كنت أنظر إليها باستمرار أحاول أن أجمع عناصر وأسس تلك الشخصية التي تفرض نفسها على من حولها، وتصل إلى العقول والقلوب والجوارح بلا استئذان.. كثيراً ما تساءلتُ: ما الذي تملكه هذه المرأة لتكون كالأستاذة في الفصل وهي تلتقط أوائل وتفاصيل الحديث، حيث لا تجعل لنا مجالاً إلا أن نكون التلميذات اللواتي لا بدَّ أن يصغين باهتمام؟! وكلما حاولت إحدانا مقاطعتها في الحديث زجرتها الباقيات، وكأننا كنا نخشى أن تضيع منا بضع لحظات دون أن نتلمذ جيداً ليدي تلك المرأة التي وإن كانت تقضي معظم وقتها في آخر حياتها في بيتها إلا أنها كانت لا تشعر بالوحدة أبداً؛ لأنها كانت قصد الصديقات ومحجة المحبات. لا أقصد أنها كانت راوية ومحدثة، وإن كان حديثها فينا لا يخلو من الأمثال والحكم والسِّير وفواصل التاريخ التي كانت تنتقيها بإتقان. ليس هذا المقصود فحسب، لكنني أقصد تلك العزيمة التي وهبها الله إياها لترتسم على شخصيتها حتى أهَّلتها لتكون سيدة قبيلتها، فتدخل لفض النزاعات، وتنجح في ذلك غالباً، وتضع نقاط الحقوق على حروفها، وتنتصر لأصل تلك الحقوق، وتنتزعها ممن غالها، ولا تترك في نفس الظالم قبل المظلوم غلاًّ عليها أو تذمراً من سلطتها. كانت صريحة واضحة في الرأي والمشاعر، لا تعرف المماراة والموارة، لا تجامل في حق أو موقف، بل كانت تتخير مواقف العز فتقتنصها، وتجدُّ في الوصول إلى غايتها منها لتظل في عيون النساء والرجال سيدة الموقف والمرأة التي تتداولها الألسن في نبل من الحديث، وفي شرف من السلوك. لقد كانت تفزع إلى كل من يلجأ إليها ملهوفاً، وكم مدت يد عزيمتها لتحرير النفوس من حولها من ضغائنها، كل ذلك وغيره لم يشغلها عن أن تكون الأم المربية المراقبة المؤثرة في تفاصيل حياة أبنائها وأحفادها وأبناء أسرتها، بل إنها كادت تكون المرجع الأول لكل هؤلاء عند أي موقف أو محطة في مفردات حياتهم. كانت كريمة في يدها.. بشوشة في وجهها، تتقن استقبال قاصديها مثلما تتقن وداعهم وتضفي في كل الحالات جواً من الحشمة والكرامة في مجلسها، وحتى لحظة نزاعها كانت تلهج بالدعاء والذكر وتصبر على ألا تخسر أحداً ممن حولها. هكذا كانت فوزية الفقير (أم فيصل) - يرحمها الله - قبل أن ترتد أمانة كاملة إلى بارئها عز وجل الأربعاء الماضي، دون أن تفقد ذاكرة أو حساً، ومن غير أن تقعد عن واجباتها الاجتماعية والأسرية حتى اللحظة الأخيرة. أكاد أرى أثر الفقد على وجوه الجميع من رأس قبيلتها التي نعتها بعنوان: الابنة البارة، إلى أصغر أحفادها الذين شعروا بفقدان امرأة مؤثرة كانت دائمة الوجود في نفوسهم، وستبقى كذلك في ذاكرتهم. رحلت حفيدة (الرحيّل) وتركتنا نرنو إلى مجلسها بهيبة واحترام، وإلى مواقفها بإكبار واعتزاز. رحلت الجدة والعمة والخالة والأم وتركتنا جميعاً أيتاماً من مرجعية مركبة تمثلت في امرأة واحدة. حين كنا نجلس حولها وحواليها لم يكن يخطر ببالنا أنها سترحل ذات يوم.. هكذا ينظر الناس إلى من يحبون ويجلُّون، وهكذا يرون القدوة من حولهم، وخصوصاً إذا عبرت تلك القدوة محطات واسعة في دروب الحياة.. بعدما قاربت (أم فيصل) - يرحمها الله - على معانقة القرن من عمرها رحلت؛ لأن الناس كلهم يرحلون، وما هذه الحياة إلا قيلولة صغيرة في ظلٍّ ذات يوم قائظ. والحصيف المؤمن المرجّع هو الذي يغتنم كل لحظة في هذه الحياة للتقرب إلى الله بالعمل الصالح، ثم إلى من حوله بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة. هذا الموت درس لمن أراد أن (يختبر) الحياة، ولمن لم (يذاكر) جيداً للآخرة...