لم يكن بيت المتنبي -رحمه الله- حينما نظمه إلاّ عن عبقرية منه؛ وهو البيت المشهور: لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ فالشجاعة مظنة الهلاك والموت، وكثير من الناس لا ترغبه ولا تحبه، والجود والكرم إتلاف للمال، والنفس تحب المال، ولهذا كانت الشجاعة والجود مشقة كبرى وعظمى على سائر الأنام، لكن هناك نخبة من الأنس كانت طبيعتهم الشجاعة والجود، بل هي عشقهم وسعادتهم ولذتهم، وبالذات صفة الكرم والجود التي هي من عظائم الأخلاق عند العرب قديماً، ونظِّمت القصائد والأشعار في مدح الكرماء والأسخياء والأجواد، بل وحفلت كتب الأدب بالإشادة والثناء والمدح بالكرم وأصحاب البذل، وحتى في الشعر الشعبي نجد أنه حافل بالإطراء لأهل الجود، ولهم في ذلك قصص وحكايات قد تشبه الأساطير ولكنها واقعية، ومن هؤلاء الكرماء في عصرنا عبدالله بن مبارك بن رشود -رحمه الله- الذي صيَّر منزله ومنزله مأوى للضيوف بمدينة الرياض. يتحدث عمر الحمود عن صديقه الكريم عبدالله بن رشود وعن أريحيته وسماحة نفسه قائلاً: «كان رحمه الله من قلائل الرجال الذين تربوا وتعودوا على الشهامة والكرم وحب مساعدة الناس، أعرفه من مدة تزيد على خمسين عاماً وبابه مفتوح ثلاث مرات في اليوم الواحد أينما ذهب في الصباح الباكر وبعد الظهر وبعد العشاء»، ويواصل الحمود ذكرياته عن صديقه الكريم عبدالله بن رشود: «أنه لم يأكل طعامه لوحده، وأنه من حبه للأضياف والزوار إذا لم يجد أحدًا ذاك اليوم يأكل وجبته خرج إلى الشارع ودعا العمال والمساكين ليشاركوه غداءه أو عشاءه أو فطوره»، ويؤكد الحمود أن هذه الواقعة تكررت كثيراً في حياة الكريم عبدالله الرشود، ولا تستغرب هذا في نفسية الكريم، فسعادة الكريم بل جنته في الدنيا هي بذل الطعام للناس، كأن هؤلاء الأضياف هم من قدموا له الطعام، وكأنه يقول: يا ضَيْفَنا لو زُرتَنا لَوَجَدْتَنا نحنُ الضُّيوف وأنتَ رَبُّ المنزل احترام وتقدير ويتحدث عبدالعزيز المطيويع وهو كذلك صديق عبدالله الرشود وجار له في الحي قائلاً: «كان منزله عامراً من بعد صلاة الفجر إلى الساعة التاسعة صباحاً، ومن بعد الظهر حتى الساعة الواحدة بعد الظهر ثم يخلد إلى الراحة، ومن بعد صلاة المغرب إلى منتصف الليل، وكانت المرجلة كلها مجتمعة فيه فنعم الصديق، فكان ذا خلق ودين، كان له مكان في روضة المسجد ومعروف هذا المكان، وكان جيرانه يكنون له كل احترام وتقدير، ويأنسون بمجلسه، وكان يزوره كل أفراد طبقات المجتمع، وكان يعتذر عن المناسبات ليتفرغ لضيوفه، وإذا ذهب لهذه المناسبة أو تلك لم يغلق بابه بل هو مفتوح لضيوفه ويستقبلهم أحد أبنائه، وكانت مائدته منوعة بأصناف الطعام والمأكولات ومن أنواع اللحوم، ويصر ويرغب في الأكل من هذه المائدة اليومية التي تكلف مادياً». وقال حمد بن راشد الهملان –من رواد مجلس الرشود-: «كان يراعي ضيوفه من حيث الأكل وما يناسبهم صحياً، وخصوصاً الذين يعانون من أمراض مزمنة فيهيئ لهم ما يناسب من الأكل والمشرب». جبر خواطر ولم يكن عبدالله بن رشود مجرد باذلاً للطعام، بل تعدى هذا الأمر كله، حيث يحدثنا صديقه عمر الحمود عن جانب من جوانب أخلاق وسجايا الكريم عبدالله الرشود قائلاً: «كان يعرف من الضيف أنه يبدو عليه الهموم أو أنه له حاجة فيقول: عندي لك كلمة رأس، خاصةً إذا كان يطلب قرضا ويستحي أن يذكر ذلك أمام الآخرين، فيبدأ قائلاً: كم يا أبو فلان -أي المبلغ- ويلبي طلبه...» انتهى كلام الحمود. هذه صفة وسجية أخرى تضاف في رصيد عبدالله الرشود وهي جبر الخواطر بل القلوب المهمومة من هموم الدنيا، والكريم والجواد بطبعه لا يتردد في بذل المعروف ونجد أن صنائع المعروف عنده كثيرة ويبادر إلى فعلها والسرعة في إنجازها ولاشك أنها صفة عظيمة؛ لأنها من تفريج الكرب وإدخال السرور، وأعتقد أنها مرات ليست قليلة في حياة عبدالله الرشود في مبادرته لكشف كرب ضيوفه الذين يلجؤون إليه، فكان سنداً لهم ومعيناً ومفزعاً لا يخيب أمالهم، وقد سخر الله عز وجل لهؤلاء المكروبين، فكان نعم المساعد والباذل رحمه الله تعالى، وهنا نكتب عنه وقد رحل عن دنيانا ولم يبقى له إلاّ ذكره الطيب الخالد وعمله الذي قدمه ومنها هذه الأفعال الحسنة لضيوفه وطالبي الحوائج، يقول الإمام العلامة الصفدي: وَإِذا اِفتَقَرتَ إِلى الذَخائِرِ لَم تَجِد ذُخراً يَكونُ كَصالِحِ الأَعمالِ وإذا افتقرت إلى الذخائر ذخراً يكون كصالح الأعمال، وأعظمها وأجلها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه». مستشار أمين وهناك جانب من جوانب شخصية الكريم عبدالله بن رشود وهو أنه يجود بالرأي الذي يراه صواباً لمن طلب منه الرأي والمشورة، وهذا ما يكشفه صديقه عبدالعزيز بن راشد الرشود في مقال رثائي في جريدة الجزيرة يقول عنه: «أما سداد رأيه وصواب جوابه فكان يأتيه الكثير من الناس يستشيرونه ويأخذون من رأيه، فيصدر كل منهم على ما يراه متوافقاً مع الحق وفي صالحه، فعقله كبير، وصمته طويل، وسمته عظيم...» انتهى كلامه، وقد حدثني بندر بن عبدالله الرشود وهو نجله قائلاً: «توالت الأيام والسنوات وبعدما كبرت اتضح لي صواب ما يراه والدي من آراء ورؤية بعدما كنت من قبل قد أكون مختلفا معه في بعض آرائه». خُلق رفيع والكريم يبقى كريماً في كل شيء، والهدايا للأصدقاء والضيوف كانت عادة اعتادها عبدالله الرشود، وهذا ما يذكره صديقه عبدالعزيز المطيويع، فهو يقول: إن تجار العود والطيب كانوا يسوقون بضاعتهم عنده، فكان يشتري منهم ما هو يحتاجه لأجل الضيافة، وكذلك يشتري هدايا من دهن العود وأنواعه، وحتى في سفراته لخارج المملكة كان يشتري الهدايا لأصدقائه، ويحدثني سعود بن عبدالله الرشود عن والده: «إنه في سفرته لأجل العلاج في أميركا لم ينسَ الأصدقاء مع أنه مريض مرضاً خطيراً»، لقد منح الله عز وجل عبدالله الرشود نفساً مؤمنة بقضاء الله عز وجل وحسن ظن بالله ولو لم يكن هذا الشيء العظيم راسخا في قلبه ما كان يفكر مجرد تفكير في أحد فضلاً عن سماحة نفسه التي تعودت على العطاء، ولو في أسوأ الظروف وأحلك الأحوال، ولكل امرئ من دهره ما تعودا. وتأتي كلمات عبدالعزيز الرشود الرثائية من صديقه الكريم عبدالله الرشود معبرة عن معرفة بهذه النفس الكريمة السخية قائلاً: «من العدل أن هذا الرجل فذ في كرمه ووحيد في تعامله وصفاته، فكان يفتح منزله صباحاً ومساءً، ففي الصباح يستقبل محبيه وزائريه بابتساماته المعهودة وخلقه الرفيع...» انتهى كلامه. والأخلاق الكريمة كالأرزاق يقسمها الله عز وجل على من يشاء، فكان عبدالله الرشود ممن رزقه الله هذه الأخلاق والسجايا الفاضلة من كرم وشهامة ومروءة وحسن خلق وطيب معشر ووفاء، وهنا تكمن عظمة الشخص في نفوس من يجالسه ويقرب منه ويتعامل معه، فالعظمة ليست بالأموال والمنصب لكن هي عظمة الخلق ومكارم الأخلاق، يقول الإمام الشافعي: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات صداقة 47 عاماً وعندما قابلت عبدالعزيز العبيدي وطرحت عليه بعضًا من الأسئلة حول علاقته وصداقته مع الكريم عبدالله الرشود قال لي: «إنني في حياتي لم أجد صديقاً وفياً كريماً وصادقاً مثله»، ويضيف قائلاً: «كانت صحبتي مع الأخ أبي سلطان محبة ووفاء، فقد كان نعم الأخ ونعم الصديق ونعم الرفيق، بل ينطبق عليه المثل: رب أخ لك لم تلده أمك، ومضى 47 عاماً تقريباً على صداقتنا، وفي هذه السنوات الطويلة وما تخللها من مواقف الوفاء والمحبة والصدق من الصديق الصادق أخي أبي سلطان، فقد كان لوفاته صدمة عليّ، وهي صدمة كبيرة جداً مع الشعور بالأسى والحزن الشديد»، وقد تحدث العبيدي عن برنامج الشيخ الكريم عبدالله الرشود اليومي الذي كان حافلاً بالضيوف طيلة اليوم ويذكر أن صديقه الكريم عبدالله الرشود كان حريصاً ألا يغادر منزله ليلاً خشية أن يأتي أحد من الأصدقاء والأقارب ويجد الباب مغلقا، ويضيف أن أبا سلطان عبدالله الرشود إذا سافر لا بد أن يكون محملاً بالهدايا لأصدقائه، وهذا من سماحة طبعه وطيب نفسه -رحمه الله-. شخصية كريمة وفي الختام كانت هذه الأسطر والجمل لشخصية كريمة وهبت نفسها ووقتها كله لإكرام الضيوف والأصدقاء والجيران، وكان منزله صباحاً ومساءً لا يخلو من زائر، والموائد في كل وجبة مهيئة حتى أنه في أيام رمضان يدعو جيرانه في كل يوم للإفطار معه في منزله. رحم الله عبدالله الرشود، وجعل مثواه الفردوس الأعلى، وقد توفي بتاريخ 12 /5/ 1436ه بعد معاناة مع المرض، أشكر أبناء عبدالله الرشود (بندر، سعود) على تعاونهم معي، وإيصالي إلى أصدقائه، فلهم مني وافر التقدير والمحبة. وهذه قصيدة بندر في رثاء والده: من مات أبوي وكل شيٍ تحطم إلاّ الرثا والحزن وجو الكآبه عاشت معي حتى بديت أتألم كثر الفراق اللي ترك له صبابه لا من ذكرت الرمس والقبر الأظلم أقول يا ربي عليه بسحابه أبوي عبدك وأنت الأكرم والأعلم رحمتك يا ربي تخفف حسابه مؤمن تجنّب كل شيٍ محرم يعمل بما قال النبي والصحابه يسجد لوجهك ويتهجد ويعلم إن البشر تعجز تَخَلَّق الذبابه وإن العمر مهما قصر أو تقدم مردّنا للي حفظنا كتابه ومن عقبه أفعاله هي اللي تكلم ما هو بحاجه مدح وإلا ذرابه يجمع مع الدين الكرم ونتعلم كيف المراجل تنحني عند بابه أنا أشهد إن الكون في العين ظلم حتى الأمل ما باقي إلاّ سرابه يا ليت موت أبوي جاني وأنا أحلم ولا وضعني هالزمن تحت نابه عبدالله الرشود عُرف بحسن الخُلق وطيب المعشر ابن رشود في إحدى سفرياته الشاعر بندر بن عبدالله الرشود الرشود في سنواته الأخيرة رحمه الله