لا يمكننا أن نتحدث عن تاريخ الشعر المعاصر في المملكة العربية السعودية دون الولوج إلى عالم (الزهراني) الشعري ولغته المستقرة في منطقته "الأعْراف" بين جدلية (الشعر والسرد)، (المنطقي واللامنطقي)، (الوجود والعدم) / (الخوف والفرح) / (القلق والثبات)، وغير ذلك من المفارقات التي تسكن جوهر الشعر ولغته لديه، ومن ثَمّ، فستكون المفارقة هي أولى المحطات التي ستأخذنا إلى هذا العالم الشعري عند أحمد قران. أولا: المفارقة / الثنائيات الضدية: تتميز البنية السردية العادية بنمط المفارقة، حيث يعتبرها النقاد المحدثون أم السرد – على حد تعبير الأستاذ الدكتور صلاح فضل – حيث يقول "يبدو أن المفارقة – وهي أم السرد – تفرض نفسها على الصورة، إذ تقوم بين المستوى الذهني المتخيل، والواقع المباشر المجرد"، والمفارقة عند الفيلسوف الوجودي الكبير (كير كجارد) "أسلوب متفوق ينظر إلى الأساليب العادية باستعلاء وترفع، إذ يوصل بعيدا ويتم في دوائر عليا". وتختلف (المفارقة) عند الشاعر من كونها تضادا لفظيا أو شكلا بلاغيا حيث تتم داخل النسيج الشعري بشكل أعمق؛ لترصد أشكالا من الاضطراب الداخلي والتوتر على مستوى الشكل والمضمون، فيقول الزهراني في وصف (القصيدة): القصيدةُ نافذةُ الروحِ قول الحقيقة في موطن الشك صوت الملائك في غسق الفجر طعم الأنوثة في مبتدا الليل معنى الطفولة سرُّ الغياب الحضور ..(لا تجرح الماء) فالقصيدة تقع بين حالتين، القصيدة هي "ذنب حلال"، "شيخ يبيع السلاف المعتق في حانة الشعر"، القصيدة / الأنثى / الحياة، فقد امتدت صورة (الثنائيات الضدية) من المستوى اللفظي نحو المستوى الدلالي من السطح للعمق، ومن ثمَّ تقود القارئ إلى تقنية أخرى من تقنيات السرد ألا وهي (كسر أفق التوقعات)، حيث يقرُّ المنطق بعدم وجود الضدين معا، وعدم ارتفاعهما معا، غير أن النسق الشعري المائل نحو اللاتقليدي يمتد أثره لأكثر من المفردة نحو الدلالة، ففي قصيدة (لا تجرح الماء)، - وبعد تجاوزنا المفارقة بين الجرح المعنوي والحسي - نراه يجمع الأضداد في أنثاه الأسطورة إذ يقول: لا أنتِ ..... أنتِ ولا كف يشبه كفيك ضدان .... شح وجود وتمعن مفارقة السرد، حيث تسكن الحكاية، لتسبح في العالم الكوني نحو فلسفة الوجود، ففي قصيدة (نسوة في المدينة) يقول: وجهان، وجه يراك كما أنت في الظل مستوعبا حالة اللاخلود.. هنا أو هناك ووجه يراك نقيضك لا فرق بين الشبيهين ملتبس وشفيف فالوجه واحد، نشأت جدلية رؤيته من حالة المتلقي نفسه، كالشمس حين تغيب عن وطن لتشرق في آخر، والقمر حين تختلف وجهته، وهذا يؤدي دوره في اللغة السردية، حيث يعبر عن حالة دلالية، قد لا ترى الأمور في صحيحها، فينتج عنها دور في نمط الحكي المائل نحو السرد ويؤدي دوره في نسق الحكاية. ثانيا: التناص نشأ (التناص) في أساسه من منطلق روائي، حيث كانت رؤية (كرستيفا) مبنية على حوارية (باختين) "والتي تقيم الدليل على الرواية باعتبارها مهيأة مسبقا ببنيتها الخاصة، لدمج عدد كبير من المكونات اللسانية والأسلوبية والثقافية المختلفة على شكل تعدد الأصوات". والمقصود بتعدد الأصوات هنا تلك الحوارية مع مفردات خارج النص وإعادة استدعائها والمحاورة معها، وتلك التقنية امتدت بكثافة نحو الشعر المعاصر بصفة عامة، وشعر (أحمد قران الزهراني) بصورة خاصته، حيث تتم المحاورة في شكل أكبر من الاستدلال نحو التوظيف السياقي الذي يعيد إنتاج الدلالة، فيقول في قصيدته (عبث)، فقد بنى (الزهراني) نسيجه السردي على التراث التاريخي والديني باستدعاء أدوار أبطال حكايته كمسوغ دلالي منقول لنسج جديد، فقد حوّل الدلالة نحو حكايته هو، حيث جعل من نفسه بطل الحكاية الذي يجمع بداخله أيضا حالة الارتباك الداخلي بين الرغبة والفعل، بين المنطوق والمسكوت عنه، بين الإقدام والإحجام في نمط شعري حكائي بآن. ويقول (الزهراني) في قصيدته (قيظ) من ديوانه (بياض): لقد عزني في الخطاب له مهجتان وسبع وسبعوووون لي واحدة وعند تجاوز الاستدعاء القرآن اللغوي حيث نجد لغة النص القرآني حاضرة بأغلب اللفظ والدلالة، فقد استقل (الزهراني) الحضور اللغوي نحو نمط سردي جديد موظف في نسج يخص قصيدته هو، لا سواها. ثالثا: تيار الوعي وتعدد مستويات السرد يعد (تيار الوعي) تيمة سردية، تعتمد تعدد مستويات السرد القائم على تعدد المستويات ما بين السارد الحقيقي والسارد التخيلي، ما بين المونولوج الداخلي ذلك "التكنيك" الذي يكشف الحوار الذهني للشخصيات، ومناجاة النفس، وكل ما يسلم بوجود جمهور حاضر ومحدد يسوق الكاتب إليه لغته، وعند مقاربة لغة (الزهراني) الشعرية سنرى مشاهد سينمائية حكائية تعتمد الزمان والمكان والصورة والوصف والشخوص والأحداث في صورة درامية بالغة الحضور، فالشاعر يوجه لغته لمتلقين، فيحكى عن حضور/غياب بالنص مستحضرا أصواتهم سردا، ممعنا في قوانين الحكاية. وهنا يكشف ما خلف الظاهر ويشرك المتلقي معه في الأفكار التي لم تخرج على الورق بالسطح، الواصلة بالعمق، وكذلك يستدعي (الزهراني) مستويات الصوت وتقنيات التشكيل البصري. كنتُ .. أستصرخ يا اااا حادي حروفي حقيقة الوقوف عند لغة الشاعر مرهقة ممتعة في آن غير أن من الصعب الكشف عن كل أبعاد لغة السرد لديه في مقال واحد، ولا يعيب مطلقا أن يقترب الشعر من السرد في ظل عولمة الأجناس الأدبية وتماهيها طالما لا تمس جوهر لغة الشعر، وصوره، وروحه، فتضيف دون أن تخل بالبناء الرئيسي كمكمل لشهوة القراءة، التي تستغرق وتستنطق إمكانات التلقي حيث متعة الصورة الشعرية الذهنية والبصرية، واللغة السردية والشعرية واستغلال الكامن في اللاوعي والوعي، ومن المعروف أن أغلب شعر (الزهراني) ينتمي إلى شعر التفعيلة، ولم يتخل عن روح السرد بكامل صورته بما فيها شكل الكتابة، حيث تأتي مقطوعات نثرية خالصة - وهي قليلة لحد كبير - كما أنه لم يتخل عن الصورة الرسمية العمودية مدعما حركتها ومجددا فيها، وأخيرا نراه يقدم "كولاج" لأكثر من نمط شعري حيث يمزج العمودي بالنثري دون أدنى شعور بتلك الرحلة الممتدة من أعلى الجبال لأرحب السهول.