(وما الدهر والأيام إلاَّ كما ترى رزية مال أو فراق حبيب).. وفاة بعض البشر لا تترك جزعًا، أو مساحة حزن سوى لدى الأهل والمحبين، حتى وإن بلغوا أرفع المناصب، وفي المقابل فإنَّ وفاة البعض الآخر تشكّل فراغًا في كل الوطن، وتتسع مساحة الحزن لتتجاوز السواد الأعظم من الناس، كالراحل الدكتور محمد عبده يماني، نصير الفقراء، وداعم المحتاجين، وكأنَّ “الخنساء” كانت تقصده بأبياتها التالية، وليس أخاها صخرًا حينما قالت: (يحمله القوم ما غالهم وإن كان أصغرهم مولدا جموع الضيوف إلى بابه يرى أفضل الكسب أن يحمدا). تلك الجموع التي جاءت لتشيّعه، وتلك التي جاءت للتعزية فيه، لم تكن سوى شاهدة على سماحته، وبره، وكرمه، ونجدته، ووفائه، وصِلاته، فكم داوى من جروح، وستر من بيوت، وأغاث ملهوفًا، وسدّد من ديون، وعالج من مرضى!! لم يغرِه بريق كرسي الوزارة، تربّى على يديه العديد من المسؤولين -بصفته مربيًّا- قبل أن يكون وزيرًا، علّمهم (التواضع) فارتفعوا مصداقًا للحديث الشريف: “مَن تواضع لله رفعه”. هذا العزيز الراحل الذي توسدت محبته قلوب كل العارفين له، والملتصقين به، والمدينين بفضله، كان أيضًا عزيزًا على الوطن الذي أخلص له وتفانى في حبه، وإن كان المواطنون قد أظهروا محبتهم للراحل العزيز من خلال تهافتهم على سرادق العزاء، فإن الوطن أظهر له هذا الحب من خلال الزيارة الكريمة التي قام بها سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني وزير الداخلية، وثنائه عليه، وقوله -حفظه الله- (لم نكن نرد الفقيد في أي طلب يتقدم به إلينا؛ كونه عزيزًا علينا، ولا يأتينا إلاَّ بالصواب)، وذلك يؤكد وقوف الراحل على أبواب المسؤولين بغية قضاء حاجات الناس، وإيصال أصواتهم إلى ولاة الأمر . لقد كان -يرحمه الله- (مكتب اتصال) يستقبل هموم وآلام العامة، ويصدرها إلى مَن يرى أنهم جديرون بحلها. زرته مرة في منزله بصحبة أخي وصديقي الأستاذ عبدالله العمري، وكنتُ يومها رئيس تحرير مجلة اقرأ المكلّف، وسألني: ما هي أخبار مرشحي اقرأ؟ فقلت له: “العلم عند الله”. فردَّ عليَّ -رحمه الله- قائلاً: “شوف يا ابني: المرشحان المنافسان لك يحظيان بدعم بعض الشخصيات النافذة، وأسأل الله أن يكتبها لك، إن كان لك خير فيها، أو يصرفها عنك إذا كان غير ذلك” فقلت له: أمّا أنا فقد توكلت على الله، فرد: خير من توكلت عليه، وبعد أشهر من ذلك اللقاء، وبعد صدور قراري رئيسًا للتحرير، فوجئت باتصال منه، هنأني فيه وقال: أرأيت نتيجة مَن يتوكل على الله؟. ومن مواقفه -رحمه الله- التي تؤكد حرصه على أبنائه الإعلاميين، وقمة تواضعه، أذكر أنه صادف أن التقيته في مطار الدوحة، وبصحبته معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة، والدكتور عايض الردادي لحضور مؤتمر وزراء الإعلام العرب، وقال لي: “يالله معانا إذا ما معك سيارة”.. فأوضحت له بأنني سأتأخر في المطار بسبب أن حقيبتي لم تصل على الطائرة، والأمر يحتاج إلى عمل بعض الإجراءات الخاصة بفقدانها، فما كان منه إلاَّ أن طلب من مستقبليه العناية بي، وبالفعل خصصوا لي سيارة خاصة طوال إقامتي في الدوحة لتغطية المؤتمر. لنتلفت من حولنا.. هل هناك من يتصف بتلك السماحة وهذا التواضع، وبهذه الأخلاق؟ رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.