لا يزال الناس مختلفين في عدد من القضايا؛ كقضية السعادة، فمن الناس من يقصر السعادة على رفاهية الحياة من جهة مادية صرفة، ومنهم من يرى تمثل السعادة في حياة كريمة لا يلزم أن تكون غاصة بالثروات ولا ملبية لكل الرغبات. ومع الخلاف القائم بين هذين الصنفين إلا أن طبيعتهم واحدة؛ ذلك أنهم يتقاطعون في نقطة قد هيمنت عليها النظرة المادية التي لا تلامس من كينونة الإنسان إلا حسّه على تنوع أشكاله. فهل يكفي هذا العنصر المادي في تحصيل السعادة؟ أقول: من جهة معجمية -وبعيدًا عن تفصيلات الجذور الدلالية للفظة السعادة- نجد أن روافد السعادة تقوم على الإشباع من جهة حسية وعلى التدبير من جهة عقلية؛ هذا الذي يصلح أن يقال عن السعادة عند التفتيش عن دلالتها اللغوية، فموضوع السعادة عند طرقه من هذه الناحية فإنه يعد معتصر المختصر. أما إذا نظرنا إلى السعادة لدى الفلاسفة؛ فسنلحظ أنهم أنشؤوا سؤالا يدور حول تلك الجهة المتلقية للسعادة؛ وهل تلك الجهة متمثلة في البدن أم في العقل أم في القلب؟ وهم في تحليلهم لهذه المسألة ميّزوا بين لذتين؛ لذة جسدية وأخرى عقلية، وفاضلوا بين هذه وتلك في حديث طويل لا تستوعبه هذه المقالة؛ إلا أنّهم -وعلى وجه مجمل- جعلوا لكل جهة عنصرا يختص بإسعادها من جهة الموضوع واشترطوا شروطا معينة في الإنسان من جهة ذاته بحيث تجمع هذه الشروط بين الشروط المعرفية والخلقية والعقلية والمسؤولية؛ كل ذلك لكي يظفر الإنسان بهذه السعادة المنشودة. وهذا الذي قرره المتفلسفون لا يمكن مصادرته على وجه تفصيلي، وإن كان لا يسلم من نقود تنصب على بعض من أفكار الفلاسفة الذين جعلوا سعادة الإنسان تنحصر في لذته العقلية دون باقي المناحي الأخرى. فإن أتينا -في نهاية المطاف- للتصور الإسلامي الصحيح للسعادة فسنجد أنه الذي أشبع الجسد والروح على حد سواء؛ حيث أشبع الجانبين من وحي النبوة؛ فانغمرت تلك النفس بنور الحق الذي لامس شغاف القلب وأسداه حلاوة نطق بها نبينا صلى الله عليه وسلم مبلغًا صحبه الكرام بلاغ صدق وعدل. وهو الأمر الذي تحقق فقد ذاقه المؤمنون وتيقنوه حق اليقين. وهي الحلاوة التي عبر عنها الصالحون بالجنة؛ إذ يقول كبيرهم: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها.. لا يدخل جنة الآخرة". وقال في نفس المعنى: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي"، فمن منا دخل جنة الدنيا، وزرع جنته في صدره حتى يذوقها ويستشعر لذة جنة الآخرة "والآخرة خير وأبقى".