حقًا المستقبل إنجاز.. قبل ست سنوات تقريبًا وقفت هنا تحت سقف هذا الفندق منصتًا بمزيج من الإعجاب والإحباط في نفس الوقت إلى رجل جاء إلينا من بلد بعيد... بلد كان سكانه البالغ عددهم 27 مليون نسمة يعيشون في الغابات بدخل فرد لا يزيد على 1000 دولار سنويًا... بلد كان يعاني من مشكلات اقتصادية وصراعات عرقية حادة فجاءه هذا الرجل ليحقق له إنجازًا يشار إليه بالبنان. فقفز بدخل الفرد فيه إلى 16 ألف دولار وأوصله إلى أن يكون رابع قوة اقتصادية في آسيا. وقفت كمواطن عربي متسائلًا بإعجاب وإحباط: كيف استطاع مهاتير محمد تحقيق هذا الإنجاز الاقتصادي التنموي؟. ولماذا عجز العرب عن فعل شيء من كل ذلك رغم كل ما لديهم من ثروات وقدرات وإمكانات؟ وجاء رده من تجربته قابلًا للتلخيص في عبارة واحدة: إنه بناء الإنسان مسلحًا بقوة المعرفة والتعليم.. وقوة العدالة والحرية. وقفت كأي مواطن عربي تحاصرني كثير من علامات الاستفهام والتعجب، إلى أن وقع في يدي هذا الكتاب الرائع الذي أجزم بأنه أفضل وأقرب ما قرأت إلى نفسي وإلى التعبير عن همومي وتطلعاتي ووضع إجابات لكل ما يجول بخاطري من علامات الاستفهام والتعجب تلك. إنه كتاب (المعرفة قوة والحرية أيضًا) للدكتور فهد العرابي الحارثي، والذي لم يكتف بتشخيص الحالة العربية وما تعانيه من أمراض جسدية ونفسية في ثلاثة عشر فصلًا و 620 صفحة من القطع الكبير.. لا تشعرك وأنت تقرأها بالملل ولا بالكلل. كتاب موثق يتميز بمنهجية عالية مدعمة بالأمثلة والأرقام التي تكسبه مزيدًا من المصداقية. وهو بذلك بحق إضافة قيمة للمكتبة العربية. انظروا مجددًا إلى التجربة الماليزية في التنمية وإلي الكيفية التي تعاملت بها مع الإنسان ومع التعليم ومع الحرية، ثم أقرءوا هذه العبارات المعبرة التي يقولها الدكتور الحارثي في كتابه: أن العرب على غزارة ثرواتهم تعاني أكثر مجتمعاتهم أسوأ وأرذل أنواع الفقر لأنه فقر القادرين على الثراء فيما لو قدر لهم أن يبنوا تصورًا أكثر صلابة للمستقبل... المستقبل المبني على العلم والمعرفة... وإضافة إلى الفقر فإن من المشكلات المتصلة بوجود العرب أنهم عملوا دائمًا على تقزيم الحرية وشيطنتها وأبلستها.. وجعلوها ذات مخالب وأنياب سامة ومميتة.. هم اعتبروا الديمقراطية مرضًا ينبغي تحاشيه وإذا مارسوها أو اقتربوا منها فهي تجيء مشوهة حافلة بالعلل والزيف ما يدفعها إلى أن تكون على عكس غاياتها مصدرًا للصراعات والاقتتالات والفتن. ويخلص الكتاب إلى أن التحديات التي يواجهها العرب كثيرة وكبيرة والمشكلات عميقة ومبهته، وهي كلها تتلخص في أن هناك تغيرات حثيثة ومتوثبة ومذهلة في هذا العالم يقابلها عند العرب سكون مطبق وجمود مدلهم. لا تكفي الدقائق الثمان التي منحنى إياها الدكتور فهد للحديث عن هذا الكتاب وكاتبه، فكلاهما يحتاج إلى ساعات طويلة لإيفائه حقه من الحديث. فالدكتور فهد الحارثي مثقف عربي متيّم بالإتقان والإبداع: أبدع في اختياره وجهة السوربون عند طلبه للعلم. أتقن وأبدع في قيادته لمجلة اليمامة فعاشت تحت رئاسته أبهى عصورها. أتقن وأبدع حين كلف بتأسيس صحيفة الوطن.. وها هي الوطن اليوم تتحدث عن نفسها. أتقن وأبدع خلال عمله عضوا لمجلس الشورى لثلاث دورات. أتقن وأبدع بتأسيسه وقيادته لمركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام فجعل منه أحد ابرز مراكز الأبحاث في المنطقة. أتقن وأبدع في مؤلفاته العديدة التي اتسمت جميعها بقوة الطرح والجراءة والمنهجية العالية. وأخيرًا أقولها مستبقًا الأحداث.. بأنه وبحول الله سوف يتقن ويبدع كعادته في مهمته الحالية لإعادة تأسيس جريدة الندوة الملكية. الكلمتان ألقيتا في حفل تدشين كتاب “المعرفة قوة.. والحرية أيضًا” الذي أقامه مؤلفه الدكتور فهد العرابي الحارثي فيقاعة القصر بفندق جدة هيلتون مساء الثلاثاء 18 ذوالقعدة 1431ه الموافق 26 أكتوبر 2010م.