عندما تسأل الكثير من الراصدين للرواية المحلية عن رواية «غير.. وغير» لهاجر المكي لا تجد الإجابة بل ترتد إليك الأسئلة: لم نقرأها.. لم نسمع بهذا الاسم من قبل! متى صدرت الرواية.. من هي هاجر المكي!!. تخبرهم أن الرواية صادرة منذ عام 2005 عن المركز الثقافي العربي ببيروت. تأخذك الدهشة كيف لهذه الرواية الصاخبة أن تمر في سلام وتظل رهينة الصمت. وأن يطويها عام من زمن دون جدل دون نقاش دون قراءة.وإن اغفلتها الصفحات الثقافية كيف تهملها المنتديات الإنترنتية وهي التي أصبحت ترصد كل الإصدرات الجديدة. الأسئلة تزيد كلما تعيد قراءة الرواية. هذه الحرفية في الكتابة السردية. لا يمكن تكون لكاتبة طارئة على فن السرد. هذه الاحترافية لا يمكن أن تكون نتاج نزوة تنتج الرواية الأولى. هذا الاتقان الشديد في التكنيك لا يمكن أن تغامر به في تجربتها الأولى. هذه الرواية والتي يتقاطع عنوانها مع الشعار الصيفي لمدينة جدة: «جدة.. غير» أينما ظهرت هذه العبارة هيجت في مراد شعوراً بالزهو أن يكون مشمولاً بهذه الغيرية: (ما صعب إلا سهلها، وما جميل إلا أهلها). «هذا عصر الكلام، زمان كان الكلام بتبن والسكوت بذهب الآن يورانيوم عيار 2000». «ايه احب القاهرة، بيروت، كازا، بس جدة.. والله غير). مراد بطل الرواية الذي تحت تأثير لفافة السيجارة يهذي بجدة ويفتش في عوالمها. يستدل على صخبها. يبكي الرواشين والبحر وسناء زوجته التي اهملته لتخلق فيه حالة من التوهان.. التوهان الذي يتقاسمه معه خاله مختار الموداني. وتأخذك الدهشة عندما تكون الشخصيتان في الرواية هما لعميد إحدى الكليات في الجامعة وتتمثل في شخصية مختار الوهدي. ومعيد بذات القسم هو مراد الوهداني. وتجدهما بهذا الضياع النفسي وتوحدهما الحالة الفنتازية في علاقتهما مع المرأة. «يا هو جاك المسايج، يا هو ايش المسايجات» هذه هي نغمة استقبال الرسائل لمراد وكلما صدرت هذه النغمة من هاتف مراد كلما قرأنا حكاية مسج يتماهى مع الحدث في الرواية. والمسجات التي تتنوع ما بين الأغاني والنكات، دردشة بالمسجات بين مراد والآخرين. هذه المسجات بكثافة حضورها في الرواية تدخل المتن ولا تظل على الهامش. انها تمثل حالة رصد للمناخ العام في مدينة جدة. في الذائقة فيما يتداوله الناس سراً. إنها السخرية السوداء التي لا تضحكك فقط بل يصاحب الضحك حالة من التفكير. ويظل سور المحو هو الآخر شريكاً في لعبة الفضح في الرواية. وإذا ما تأملنا غلاف الرواية وجدنا صورة الغلاف يتصدره جدار ممتلئ بالشخابيط. الجدار الذي يدون فيه الناس العبث، الشغب، الاوجاع السرية، وأيضاً يتم تدوين حكايات العميد مع زوجته مرام. «سور المحو استقبله بمساحة من (الاستغراق اللذيذ)، نعم مساحة من الاستغراق عظيمة، السور يستغل الليل والفراغ ليتمدد بطول المدينة من بحرها للشرق، وكل كلمة فيه خاضعة للتعذيب». هكذا هو سور المحو يتمثل لمراد كلما داهمته حالة التوهان وبحث يفتش في السور عن حكاية جديدة، يسر بها ليل جدة. ومع حضور رسائل هاتف الجوال وسور المحو. يحضر الشريك الثالث الذي يرفد السرد. وهي رسومات الكاركتير للرسام الهليل. فتلك الرسومات تدخل في لعبة السرد وتصبح متكئاً لمراد عندما يريد أن يبحث عن حالة موازية لما يشعر به. وبالرغم من أن مؤلفة الرواية امرأة إلا انها لا تتعاطف مع الشخصيات الأنثوية في الرواية. هي تتيح لكل شخصية أنثوية حرية الحركة. ولا تصبغ حضورها بالحضور المثالي. فنجد شخصية «مرام» زوجة العميد المرأة اللعوب المفتونة بجمالها. والتي تختار الخطئية لتفتش عن ذاتها. ونجد اعتدال التي كان يظن فيها مراد انها المرأة الملاذ لكل خياباته فهي شقيقته وتوأمه ولكنه يكتشف انها تختار ذات الطريق الذي سلكته مرام ولكن بصياغة أخرى. فتتزوج سالم في لحظة تواطؤ من الأب. ونجد سناء زوجة مراد التي تمثل المرأة القاسية والتي تستلذ بجنون مراد وتعلقه بها. وكذلك الأم «زين» هي أيضاً تمارس التسلط على الأب. وفيما عدا شخصية أم مراد والتي تحتفظ بمنزلها في وسط جدة. لتكون شاهدة على الإرث الجداوي الذي يأبى الزحف إلى الشمال. وبالرغم إهمال ابنها العميد لها. إلا انها لا تكف عن سلاطة لسانها كلما حضر ابنها لزيارتها. وهي التي خصص لها ابنها مبلغ ثلاثمائة ريال في كل شهر وترك لها العامل الهندي مستور يتولى رعايتها في ذلك المنزل المهجور. كذلك المراهقة ناهد ابنة العميد تمارس ذات العبث مع مراد وترهقه برسائل الهاتف التي تكشف الذات المراهقة لتلك الشخصية والعابثة التي لا تكف عن إرسال سيل من المسجات لتدخل مراد في دوامة أخرى. الشخصيات الذكورية في الرواية تعيش حالة من القلق. من التعلق الفنتازي بالمرأة. مراد لا يكف عن مطاردة سناء لتعود إليه. وخاله العميد لا يتخلى عن سطوة زوجته مرام فهو بعد أن يطلقها لارتكابها الخطيئة يعيدها إليه. وانتجت تلك الحالتان من التعلق الطفولي بالزوجة حالة من الحب المرتبكة التي استطاعت المؤلفة أن تجعلنا نعيش عذاباتها وضياعها من خلال السرد. ويظل السؤال قائماً: هذه الرواية التي استثمرت رسائل الهاتف النقال، والشخبطة على الجدران. ورسمت صخب جدة وضجيجها. حتى تجعلك تشتم رائحة جدة. لماذا وجدت الصمت. ومن هي هاجر المكي!! وهي التي كتبت الرواية بهذه الاحترافية. كيف لم يتعرف عليها أحد حتى الآن وهل هاجر المكي هو فعلاً اسم حركي كما تهامس به العدد القليل.. ممن قرأ رواية «غير.. وغير» وأن الرواية لمؤلفة أخرى لها حضورها في المشهد السردي. تظل الأسئلة مفتوحة لعمل روائي عميق ما زال مغيباً عن الجدل وعن الحضور في المشهد الثقافي بما يتناسب مع جرأته في الكتابة وفي التكنيك الذي ربما فاق في جرأته سقف الرواية المحلية.