خبير سيبراني: تفعيل الدفاع الإلكتروني المتقدم يقي من مخاطر الهجوم    «هيئة العقار»: 18 تشريعاً لمستقبل العقار وتحقيق مستهدفات الرؤية    مقتل 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    الأهلي يضمن الثالث.. الحزم يحرج الرياض.. التعاون رابع الكبار    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    تنظيم جديد لتخصيص الطاقة للمستهلكين    «التعليم».. تكشف شروط نجاح الطلاب والطالبات بجميع المراحل    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    طبخ ومسرح    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    زيارات الخير    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    النقطة 60 كلمة السر.. من يرافق القادسية لدوري روشن ؟    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    مواقف مشرّفة    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    ضبط أكثر من 16 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    «باب القصر»    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    جماهير المدينة (مبروك البقاء)!    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    المملكة رئيسا للمجلس التنفيذي للألكسو حتى 2026    نيابة عن ولي العهد.. وزير البيئة يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    إسرائيل تواجه ضغوطا دولية لضمان سلامة المدنيين    التخصصي: الدراسات السريرية وفرت نحو 62 مليون ريال    "إرشاد الحافلات" يعلن جاهزية الخطط التشغيلية لموسم الحج    توطين تقنية الجينوم السعودي ب 140 باحثا    نعمة خفية    البحث العلمي والإبتكار بالملتقى العلمي السنوي بجامعة عبدالرحمن بن فيصل    قائد فذٌ و وطن عظيم    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيف سان لوران والفنان آندي وارهول
الحلقة الثانية:
نشر في الرياض يوم 06 - 12 - 2014

سبق وأن ذكرت في المقالة السابقة بأن علاقة إيف سان لوران بالفن لم تكن علاقة عارضة وإنما كانت انتماءً حقيقياً عميقاً، فلقد أنفق كل ما كسبه على شراء الأعمال الفنية، ويذكر بأنه وحين بشره بيير بورجيه بأنه قد كسب 340 مليون يورو، هتف لوران "أووه بوسعي الأن أن أشترى عملاً للفنان روثكو".
ويوجه فيلم "ايف سان لوران" الضوء على الصلة العميقة التي قامت بين إيف سان لوران والفنان الأمريكي آندي وارهول، الذي اشتهر كملك للبوب آرت.
فبينما قضى سان لوران طفولته يصمم الأزياء لأمه وشقيقتيه، كان "وارهول" يعاني في طفولته من مرض في الجهاز العصبي يسبب ارتعاشات لا إرادية لنهايات الأعصاب، مما أسهم في عزلته عن رفاقه بالمدرسة، وقضائه جزءًا من طفولته في سريره مريضا، يرسم منصتاً للراديو، ومحوطاً فراشه بصور نجمات السينما، وهو الأمر الذي يؤكد بأنه قد كان حاسماً في صياغة شخصيته الفنية.
فلقد أحدث وارهول هزة في عالم الفن برسومه الدعائية التي تناولت أيقونات ممثلة للمجتمع الأميريكي مثل ورقة الدولار، والكرسي الكهربائي والغيمة الهيدروجينية والكوكا كولا، وعلبة الحساء الشهيرة (حساء كامبل) التي نفذها بالطباعة المتكررة (سيلك سكرين)، وعرضت ضمن المعرض الشهير باسم "سوبر ماركت أميريكي 1964"، والذي نفذه ستة من أهم فناني البوب آرت حينها.
كلاهما كان يطلق عليه لقب (كووول) بمعنى عصري متفوق وطريف، و كان لوران المصمم الوحيد الذي يظهر في النوادي الليلية، وخاصة النادي المعروف باسم (نادي سبعة) والذي يرتاده "وارهول" مع "بالوما بيكاسو" للعشاء كل ليلة.
رجاء عالم
ويعرض الفيلم في رسالة موجهة من وارهول للوران يقول له فيها، "نحن الأن قمتان عملاقتان في عالم الفن، أنت على شرق المحيط الأطلسي وأنا غربه.."، ويضيف "ربما ينبغي أن تصمم زياً بعلبة حساء كامبل بينما أنجز عملاً فنياً من أزيائك".
ولقد أنجز وارهول بورتريهاً صورة شخصية لسان لوران عام 1962 وهي معلقة بمكتب سان لوران بالطابق الأول من بيته الشهير في 5 أفينيو مورسو، ويقال بأن وارهول وأثناء مهاتفته لسان لوران وحين شعر بأنه ليس على مايرام، سارع لاستقلال الطائرة، وقطع المحيط الأطلسي لفرنسا لزيارته، وأنجز أثناء زيارته تلك رسماً لكلب سان لوران وأهداه إياه، بينما أضاف لوران رتوشاً لذلك الرسم، في حوار حميم بين اثنين من أهم عباقرة العصر، ولقد استمر بينهما ذلك التعاطف العميق والإعجاب المتبادل بل وتماهي دوريهما في النضال لتمثيل العصر الذي عاشاه.
تتساءل ما الصلة التي يمكن أن تجمع إبداع هاتين القمتين الفنيتين؟ فإيف سان لوران كان أول من استخدم قماش التويد الصوف الخام في أزياء النساء، وابتكر القصات الحادة والثياب الرجالية للمرأة وبذلك حررها من صورة الدمية المزركشة والمقيدة بالمشدات.
بينما وارهول بدأ مسيرته الفنية كرسام للإعلانات الدعائية، وهي عبارة عن تخطيطات بالحبر العريض، ولقد طبعها في كتيبات صغيرة بأسماء طريفة، مثل كتيب (يم يم يم) عن الغذاء، و(هو هو هو) عن عيد الميلاد، و(بالطبع: أحذية أحذية أحذية)، ولعل أهم كتيباته هو (الكتاب الذهبي عن رسومات حسية لشبان يافعين)، وإن عروض الأزياء الأقرب للمسرحية والتي نظمها سان لوران، تذكر بالأفلام التي أخرجها وارهول، مثل فيلم راعي البقر الوحيد، تعبر كلاهما عن تعقيدات الرغبة، وهي كتب حررت الفن من صورته الأكاديمية.
وصلة وارهول بأصدقاء من مصممي الأزياء معروفة، و يقتبس عنه قوله: "أنا أُفَضِّل شراء ثوب وتعليقه على الحائط بدلاً من شراء لوحة فنية".
وتناولت عروض وارهول للأزياء ثياباً نسائية منفذة على الشاشة الحريرية، سيلك سكرين، كما عمل لفترة قصيرة كعارض أزياء، وقام بوضع كتب عن الموضة بل ورسم مواضيع الأزياء كالأحذية، التي كانت أحد مواضيع لوحاته وحققت له الشهرة المبكرة في الخمسينيات، وعرف وارهول مثله مثل سان لوران كرمز للمتأنق المعاصر، والذي تتعزز سلطته بحضوره ومظهره أكثر من كلماته.
وتنوعت إبداعاته من الفن والرسم للموسيقى للأعمال الدعائية وتأليف الكتب والنحت والتصوير الفوتوغرافي، والطباعة على الحرير، وامتدت للسينما ولقد أنتج مابين 1963-1968 ما يقارب ال60 فيلماً، بالإضافة ل500 بالأسود والأبيض، ولقد ترك بصمته على كثير من فناني عصره مثل الفنان باسكيه، وعلى حركة الانطباعيين الجدد والترانس آفون جارد. فلقد قبض وارهول على روح الحضارة الأميركية، وجاء في أحد تعليقاته قوله: "أنا أحب لوس أنجيلوس، أحب هوليود، أنها جميلة جداً، كل شيء فيها من البلاستيك، لكنني أحب البلاستيك، وأريد أن أكون بلاستيكا".
ولقد مر كلاهما بمرحلة فضائحية لوران في مجموعته عن الحرب العالمية التي استلهم فيها مواضيع الحرب وأثار بها صدمة، وأيضاً مجموعته (جاهزة للارتداء) في عرض الأزياء الذي تم في نيويورك 1987 حين عرض ماقيمته مائة ألف دولار من الجاكيتات المرصعة بالمجوهرات للاستعمال اليومي، وذلك بعد أيام قليلة من كارثة انهيار البورصة الأميريكة والانتحارات التي أعقبتها فيما عرف بالاثنين الأسود، وذلك يستدعي للذاكرة أعمال وارهول في الستينيات وتغييره لمفهوم الفن عموماً في العالم؛ مبدعان حالمان ولكأنما يعيشان في عالم عاجي لا تمسه الكوارث التي تصيب الآخرين، واستمرت حياة لوران عاصفة، وخصوصاً في مجموعة أزياء ربيع 1971، والتي وصفت بكونها تسترجع برومانسية فترة احتلال ألمانيا لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما مثلت السبعينيات مرحلة الهدوء النسبي لوارهول حيث انشغل فيها برسم بورتريهات المشاهير المعجب بهم، مثل بورتريه ماوتسي تونج وشاه إيران محمد رضا بهلوي وزوجته فرح بهلوي ومحمد على كلاي وماك جايقر وجون لينون وديانا روس وليزا مانيلي ومارلين مورنو وإليزابث تايلور وغيرهم.
أما الثمانينيات فلقد كانت مرحلة النجاح لوارهول على المستوى المادي وعلى مستوى النقد المتناول لأعماله، مثله كإيف سان لوران الذي بلغ في هذه الفترة مرحلة نجاح وطيد، إذ انه وبإطلاقه العطر أوبيوم عام 1977 تحول لنجم، وأدى هذا النجاح إلى دخول لوران مرحلة اعتزال المجتمع واستغراقه الكلي في الفن، وكما يصفونه، فلقد صار شديد الحساسية، مثل الإسفنجة سريعة الامتصاص، لذا صار يحتاج لإحاطة ذاته بكل ما هو متفوق، الأدب المتفوق، الموسيقى المتفوقة، الفن والرقص المتفوق، والتي كانت له مثل الغذاء الروحي، كان بحاجة للجمال لأن القباحة تؤلمه"، وكان يقول: "الانسجام يهدؤني، بينما عدم الانسجام يقودني للجنون". كان جوعه للفن وسيلة للبقاء، وهذا يفسر شراهته للاقتناء، فمن ضمن مقتنياته مئات الأعمال الفنية لمشاهير قمم الفن مثل بيكاسو، ومونخ، وماتيس وسيزان وجياكومتي وبراك وبرانكوزي وجوجان وبول كلي، جمعها مع شريكه بيرجيه خلال نصف قرن، ولم يكن خلالها يقتني من رغبة في الاستثمار وإنما ليكون قريباً من الفن الذي يحبه ويتغذى عليه. كان مثل شاعر يعاني انهياراً عصبياً لفرط شاعريته، ولقد أحب الجمهور ضعفه وهشاشته تلك، ولقد تناوشته الاضطرابات العاطفية.
الأكيد أن وارهول وسان لوران قد تشاركا الغرابة، فكلاهما كانت غايته الفنون الجميلة، وانتهى أحدهما للخياطة ولتصميم الأزياء والآخر لدراسة الفن التجاري في معهد كارينجي للتكنولوجيا.
ورغم اختلاف شخصيتيهما واستجابتهما الاجتماعية إلا أن كلاهما كان بحاجة لبطانة حامية، فلقد تغذى وارهول على شهرته اجتماعياً و فنياً، وصار ظاهرة، محوطاً نفسه بفنانين عززوا مكانته كملك لفن البوب، واشتهر بمحترفه المسمى بالمصنع (فاكتوري)، والذي تحول لنقطة استقطاب للفنانين المجددين، وصار مصنعاً حقيقياً لتخريج الصرعات الفنية، وأجوائه المنفتحة، فمثلا ابتدع وارهول ظاهرة طريفة تعرف بالشبح البوال، وتتلخص في أن ينتج وارهول لوحات من النحاس ثم يدعو أصدقاءه خصيصاً للقيام بجولة للتبول على تلك اللوحات حيث إن النحاس يتأكسد بتأثير البول، ويقدر وارهول مساهمة صديقه روني كترون البولية كثيراً لأن فيتامين ب الذي يتناوله ويختلط ببوله يعطي للتأكسد الذي يميل للإخضرار لمعة جميلة!، وعرفت تلك المجموعة باسم لوحات البول، وتحولت لرمز لما يتحقق في ذلك المحيط الحر، والذي يحفز على الابتكار خارج الأطر، وإنتاج كل ما هو صادم ومذهل فنياً، لقد أخرج وارهول الفن من جديته كما أخرج إيف سان لوران المرأة من فكرة الدمية المزركشة الهشة.
كلاهما عاش نجاحاته، فلقد كان سان لوران أول مصمم أزياء يكرمه متحف الميتروبوليتان للفن بنيويورك وهو لا يزال على قيد الحياة وذلك بتنظيم معرض شخصي لأزيائه 1983، ولقد منحه جاك شيراك وسام شرف 2001، اعتزل بعدها عام 2002، ليمضى بقية حياته في شاتو جابرييل بالنورماندي برفقة كلبه الشهير موجيك، البيت الذي صمم ديكوراته جاك جرانج مستوحياً مارسيل بروست الذي كان سان لوران معجباً به، وبالذات حجرة النوم في كتابه "تذكر الأشياء الماضية". بينما عاش وارهول نفوذه الفني لأقصاه في السبعينينات والثمانينيات وذلك رغم النقد الذي وجه لأعماله بكونها مصطنعة وبأنه فنان تجاري، لكن ذلك النقد الحاد ساهم في فرضه كظاهرة مغيرة، حيث اجتمعت حوله حاشية من أهم الفنانين والكتاب والموسيقيين حينها، ووصف بعض النقاد أعماله بأنها: "أروع مرآة صورت هذا العصر".
ولقد اختلفت استجابتهما للشهرة، يقول بيرجيه في رسالة لوارهول عن سان لوران: "لقد صار سان لوران موضوعاً جذاباً لصحف الفضائح التابلواد، مصمم أزياء مثل مصارع ثيران، مثل راقصة أو مغنية، بمعنى صار نجماً". هذه الشهرة كانت الغذاء والشراب لوارهول بينما كانت عذاباً لسان لوران الذي يكره الإعلام ويكره أن يسلط عليه الضوء، واعتزل بشقته في بابيلون ولمدة عشرين عاماً لم يخرج ولا حتى لحديقتها.
تصفه إحدى المقربات إليه بقولها: "كان سان لوران لماحاً، طريفاً، لكنه لم يكن يملك موهبة السعادة، لقد كان يعاني اكتئاباً عميقاً"، وبيير بيرجيه كان شخصية الأب الذي يحمي ويحقق المستحيل في حياته وحول موهبته الرقيقة لإمبراطورية مالية ضخمة، وبسبب هشاشته فلقد بدأ سان لوران كمن يحتاج لحماية اجتماعية لذا فلقد أحاط نفسه ببطانة أو بعصابة صغيرة من ذوي الجمال واللمعة واللماحة والصدى الاجتماعي الرنان.
توفي وارهول عام 1987 بسكتة قلبية بعد عملية في المرارة، و صدقت نبوءته حيث كان يخاف المستشفيات ويتوقع أن يُهمل فيها ليموت، وهذا ما حدث فلقد ترك ليموت مختنقاً في نومه بالسوائل التي تجمعت في رئتيه، وقام أهله برفع دعوى إهمال على المستشفى كسبوا منها تعويضاً كبيرا، وتدهش للمفارقة حيث انتهت حياة وارهول بتعويض مادي كما بدأت حياة لوران بتعويض مادي.
في جنازة وارهول ألبس بذلة من الكشمير الأسود، وباروكة شعر فضية ونظاراته الشمسية، ممسكاً في يده بوردة حمراء مع الكتاب المقدس، وكانت يوكو أونو زوجة جون لينون من المتحدثين في تأبينه، ولقد تليت صلاة قصيرة، بعدها أهبط لقبره وألقوا على تابوته بنسخة من مجلة الأنترفيو وقاروة من عطر إيستي لودر (بيوتوفيل)، ودفن إلى جوار أمه وأبيه المهاجرين من سلوفاكيا.
أما إيف سان لوران فقد ختم حياته محوطاً بعناية شريكه بيير بيرجيه. فكما قام بتمريضه في أول حياته حين عاني من الجندية فحين أبلغه الطبيب أن سان لوران لن يصمد لأكثر من أسبوعين، ترك بيرجيه كل شيء متفرغاً لتمريض صديقه وشريكه حتى فارق الحياة بين يديه، متوجاً أربعين عاماً من الشراكة الروحية والعملية، شاركه الإبداع والحياة، والتزم كلاهما خلالها بدوره لا يتجاوزه، يصف بيرجيه تلك الشراكة: "كان بيننا شبه حائط برلين فلا اخترقه للتدخل في تصاميمه ولا يخترقه للتدخل في الشؤون المالية والاستثمار بشركتنا".
يرعى بيير بيرجيه إرث سان لوران بحماسة من يرعى إرثاً ذاتياً، لكأنما يواصل بيرجيه تقمص سان لوران حتى بعد وفاته وذلك لكي يخلد هو ذاته ولا يموت، ولقد ساهم في تتظيم معارض عالمية لعرض تلك الأزياء، وكذلك في دعم بعض الأفلام التي صورت عن لوران، مما يجعلك تشعر أن بيرجيه محبوس في لحظة زمنية مضت، لحظات مجد سان لوران في السبعينات، لا يزال يحافظ على الاستديو الذي عمل فيه لوران كما تركه يوم اعتزاله وقبل وفاته بست سنوات، حين كان في الحادية والسبعين عام 2008م، ولايزال يحفظ الثمانية آلاف ثوب من المجموعة الكلاسيكية الأصلية في أرشيف خاص، ينفض عنها الغبار ويبقيها متألقة في مؤسسة سان لوران بأفينيو مارسو بباريس، ويعيد تمثيل عروض الأزياء الماضية ويركبها كمن يركب لحظة من الماضي في أفلام حديثة متعددة، يوفر للممثلين الأزياء من هذه المجموعة العريقة، ويشترط في استعمالها شروطاً صارمة، فيشترط بيرجيه أن يختار لها عارضات الأزياء بمواصفات دقيقة، فلا يسمح للعارضة بالجلوس حين ارتدائها للزي، وينتقي لها مكياجها وتسريحة شعرها، وتدرب للسير أثناء العرض بطريقة خاصة بما يتلاءم وروح المجموعة وخاصة مجموعته المسماة (أوبرا باليه روسي) عام 1976، والتي عرضت في فندق الويستن والذي كان يعرف بالأنتركونتيننتال حينها، وهي المجموعة التي شكلت نقلة في تاريخ لوران، باستيحائها لأجواء الشرق وحرائره الزاهية الألوان، وجاءت فيما يشبه الانفجار الإبداعي بعد ما أوشكت مخيلة سان لوران على النضوب نتيجة لمآسيه الشخصية وفشله في الحب، ولقد انتشلته تلك المجموعة من اليأس العميق، والذي يبدو أنه قد دفعه لأعماق من الألم انفتح من خلالها على جذوة كمينة للإبداع في ذاته.
وحين عرض بيرجيه مجموعتهما الفنية النادرة للبيع بالمزاد لم يستعمل العائد النقدي لنفسه بل استثمره في تمويل مؤسسة سان لوران والإبقاء عليها حية فاعلة حضارياً، لأن المؤسسة لا تزال تمول برامج لمكافة الإيدز وتدعم المسارح وتنفق على مشاريع حضارية مختلفة، فهي ليست مؤسسة راكدة تحنط مجموعته الفنية فقط.
جهود بيرجيه تماثل جهود المؤمنين بفن وارهول من عائلته وخارجها، فلقد قامت مؤسسات متحف كارنيجي بالتعاون مع مؤسسة ديا آرت ومؤسسة وارهول للفنون البصرية، بتكريس متحف خاص بوارهول يجمع أعماله وذلك في بيترسبرج بنسلفانيا 1994، ويضم مجموعته الفريدة، وينظم لأنشطة تفاعلية مع فن وارهول ويتبنى التجارب الحديثة ويزوره مايزيد عن المئة ألف زائر سنوياً، وهو أكبر متحف بالولايات المتحدة مكرس لفنان واحد، ويضم 17 قاعة عرض تحوي 900 لوحة فنية، 2000 عمل على الورق، و77 منحوتة، و4000 صورة فوتوغرافية، و4350 فيلماً سينمائياً أخرجها وارهول.
وتعززت شهرة وارهول بعد وفاته كمدرسة، ولقد بيعت لوحة وارهول اصطدام سيارة فضية من مجموعته المعروفة باسم موت وكارثة بمبلغ 105 ملايين دولار عام 2013 في مزاد ثوذبي للفن المعاصر.
واختتم سيرة هذا العبقري ايف سان لوران الذي منح الموهبة الفنية لكنه لم يملك موهبة السعادة بمقولته في خطاب اعتزاله: "لقد مررت بالكثير من العذابات، وبالعديد من أصناف الجحيم، لقد عرفت الخوف، والوحدة المهولة، الأصدقاء المخادعين والمهدئات والمخدرات، السجن القاتل الذي هو الاكتئاب، وكذلك مصحات الأمراض النفسية. اعتزل كل ذلك الآن".
ولد سان لوران ومات بهذه العذابات والاكتئاب المزمن، وتوصل خلال نجاحاته وصراعاته لإدراك أن الشهرة هي بالنهاية لعبة فارغة، فرقعة نارية تمحو النشوة المؤقتة القصيرة التي كان يشعر بها لحظة انتهاء العرض، حين يسير على خشبة المسرح متلقياً تصفيق الجمهور الواقف إعجاباً، بعدها ينتهي الرجل وينتهي كل شيء.
حضر تأبين سان لوران مشاهير مثل الرئيس جاك شيراك وفرح بهلوي ونيكولا ساركوزي وزوجته كارلا برونتي، ولقد أُحرق جثمانه، ونثر رماده في حديقة قصره الشهير ماجوريل في مراكش بالمغرب، الواحة التي طالما زارها مستلهماً بهاء نباتاتها وزهو شمسها والتركيبات الجريئة لألوان ثياب نساء البربر في جبال أطلسها والتي جعلته ينتخب كأعظم مصمم بذوق مميز للألوان في القرن العشرين، ولقد قال شريكه بيرجيه في تأبينه: "ولكنني أيضاً أعرف بأنني لن أنسى أبداً ما أدين لك به، وبأنني يوماً ما سألحق بك تحت ظلال النخيل المغربي".
ويبقى الإرث والأثر ويصنع التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.