأول في تجربة المستفيد    منى العجمي.. ثاني امرأة في منصب المتحدث باسم التعليم    تشغيل مركز الأطراف الصناعية في سيؤون.. مركز الملك سلمان يوزع سلالاً غذائية في درعا والبقاع    والدة مشارك بالمسابقة: أن يُتلى القرآن بصوت ابني في المسجد الحرام.. أعظم من الفوز    البدير يشارك في حفل مسابقة ماليزيا للقرآن الكريم    260 طالبًا بجازان يواصلون المشاركة في «الإثراء الصيفي»    عبر 4 فرق من المرحلتين المتوسطة والثانوية.. طلاب السعودية ينافسون 40 فريقاً بأولمبياد المواصفات    رانيا منصور تصور مشاهدها في «وتر حساس 2»    كشف قواعد ترشيح السعودية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم    إطلاق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجاناً    ثمن جهود المملكة في تعزيز قيم الوسطية.. البدير: القرآن الكريم سبيل النجاة للأمة    الإفراط في استخدام الشاشات .. تهديد لقلوب الأطفال والمراهقين    ضمادة ذكية تسرع التئام جروح مرضى السكري    ترامب يعلن خطة لخفض الجريمة في العاصمة الأمريكية    185% نموا بجمعيات الملاك    مجمع الملك عبدالله الطبي ينجح في استئصال ورم نادر عالي الخطورة أسفل قلب مريض بجدة    رونالدو يتألق.. النصر ينهي ودياته بالخسارة أمام ألميريا    نائب أمير جازان يزور نادي منسوبي وزارة الداخلية في المنطقة    مصحف "مجمع الملك فهد" يقود شابًا من "توغو" لحفظ القرآن    هلال جازان يتصدر مراكز المملكة الإسعافية    الأخضر الناشئ لكرة اليد بين أفضل 16 منتخبًا في العالم.. و"العبيدي" يتصدر هدافي العالم    42% من السعوديين لا يمارسون عناية ذاتية منتظمة و58% يشعرون بالإهمال العاطفي    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة    اكتشاف قطع فخارية وأدوات حجرية تعود إلى 50 ألف سنة في موقع القرينة بمنطقة الرياض        جامعة الملك فيصل تفتح باب التسجيل في البرامج التعليمية إلكترونيا    جمعية "نبض العطاء بجليل" تطلق مبادرة أداء مناسك العمرة    القيادة تعزّي رئيس غانا في وفاة وزير الدفاع ووزير البيئة ومسؤولين إثر حادث تحطم مروحية عسكرية    الشمراني عريساً    ممرضة مزيفة تعالج 4000 مريض دون ترخيص    هيئة الصحة تستهدف وقايتهم من مخاطر السقوط.. 4 منشآت صديقة لكبار السن مع خطة للتوسع    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فَصْلُ المَقَالِ فِيمَا بَيْن الأَدَب والشِّتاء مِن اتِّصَال
نشر في الرياض يوم 05 - 02 - 2021

لا تخلو حضارة من الإشارة -ولو من بعيد- إلى العلاقة الوطيدة التي تربط بين الأدب وفصل الشتاء؛ إذ يكون البرد القارس، والأمطار الهاطلة، والرعد الدَّاوي، والبرق اللامع وغيرها أسباباً تجعل الفرد يقبع في بيته التماسًا للدفء إلى جوار مصدر من مصادر الحرارة، يكون في الغالب هو المدفأة، ويزجي وقته بالقراءة. بل إن الأسرة بأكملها كانت تتجمع في ليالي ديسمبر ويناير وفبراير القارسة حول المدفأة، وفي يد كل واحد من أفرادها كتاب، يكون في الغالب رواية من الروايات الطويلة. وكأن القراءة تقدح في ذات القارئ زِناد المعرفة والدفء معًا، فلا يتفق ذلك إلا مع هذا الفصل الغائم البارد. وكما يَشيع الدفء في الحجرة بفضل الحطب الذي تحرقه نار المدفأة، فكذلك تقوم القراءة باستهلاك كلمات الكِتاب/ الرِّواية، ناشرة نور المعرفة ودِفأها بين ثنايا الخلايا الرمادية للقارئ.
يتدثر أفراد العائلة بملابس ثقيلة تقيهم برودة الجو، وأحياناً بأغطية يلتمسون بها شيئاً من الدفء في مقاعدهم الوثيرة حول المدفأة، ثم يدفن كل واحد منهم رأسه في روايته. وقد يحدث أن يقطع أحدهم الصمت المخيم على الغرفة بإبداء ملاحظة، أو إظهار إعجاب بحيثية معينة، أو إلقاء سؤال... وهو ما قد يحيل صمت الحجرة إلى ساحة نقاش، يتبادل فيه الجميع الآراء والأفكار، والدعابات أيضاً، قبل أن ينكب كل واحد على روايته من جديد إلى حين انتصار سلطان النوم، فيتفرق الجمع؛ كل واحد إلى غرفته.
حدث هذا في زمن لم يكن فيه للفيسبوك، أو الإنستغرام، أو التويتر، أو الإنترنت بصفة عامة... أيُّ وجود، بل إن الكهرباء لم تكن معروفة؛ لذلك فالمقارنة الساذجة والبسيطة بين الأمس واليوم، تجعلنا مشدوهين من كمِّ الدفء الذي كان يسود العلاقات الإنسانية والعائلية في الماضي، مقابل البرود الذي نلمسه حالياً، والذي يرتبط أساسًا بإحكام وسائل التواصل الاجتماعي لسيطرتها علينا، وعلى حياتنا، وعلى مختلف العلاقات التي ننسجها مع غيرنا؛ فجعلتنا بالتالي نعيش في جزر شبه معزولة.
وتعود هذه العلاقة الوطيدة بين القراءة وفصل الشتاء إلى قرون خلت؛ فهذا «جُون فْرْوَاسَار Jean Froissart» مثلاً يؤكد أنه «بقدوم الشتاء وما يصحبه من رداءة الأحوال الجوية، وحتى لا يشعر الإنسان بالملل، فلا بد أن ينكب على قراءة الروايات». وإذا كان الشتاء يُنظر إليه بوصفه أفضل الأوقات للقراءة، فيرتبط الأمر في الحقيقة بعدم قدرة الناس في الماضي على مغادرة منازلهم؛ وذلك بالنظر إلى صعوبة مواجهة كل من الجو العاصف والبرد الصقيعي؛ فوسائل التدفئة آنذاك كانت محصورة في المدفأة فقط، وخارج البيت لا وجود لأي مصدر دفء. وقد تم تمثيل هذا حتى في روايات الفروسية الأوروبية؛ إذ نادراً -إن لم يكن مستحيلاً- أن نجد الفرسان يتبارزون ويتصارعون في فصل الشتاء؛ لذلك فهم ينتظرون مقدم فصل الربيع لاستكمال نشاطاتهم الحربية والسياسية، ومغامراتهم الشخصية.
وبعودتنا إلى هذه الحقبة الجميلة، نجد أن التاريخ الأدبي الأوروبي، لاسيما الفرنسي، يحكي لنا عن أهم الاستعدادات التي تقوم بها النخبة المثقفة استعداداً لهذا الفصل؛ حيث ينشغلون -بالإضافة إلى مسألة توفير الحطب والمؤونة اللازمين- بتكديس الروايات الممتعة والطويلة، التي ستملأ ليالي شتائهم المديدة. استعدادات تذكرنا بالحكاية الخرافية الشهيرة التي وردت في حكايات «جون دو لافونتين Jean de La Fontaine» (1622-1695)؛ وأقصد حكاية الزِّيز والنملة La Fourmi et la Cigale، وخاصة النملة التي كانت تتهيأ لفصل الشتاء بالبحث عن الحبوب ومختلف أنواع الطعام وتكديسها ترقباً لاستهلاكها في وقت القرّ والثلج.
الشتاء، إذن، فصل يُستعد له على جميع الأصعدة، وحتى على مستوى التزود بغذاء الروح والفكر والخيال، تمهيداً لقضاء وقت ممتع، حميمي، ودافئ بالخصوص.
لذلك تجد أن فرنسا عرفت انتشار نوع روائي عُرف ب»الرواية النَّهر» Roman Fleuve؛ وهي رواية طويلة للغاية مكوَّنة من عدة أجزاء تشكل كُلاًّ متكاملاً؛ بحيث تحضر فيها بأكملها نفس الشخصيات، غير أنها، أحيانًا، تتيح إمكانية قراءة الأجزاء متفرقةً. وبالنظر إلى ضخامة هذه الروايات، فهي تقدم نظرات متعددة ومتباينة، بتعدد الشخصيات وتباينها، للعالم، كما أنها تحتاج إلى فترة كبيرة وإلى نَفَسٍ طويل من أجل إتمام قراءتها؛ وهذا ما يناسب بالضبط طبيعة فصل الشتاء. وقد انتشر هذا النوع من الروايات وازدهر في أوروبا بشكل واسع ابتداء من القرن السابع عشر، وإلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين تقريباً. ومن أهم نماذج هذا النوع الروائي، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
رواية أسْتْرِيه L'Astrée ل «أونوري دورفي Honoré d'Urfé»: تعتبر من أهم الأعمال الأدبية في القرن السابع عشر؛ وذلك بالنظر إلى أنها أول رواية معروفة من هذا النوع، قاربت صفحاتها الستة آلاف صفحة مقسمة على ستين كتاباً، وامتدت سنوات نشرها من سنة 1607 إلى سنة 1627. تحكي أساساً، وباختصار شديد، قصة الحب التي جمعت بين البطلة «أستريه» و»سيلادون Céladon».
أرْتامين أَوْ سِيرُوس الكبير Artamène ou le Grand Cyrus ل «مادلين وَجورج سكوديري Madeleine et Georges Scudéry»: واحدة من أهم روايات هذا النوع في القرن السابع عشر، امتدت سنوات نشرها من سنة 1649 إلى سنة 1653. لا تزال تعتبر إلى حدود هذه اللحظة أطول رواية فرنسية على الإطلاق؛ حيث يفوق عدد صفحاتها الثلاث عشرة ألف صفحة، تحكي عن مجموعة من الشخصيات المعاصرة في القرن السابع عشر.
جون كريستوف Jean-Christophe ل «رومان رولان Romain Rolland»: رواية ضخمة من أهم روايات القرن العشرين، مقسمة إلى عشرة كتب، امتدت سنوات نشرها من سنة 1904 إلى سنة 1912، وقد كانت من بين الأعمال التي مكنت صاحبها من الحصول على جائزة نوبل في الآداب سنة 1915. تحكي على العموم قصة حياة الموسيقي الذي تحمل الرواية اسمه من يوم ولادته إلى حين مماته.
أما في ثقافتنا العربية، فلا نكاد نجد إشارة إلى تكديس الكتب استعدادًا لفصل الشتاء، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها أن فصل الشتاء في الصحراء العربية أرحم من نظيره في أوروبا أو في آسيا، وأيضاً -وهذا هو الأهم- أن العرب لم يستعملوا الكتابة إلا مضطرين؛ فقد كانوا قومًا يعتمدون الكلام وقوة الحافظة والقدرة على السرد والتغني بالشعر، عوض الكتابة وتدبيج الدفاتر والصحائف. لذلك تجد الشاعر العربي يستحضر في قصيدته ما يحتاجه في فصل الشتاء من حاجيات بدون أن يذكر الكتاب لا من قريب ولا من بعيد؛ ومن ذلك ما يعرف في الأدب العربي بالكافات الشتائية ل «ابن سكرة»؛ حيث قال:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَعِنْدِي مِنْ حَوَائِجِهِ
سَبْعٌ إِذَا الْقَطْرُ عَنْ حَاجَاتِنَا حُبسَا
كِنٌّ وَكِيسٌ وَكَانُونٌ وَكَأْسُ طِلًى
مَعَ الْكَبَابِ وَكِاعب نَاعِمٌ وَكِسَا
أي أن الشتاء يقتضي بالنسبة إلى العربي أن يوفر المسكن (كن)، والمال (كيس)، والموقد (كانون)، والماء والخمر (كأس طلا)، والأكل الفاخر (كباب)، والزوجة (الكاعب الناعم)، وأخيراً الثياب الدافئة (كسا) فقط لا غير، وبدون ذكر للكتب. لقد كان العربي مهووساً بالشعر، إنتاجاً واستهلاكاً، لذلك فقد كان جزءاً لا يتجزأ من حياته، وكأنه الهواء الذي يتنفسه؛ لذلك اكتفى العرب في علاقتهم بالشتاء بوصفه فقط، ومن ذلك مثلاً ما قاله «امرؤ القيس» في معلقته الشهيرة:
أصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيضهُ
كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ
أَمَالَ السَّلِيطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّلِ
علاقة الأدب بفصل الشتاء علاقة وطيدة في مختلف الحضارات الإنسانية، جذورها ضاربة في التاريخ، وشهرتها ممتدة في الزمان؛ كيف لا والكلمة هي الشرارة التي تقدح نار الدفء في الإنسان؛ سواء أكان قارئًا أم مستمعًا.
* أُستاذ مُبَرَّز
في اللغة العربية، المغرب
نبيل موميد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.