ارتباط المنصب بمفهوم المسؤولية عاملٌ أساسيٌّ في الحفاظ على التوازن السياسي في أي مكان، لأن فقدان الارتباط المذكور يهزّ المشروعية، ويؤدي دائمًا إلى التخبّط والفوضى. خطر في بالي موضوع هذا المقال، وكتبتُ فقرة واحدة منه يوم الخميس السادس من أكتوبر عام 2005. ففي ذلك اليوم قدّم مايكل هاورد، زعيم حزب المحافظين البريطاني استقالته من رئاسة الحزب أمام مؤتمره العام، بعد أن خسر الحزب الانتخابات العامة في تلك السنة. وفي معرض تبريره للاستقالة قال: «حين تخفقون في الحياة الحقيقية، فمن المحتمل أن تفقدوا وظيفتكم.. ولهذا السبب أقدم استقالتي». هكذا، ببساطة وعفوية، اعترف الرجل أنه أخفق، وأن النتيجة الطبيعية لهذا الإخفاق تتمثل في أن يبادر لمغادرة منصبه بنفسه. شعر أنه كان المسؤول عن قيادة حزبه للنجاح في الانتخابات، فرأى من المنطق أن يتحمّل مسؤولية الخسارة، بدل أن يبحث عن الأعذار، مع أن إيجادها ممكنٌ على الدوام، ومع أنها قد تكون مشروعةً وحقيقيةً في بعض الأحيان. لم يعد ثمّة مجالٌ للمقارنات في مثل هذا الموضوع بين ما يجري في عالَمٍ يحترم نفسه، وما يجري في معظم أرجاء الوطن العربي. ولو أن الأحداث التي جرت من المحيط إلى الخليج خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط حدثت في مكانٍ آخر من العالم لرأينا مسؤولين ووزراء يستقيلون بالجملة في المجالات ذات العلاقة، من الرياضة، والثقافة والإعلام، إلى المالية والاقتصاد، مرورًا بالبلديات، والتخطيط، والإعمار، وغيرها.. الطريف أن زعيم حزب المحافظين المذكور استلم قيادة الحزب لسنتين فقط، ومع ذلك كان يرى نفسه، وكان الناس يتوقعون منه، أنه المسؤول عن النجاح والفشل. لم يستلم الرجل منصبه منذ عقدٍ أو اثنين، أو حتى ثلاثة كما هو الحال مع الكثير من رؤساء أحزابنا العربية العتيدة. لم يكن وزيرًا مؤبدًا أمامه سنوات وسنوات يستطيع أن ينجز فيها شيئًا يلمسه الناس في حياتهم اليومية. لم تكن لديه فسحةٌ سياسية ليأخذ فرصةً بعد الأخرى، عسى أن يغتنم ولو واحدةً من كل تلك الفرص، فيقوم بتغييرٍ يُحسبُ له بشكلٍ من الأشكال. كان أمامه سنتان ليقوم بمهمته، وعندما أخفق اعتذر من الناس، ثم فتح الباب، وغادر منصبه ومكتبه إلى غير عودة. قد يستقيل المسؤول في الغرب أو الشرق في مرحلةٍ من المراحل حتى لو كان ناجحًا، لإعطاء الفرصة للدماء الجديدة أو لأي سبب آخر. لكن الواقع يقول إن الساسة والمسؤولين في كل مكان ليسوا من جنس الملائكة، فالكثير منهم يتمسّك بمنصبه وميزاته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. غير أن الواحد منهم يستقيل بالتأكيد إذا أخفق في تأدية واجبه، أو حين تظهر خيانته للأمانة بأي طريقة. منذ أسبوع على سبيل المثال، استقال وزير العمل الألماني من منصبه لسببٍ يجدر أن يكون محلاً للتأمّل. فقد كان الرجل قبل ذلك وزيرًا للدفاع، وحصل أن قائد إحدى القواعد العسكرية الألمانية في أفغانستان طلب تدخلاً جويًّا في مواجهةٍ مع حركة طالبان في شهر سبتمبر الماضي، وخلال ذلك التدخل مات قرابة ثلاثين مدنيًّا من المواطنين الأفغان. كشفت صحيفةٌ ألمانية أن التحقيق كان يجري في الموضوع، وأن الوزير لم يُفصح عن تقارير عسكرية تُشير إلى تلك الحقيقة. فماذا كانت النتيجة؟ استقالة الوزير ونائبه، ومعهما قائد هيئة الأركان المشتركة، أي أعلى مسؤول عسكري في ألمانيا! المنصب الحكومي مسؤوليةٌ قبل أن يكون أي شيء آخر. وارتباط المنصب بمفهوم المسؤولية عاملٌ أساسيٌّ في الحفاظ على التوازن السياسي في أي مكان؛ لأن فقدان الارتباط المذكور يهزّ المشروعية، ويؤدي دائمًا إلى التخبّط والفوضى. ولأن هذا المفهوم غائبٌ إلى درجة كبيرة في هذه البقعة من العالم، فإن ثقافة الاستقالة من المنصب الحكومي نادرةٌ في بلاد العرب. من المؤسف طبعًا أن نضطر إلى استعارة الأمثلة والشواهد من الغرب في هذا المجال. لأن مفهوم المسؤولية ركنٌ أساسيٌّ من أركان الثقافة الإسلامية والعربية الأصيلة، التي تؤكد دائمًا على أن المنصب هو تكليفٌ قبل أن يكون تشريفًا، وعلى أنه أمانةٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ تبقى في عنق حاملها إلى يوم الدّين. بل إن ما يلفت النظر في تلك الثقافة تأكيدُها المتكرر على أن الله يغفر لمن يُخطئ في حقّه، أمّا حقوق الناس فإنها لا تسقط عن كاهل مَن يهضمها مع تقادم الزمن، ولا مع الوفاة، ولا مع أي شيء آخر. هنا يُصبح مفهوم المسؤولية نابعًا من داخل الإنسان، ومُنسجمًا مع شعوره بقيمة أخيه الإنسان، وحرمة دمه وماله وعرضه وكرامته، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعة البشرية. ورغم أهمية أنظمة المحاسبة والمتابعة والرقابة في ضبط مسؤولية صاحب المنصب، إلاّ أن إيمانه بتلك المعاني الأساسية هو العنصر الأقوى في ضمان التزامه بمقتضيات مسؤوليته. لأن أكثر الأنظمة صرامةً لا يمكن أن تضبط إنسانًا يريد أن يخون الأمانة في معزلٍٍ عن ذلك الإيمان. لكن المفارقة أن غياب ثقافة الاستقالة بالنسبة للمسؤول العربي مرتبطٌ بوجود تلك الثقافة لدى المواطن العربي. فعندما يستقيل ذلك المواطن من الحياة العامة بكل ما في هذه الاستقالة من معانٍ معروفة، فإنه يُقرُّ الواقعَ الموجود من حوله بلسان الحال، مهما ساءت درجة ذلك الواقع، وفي كلّ مجالات الحياة. أمّا حين تصبح الاستقالة ثقافة سائدةً في المجتمعات والشعوب في أي زمانٍ أو مكانٍ، فإن التاريخ يُخبرنا أنها هي التي تُحدّد مصيرها، وتُقرر ما سيكون عليه حاضرها ومستقبلها في قادم الأيام. * كاتب عربي