لا يستطيع المرء مهما حباه الله من قوة أو جاه أن يستغني عن غيره، لذا فقد كان الإنسان منذ القدم يحتاج إلى من يعينه عند نوائب الدهر، وهذه الحاجة هي الاستعانة به في بلوغ ما يريد أو دفع أذى يتربص به، وفي زماننا الماضي كان يطلق على طلب الاستعانة (الفزعة) أي المسارعة في تقديم المساعدة على الفور فيقال فلان (يستفزع) أي يطلب المساعدة والمؤازرة، فعندما تداهم الإنسان المصاعب فإن أول ما يلجأ إليه هو الاستنجاد بمن حوله لمواجهتها، وتعني (الفزعة) بذل الجهد في المساعدة بكل ما يملك من أجل إنجاد الغير، وكانت تلك الفزعة تتم بدافع الحرص والمشاركة على أن لا يصيب أي أحد ما يعكر صفو حياته، فعلى سبيل المثال فقد كان من يريد مثلاً دفع الضرر يسارع إلى طلب (الفزعة) ممن حوله من جيران أو أقارب وأصدقاء، ومن الشواهد التي لا زالت باقية على تكاتف ذلك الجيل وجود (قارة) وهي الجبل المنفرد عن غيره من الجبال في محافظة (حريملاء) يطلق عليه (قارة الفزعة) حيث تعود من يطلب الفزعة من أهل هذه البلدة القديمة أن يصعد وينادي بأعلى صوته عند حاجته إلى المساعدة، كأن يقترب أعداء من البلدة أو أن يضيع أحد أغنامه أو أي شيء يستدعي طلب العون والمساعدة، وعند النداء بطلب المساعدة يهب اليه الرجال لنجدة من يطلب النجدة والاستغاثة، وفي زمننا الحاضر قل من يطلب الفزعة وانشغل الناس عن غيرهم وعن من حولهم حيث طغى ومن الماديات على كل شيء جميل كنا نعيشه فيما مضى. التعاون والترابط تتجلى روعة (الفزعة) في المساهمة في الترابط الاجتماعي التي يسارع الناس اليها دون الحاجة إلى دعوتهم إلى ذلك ومن أقرب الأمثلة إلى ذلك الزواج، فما أن يتم دعوة الجيران وأهل الحي إلى زواج أحد شباب الحي الا وتجد جميع الجيران وأهل الحي يسارعون إلى مد يد العون إلى أهل العروس الذين يعدون العدة لإقامة ليلة الزفاف فيتقاطر الجميع بعوناتهم فهذا يحضر بساطا والآخر يحضر قدورا للطبخ أو أباريق ودلال وفناجين وبيالات، وما هي الا لحظات وتجتمع لدى أهل العروس كامل عدة الطبخ والفرش قبل يوم الزفاف بيوم، أما العريس فتتقاطر عليه الإعانات من الأصدقاء والأقارب والجيران من نقود وذبائح وعود بخور وغيرها من المواد العينية، ومن الأمثلة لتقديم الفزعة قبل طلبها مساهمة الجميع من أهل القرية كل حسب استطاعته لمن يبدأ في بناء بيت له، فترى الجميع يساهم في ذلك فمن كان له نخيل ومزروعات يقدم سعف النخيل وجريده أو خشب أشجار الأثل لاستخدامها في سقف البيت، وبعضهم يساهم في إحضار الحجارة من الجبال القريبة، ومن يملك راحلة يساهم في نقل التراب الصالح للبناء لصاحب البيت ليستخدمه في بناء الجدران، أما من لم يجد ما يقدمه فانه يساهم بالعمل بنفسه في خلط الطين والبناء بلا مقابل سوى ما يقدمه من أكل له ولغيره من عمال البناء، وهكذا تقل التكلفة على من يريد البناء وبنجز بيته في وقت قصير بأقل التكاليف. أخطار السيول من المواقف التي تتجلى فيها النخوة والفزعة لدى جيل الأمس هي مساعدة سكان البلدة بعضهم البعض في مواجهة أخطار السيول التي توقع الأضرار بالبيوت المبنية من الطين والتي سرعان ما تتأثر بهطول الأمطار بغزارة خصوصاً إذا صاحب تلك الأمطار زخات من البرد، إذ يؤدي تراكم حبات البرد إلى إغلاق منافذ الماء في سطوح المنازل مما يجعل الماء يجتمع وحبات البرد في سطح المبنى الأمر الذي يؤدي إلى انهيار السقف من ثقل الماء والبرد وسقوط جدران السطح وبالتالي وقوع البيت كله على ساكنيه إذا لم يقوموا بمجهود فوري في التخلص من البرد وإلقائه خارج السطح، أما إذا كانت السيول متواصلة وغزيرة فان الماء سيفيض من الأودية ويحاصر المنازل ويدخل فيها مما يسبب تلف الأثاث أو سقوط المنزل على ساكنيه إذا داهمتهم السيول وهم في غفلة كأن يكونوا يغطون في نوم عميق، وقد كان الناس يواجهون غزارة الأمطار والسيول بطلب المساعدة من بعضهم، فتراهم يطلقون صرخات الاستغاثة، كما حدث في سنة الغرقة وهو ما يسمى طوفان نجد الكبير في معظم بلدان نجد مثل (بريدة والمجمعة ومرات) وغيرها حيث كان الناس يخرجون من بيوتهم وهو يسمعون عبارة (الفزعة يا المسلمين) بصوت مرتفع فيجتمع الناس حول صاحب الصوت وكل معه (مسحاة) أو (مجرفة) أو أي شيء يستطيع به سد طريق السيل إلى البيوت يقومون بعمل سد ترابي عن مدخل السيول كي لا تدخل في الطرقات المؤدية إلى البيوت حتى لا تغرق من مياه السيول فتقع، وأشد ما تكون المعاناة إذا كانت في وقت الليل المظلم وخصوصاً في الهزيع الأخير منه. الاستغاثة قبل توحيد المملكة وحينما كان الناس يعيشون في خوف بسبب فقدان الأمن وانعدامه فقد كانت القرى تتحصن بأسوار بها أبراج مراقبة لصد هجمات الأعداء الذين يغيرون على القرى لسلب ما بها من خيرات كالتمور والماشية والحبوب، ولذا كانت تلك الأبراج تراقب القادمين للقرية في الليل والنهار وإذا ما تم رصد هجوم على القرية تتعالى أصوات الاستغاثة وطلب الفزعة من السكان الذين يجتمعون لصد الهجوم للمحافظة على ما في القرية من ذراري ونساء وخيرات فيتم صد الهجوم بتجمع أهل القرية ووقوفهم صفاً واحداً في وجوه المعتدين الذين يلوذون بالفرار طلباً للنجاة بأنفسهم تاركين ما جاءوا للحصول عليه، أما في البادية فقد كانوا يعيشون في جماعات وبيوت الشعر التي يسكنونها متقاربة وعندما يتم الهجوم عليهم من المعتدين الذين يطلقون عليهم مسمى (قوم) أي أعداء متربصين يطلق من يشاهدهم أصوات استغاثة وطلب الفزعة وذلك بالمناداة بأعلى صوته بقوله (واوه) ويمدها كثيراً وما أن يسمعها القاطنين في الخيام التي في الجوار حتى يهبوا للنجدة والدفاع عن خيامهم وخيام جيرانهم، وبعد أن من الله على هذه البلاد بنعمة الأمن والأمان بعد توحيدها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثره - لم يعد أحد بحاجة إلى تلك الأسوار والأبراج العالية لمراقبة الأعداء أو أصوات الاستغاثة من سكان البادية، وفي قصة طريفة تحكي مدى تلك المعاناة فقد قام أحد الشباب الصغار بعد أن سمع قصة من أحد الجيران من البادية الذين يسكنون بكثرة في حيهم تحكي واقع الأمس القريب وصوت استغاثة من كان يعيش في تلك الحقبة من كبار السن التي عاصروها بإطلاق صوت استغاثة في ظهر أحد الأيام تشابه صوت الاستغاثة التي سمعها في القصة فقام برفع صوته قائلاً (واوه) وكرر ذلك وما هي الا لحظات حتى خرج الكثير من كبار السن وكل بيده عصا أو سكين أو خنجر وبعضهم سلاح متوجهين إلى صاحب الصوت المستغيث وكان أحدهم قد خرج من منزله وهو يتقيأ من شدة الخوف ولكنهم لما وصلوا إلى صاحب الصوت وجدوه هذا الشاب الصغير وعلموا أنه عمل ذلك كنوع من حب التقليد وعمل مقلب فحمدوا الله على نعمة الأمن التي يعيشونها بينما نال هذا الشاب علقة ساخنة من والده الذي منعه بعدها من الجلوس مع كبار السن الذين يجتمعون في كل صباح ومساء في الحي لتجاذب أطراف الحديث والخوض في قصص ومواقف زمان كعقاب له على ما فعله من تلاعب بمشاعر كبار السن وعمل مقلب لهم . المواقف ومن المواقف التي كانت تحتاج إلى الفزعة هي عند فقد الشاوي (وهو من يرعى الغنم بمقابل مادي كل شهر) لبعض الأغنام أو كلها وذلك اذا أخذته غفلة عنها فنام أو فاجأه ذئب وهو يرعى فتراه يفر إلى البلدة مستنجداً وإذا سمعه أحد فانه يساره إلى (مجلس) القرية فينادي بأعلى صوته (من له غنمه يفزع) فيسارع من كان له غنم إلى اللحاق بمن سبقه إلى المرعى ليساعد في نجدة الراعي من الذئب أو في البحث عن الأغنام قبل حلول الظلام، وقد يشارك في مهمة البحث والإنقاذ من لا يكون له غنم مع الراعي ولكن يساعد من باب (الفزعة) مع الجماعة، وسرعان ما ينجح هؤلاء بتعاونهم من العثور على الأغنام أو تخليص ما سلم منها من اعتداء الذئب، وفي موقف آخر فقد شب حريق هائل في محطة وقود في مرات حينما كان الصهريج يقوم بتعبئة الوقود في خزانات محطة بنزين مما جعل أصحاب المحلات والبيوت المجاورة يهربون بما خف من متاع من بيوتهم بعيداً عن خطر النار، ودوت صرخات الاستغاثة وطلب الفزعة فقام رجل شجاع لا يزال الناس يذكرون اسمه وهو محمد بن إبراهيم بن دخيل الدايل بعمل بطولي ألا وهو قيادة الصهريج وقد غطته النيران بعيداً عن محطة الوقود والبيوت فيما قام متطوعون آخرون بتسلق جدران البيوت وحمل ما يهم صاحب البيت من متاع كنقود أو ذهب، وفي أحد البيوت كانت المفاجأة حيث وجدوا بنتا صغيرة نائمة في غرفة وقد نسيها أهلها من شدة هلعهم وخوفهم من أن تلتهمهم النيران فقاموا على الفور بحملها وتسليمها إلى ذويها، ولولا الله ثم (فزعة) هؤلاء الأبطال لذهبت تلك الطفلة الصغيرة وقوداً للنيران، وقد حدثت بالفعل قصص مشابهة لهذه المواقف في عصرنا الحاضر وقد عمد أبطالها إلى الفزعة وقاموا بقيادة شاحنة مليئة بالوقود وقد نشبت بها نيران الحريق إلى مكان بعيد عن السكان، كما قام العديد من الأبطال في المساهمة في إنقاذ الغرقى في السيول مثل التي اجتاحت مدينة جدة فقد قام أحدهم بإنقاذ العديد من الأنفس ودفع ثمن فزعته عمره فقد غرق وأنقذ غيره، كما قام العديد من الشباب بالفزعة وإنقاذ عدد من المعلمات من الغرق في السيول التي غمرت السيارة التي تقلهن وسطروا مواقف شجاعة استحقت التقدير والثناء والمكافأة من المسؤولين. صياح الضحى من القصص التي تروى عن (الفزعة) وأهميتها في حياة الناس منذ القدم قصة الشاعِر عبد الله بن هذال القريفة المطيري والتي صارت مثلاً حياً على أهمية (الفزعة) حينما تطلب وأن من يتأخر في تقديمها وهو يستطيع فانه يعتبر مخالف للشيم وملخص هذه القصة أن الشاعر كما يُروى قدم إليه ضيوف وهو شاعر قديم اشتهر بالشجاعة والكرم الشامخ - رحمه الله - وكان الناس في ظروف صعبة من حيث تفشي الفقر وقلة ذات اليد، ولم يكن لديه ما يطعم به ضيوفه فطلب (الفزعة) من جيرانه وممن حوله وهم يعلمون بأنه معدم، ولكنه رجع منهم صفر اليدين، ولما ضاق به الأمر عمد إلى ناقته وهي التي كان يتمنحها (أي ينتفع بما تنتجه من حليب) هو وأهل بيته فنحرها وأمر أهل بيته بأن يطبخوها وذهب إلى جيرانه وعزمهم على العشاء بمناسبة قدوم ضيوف عليه، وعندما انتهى الضيوف من احتساء القهوة دعاهم وجيرانه إلى العشاء فظن جيرانه بأنه لن يقدم اللحم لأنهم لم يساعدوه بإعطائه ولكن المفاجأة عقدت ألسنتهم لما رأوه قد قدم ناقته في صينية الطعام وطبخها كلها، ولما رأى دهشتهم قال هذه الأبيات: يا جماعه كيف ما فيكم حميا كيف صياح الضحى ما تسمعونه من يعاوني على ربعٍ أهنيّا من بغى درب المراجل يمنعونه المراجل ما تهيا هاسويا كود من عض النواجذ في سنونه ان بغيت الشح درب الطيب عيا حالفٍ مارد نفسي للمهونه ما عليّه من منقّلت الحكّيا كان باب الرزق منهم يقطعونه وان بغيت الهون ساس الطيب عيّا حالفٍ ما أرِد نفسي بالمهونه حالف ماجوز من جية هويا دام بيت الله خلقه يدهلونه ما علينا من مساريد القفيا كان باب الرزق منهم يقطعونه من لحومي الدانيه شفت الجفيا من بغى درب الشكاله يبهتونه فزعة اليوم المتأمل في عصرنا الحاضر يلحظ مدى التغير الذي طرأ على حياتنا اليومية بعد أن عم الرخاء وساد الأمن ولله الحمد وازدادت الرفاهية، وبات الكل في سعة رزق، وبذلك قلة حاجة الناس بعضهم لبعض كما كان في السابق حيث كانت الفزعة موجودة بين الناس ولا يخجل من يطلبها ومع مرور الوقت ومضي الزمان فإن الفزعة بمعناها الحقيقي لم يعد الناس بحاجة اليها كما في السابق، ولكن انحصرت في أشياء بسيطة مثل طلب الجاه في قضاء حاجة مثل أن يطلب أحدهم من شخص الفزعة في طلب الصلح لحل قضية خلاف معينة أو في التوسط لنيل وظيفة أو خطبة فتاة معينة وهكذا، وقد تطلب الفزعة أيضاً في زماننا هذا أيضاً في قضاء دين شخص معسر أو مساعدته في بناء منزل أو المساعدة في دفع تكاليف زواج، ولكن (الفزعة) زمان كانت حاضرة بقوة في تخطي كل الأزمات بن الناس بعكس زمننا الحاضر الذي بات الكثير فيه يعيش حياته دون أن يفكر بغيره. حياة زمان تحفها البساطة والفزعة بين الجميع المشاركة في بناء بيوت الطين زمان كانت تتم عن طريق الفزعة الفزعة تتجلى في ابها بين الناس صورها وقت السيول كثيراً ما كان (الشاوي) يستفزع بأهالي القرية لانقاذ الغنم من الذئب والضياع قديماً قارة شبيهة بقارة (الفزعة) بحريملاء التي كانت مكان طلب الفزعة قديماً سيول (سنة الغرقة) التي هدّمت معظم منازل أهالي نجد شاهد على بسالة جيل الفزعة حمود الضويحي