أبرز باحث دكتوراه سعودي متخصص في التاريخ الحديث وثيقة لمنع الرهن العقاري، تضمنت تأسيس نظام اقتصادي لحماية المزارعين قبل ستة عقود. وأكد الباحث عبدالمحسن بن صالح الرشودي أن المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه آدرك حجم الضرر الذي يتكبده المزارعون في حينه، ليصدر قرار منع بموجبه الرهن العقاري المترتب عليه ضرراً على المزارعين، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الدولة رعاها الله أرست قواعد الإصلاح منذ بدء فترة التوحيد، لتتوالى الإنجازات التي صعدت في النهضة التي تعيشها البلاد في القرن الحالي. ووفقاً للرشودي فإن الرهن العقاري يعد من الأساليب التي يلجأ إليها الدائن لضمان حقه لدى المدين، وقد استُخدم ذلك الأسلوب في المداينات في منطقة نجد خلال فترة توحيد المملكة وما قبلها؛ حيث انتشرت تلك المعاملة بين التاجر الذي يملك السيولة أو المواد الزراعية والمزارع الذي لا يملك السيولة لتغطية مصاريف مزرعته؛ كالبذور، والمعدات الزراعية، والدواب إلخ ...؛ لذلك يلجأ المزارع إلى التاجر ليطلب منه استدانة مبلغ من المال لذلك الغرض. وقال "لكي يضمن التاجر حقه، يطلب من المزارع رهن المزرعة في حال عدم السداد بعد مدة معلومة بينهم، وفي حال عدم سداد المزارع يتم ترحيل ذلك الدَّين إلى السنة التالية على أمل أن يسدِّد المزارع الثمن الأصلي بالإضافة إلى الفائدة للسنة الجديدة المتفق عليها، وذلك من ثمار المزرعة وليس نقودًا، إلا أنه في كثير من الأحيان يعجز المزارع عن توفير ذلك بسبب آفة تصيب الثمار أو كساد الأسعار وما إلى ذلك، وعندها يتراكم الدين عليه". وأضاف: مع يقين المزارع بعدم السداد تقع المصيبة؛ حيث يتم حل ذلك بإحدى حالتين: إما أن يستمر في مزرعته بعد أن تُحَوَّل ملكية تلك المزرعة للتاجر، ويصبح ذلك المزارع عاملًا فيها بعد أن كان مالكًا لها، وإما أن يخرج من المزرعة ويأخذ أثاث بيته فقط ويتم تسليمها للتاجر، وبصورة أخرى ربما يكون في المزرعة ثلاثة أطراف: الطرف الأول صاحب الملك أو (الأصل) الذي يتفق مع المزارع على العمل فيها لفترة معروفة تصل إلى عشر سنوات أو أكثر، على أن يكون لصاحب الملك الربع مثلًا أو النصف من ناتج الثمار، أما الطرف الثاني فهو التاجر الذي يُقرض (يدين) هذا الفلاح إما نقودًا لشراء الإبل وأدوات نضح المياه - أي (السواني) - وإما يقوم بتأمين البذور، فيسجل التاجر على الفلاح هذه «الأقيام» على أن يسدد ذلك للتاجر من التمر والعيش (القمح)، أما الطرف الثالث فهو (الفلاح) المزارع الذي ارتبط بعقدين مع المالك ومع الممول أو المقرض". واستطرد الرشودي "أو يكون هناك طرفان فقط: التاجر الذي يمول صاحب الأرض الذي يقوم هو بنفسه مع افراد اسرته بالعمل في هذه المزرعة، ويكون الناتج مناصفة بينه وبين التاجر، حيث كان السائد في ذلك أن يقوم التاجر بإعطاء المزارع مبلغًا على أن يعيده حاصلات على نصفين: الأول تمر، والثاني قمح؛ فيكون التسديد بالضعف تقريبًا، فالصاع يسدد بصاعين، والتمر (الوزنة) تعادل 2 كيلو تقريبًا، تقيم بخمسة عشر أو اثني عشر ريالًا إذا كانت تقدر في السوق بثمانية ريالات"، موضحاً "على ضوء ذلك الاتفاق، يقوم التاجر برهن الملك (الأصل) لسنوات عدة إذا لم يتم الوفاء، أو يقوم برهن (العمَارة)، وهي مصطلح يَعني ثمار الخضار والنخيل، وهذا يجري على المزارع الذي لا يملك أصل المزرعة، فلا يأخذ منه شيئًا، وإنما ياخذه التاجر استيفاءً للدين". مبيناً "أما إذا كان الوضع بدون رهن فإنه إذا جاء وقت الصرام كان الثلاثة أطراف أو الاثنان شركاء في الثمار، سواء كانت تمورًا أو حبوبًا على حسب الاتفاق الذي حصل بينهم، وذلك بعد خصم قيمة (الولاة)، وهي قيمة خدمة النخيل ومصاريف الأشغال اليومية التي تكون لصالح الفلاح (المزارع)". وأضاف "من خلال هذا العرض نلمس الإجحاف في حق (المزارع)، خاصة في مسألة الرهن، الذي ربما يتراكم عليه في حال كونه هو صاحب الملك؛ ومن ثم يضطره التاجر إلى تسليم المُلك كاملًا، وذلك عندما تبلغ قيمة الدين قيمة المُلك، وهو ما يعبَّر عنه ب (انقطاع المُلك بالرهن)". وأبرز الرشودي وثيقة توضِّح إحدى صور الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وهي واحدة من الإصلاحات التي قام الملك عبدالعزيز رحمه الله بسنها تجاه هذا التعامل غير العادل؛ حيث توضِّح تلك الوثيقة حرصه على وضع حد لذلك الأمر، وقد اتَّضح ذلك في برقية من الملك إلى الأمير عبدالله الفيصل الفرحان آل سعود أمير منطقة القصيم في 1364، وذلك لمنع هذه الطريقة؛ لما فيها من الضرر على الفلاح؛ لأنها لو استمرت لقضت على التوازن في القوى العاملة؛ حيث سيتحول كثير من الفلاحين إلى فقراء منقطعين عن العمل. وتوضح الوثيقة التي تبرزها "الرياض" تشديد المؤسس في هذا القرار، حيث ألزم الأمير منع التجار من إلجاء الفلاح لبيع الأدوات الزراعية، مثل السواني أو الإبل التي يستعملها في الفلاحة؛ لغرض التسديد، كما يتضح من أمره رحمه الله أن يُمنع ذلك الاستغلال والجشع الذي ربما يستغله بعض التجار لإعسار هؤلاء الفلاحين ومن ثم تملُّك مزارعهم، في حين أننا نجد التشديد منه، حتى منع التاجر من إلجاء الفلاح لبيع بعض أدوات المزرعة لغرض التسديد، كما اتضح منها وجوب الوقوف مع الفلاح ورفع الظلم والضرر، وفي نهاية الحديث تتضح الشدة على من لم يعمل بذلك. وقال الرشودي "بلا شك، فان هذه الخطوة من الملك رحمه الله تعكس الاهتمام الكبير منه برعيته -خاصة شريحة الفلاحين وبالجانب الزراعي، وهذا يدل على احترامه لمن يمتهن هذه المهنة الشريفة، ومن ذلك يتضح إدراكه أن الزراعة التي هي عماد الحياة آنذاك- لا بد من تنظيمها، وأن ذلك النشاط الذي كان مزدهرًا خاصة في القصيم لو أهمل لحصل هناك اضطراب في المستوى المعيشي في شريحة كبيرة من السكان؛ ولذلك حرص على الاهتمام بذلك؛ ليكون هناك توازن عادل في ذلك الجانب". ووفقاً للرشودي فإنه مما يبيِّن أن تلك الخطوة تعد إحدى الخطوات التي اتُّخِذت في تنظيم الدولة وشؤونها الداخلية أن تاريخ تلك الوثيقة متزامن مع مرحلة تثبيت الاستقرار والتنظيم الذي كان يسعى إليه الملك، حيث توالى إصدار القرارات التي تهدف إلى الإصلاح الاقتصادي والإداري للبلد، الذي بدأه منذ إعلان توحيد المملكة. وأضاف "من جهة أخرى يُمكن أن نلاحظ أن هناك مسوغات أدت إلى انتباه الملك لحل تلك المشكلة، وكان من أهمها أن البلد كان يمر بأزمة اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث إن الركود الاقتصادي الذي مر على البلاد كان وبلا شك له تأثيره على الجانب الزراعي، أضف إلى ذلك أن هناك جوانب أخرى، مثل موافقة تاريخ ذلك القرار مع وباء الجراد الذي غزا منطقة القصيم في تلك السنة مع هطول الأمطار في فصل الصيف الذي أفسد كثيرًا من الثمار؛ لذلك فإنه من الواضح أن الملك انتبه إلى تلك الآثار التي لحقت بالمزارعين". وأكد الرشودي أن موضوع الرهن كان أحد المحاور التي عرضت عليه أو استنتجها، لا سيما وأن المنطقة تشتهر بالنشاط الزراعي الذي لا يختلف عليه اثنان، ويمكن القول أيضًا: إن مثل هذه الأنظمة الزراعية التي كانت لا تغيب عن ذهنه في سبيل نشر العدل وتنظيم حياة الشعب كانت إحدى القضايا التي كان يحرص على معالجتها من خلال اهتمامه الذي كان يوليه رحمه الله لرعيته، لرفع الضرر عن المتضرر، كما بيَّنت تلك الوثيقة أن هناك ضررًا كبيرًا على عدد من المزارعين. وأكد الرشودي في نهاية حديثه على أنه يقع لزامًا على الباحثين في تاريخ وطننا الغالي الكشف عن مثل تلك الوثائق، وتوضيح تأثيرها على بناء الإدارة والإصلاح الاجتماعي في وطننا منذ بداية تأسيسه، قائلاً:" لا شك أن الأرشيفات الوطنية تزخر بعدد كبير من ذلك النوع الذي يحتاج إلى استقراء من باحثين متمكِّنين". وثيقة توضح تعديل نظام الرهن أمر بها المؤسس قبل ستة عقود