هناك اتجاه متزايد نحو استخدام لحم الجمل أو الحاشي تحديداً، ولا أدري والله ما هي درجة الحاشي في الجمال (بكسر الجيم) فهي مثل الخراف والأغنام لها درجات، لكنني - وهذا عيب بدا لي متأصلا - لم آلف لحم الجمل، والسبب يعود إلى عدة ترتيبات، سوف أبدؤها من المدينةالمنورة، حيث اعتدت منذ وفاة والدي في العام 1386ه أتعهد حاجات الأسرة، وهذا التعهد جعلني أغشى (خان الجزارة) يومياً، لأمر في هذه الزيارة اليومية، على الجزار وبائع الخضار والنعناع والليمون، وكنت آخذ من كل واحد منهم حاجة منزلنا ليوم واحد، وحالما أنتهي من هؤلاء، أمر على بائع الخبز لأخذ أرغفة الغذاء، وهذا المشوار كان يتكرر صباحاً، باتجاه الفوال وبائع الخبز، ومساء باتجاه الخبز والجبن والزيتون، أما اللبن الرائب والحليب الذي يستخدم صباحاً ومساء فإن عنز الدار كانت تتكفل به على الدوام. وكان في الخان جزار لطيف، ولن أدخل في ذمته، هذا الجزار كان يسألني برقة، حالما أقف أمامه، لأطلب منه (ربع وثمن لحمة!) - تخيل الدقة والحرص في ذلك الوقت - يسألني قائلاً: - هاه يا وليدي ايش خضرتكم اليوم؟ وكلما قلت له عن الخضار الذي سوف اشتريه، كان يعطيني قطعة اللحم من مكان مختلف، ولم تسألني أمي يوما عن هذا الجزار، ولم تبد تذمرها أو شكواها من اللحم الذي أجلبه منه، وهو ما كان مصدر شك لدي، فقد كان الناس يشتكون من الجزارين الذين يسوقون لحماً قديماً، أو يطففون في الميزان، أو يزيدون نسبة العظم والشحوم، وقد قدرت أن صغر سني، كان يعفيني من تقريع أمي أو التدقيق في ما أجلبه لها! وأترك الجزار ومقاضي منزلنا الصغير، لأقف على الممر الكبير في (خان الجزارة) فقد كان يضم على جانبيه العديد من المحلات التي يعلق أصحابها في مقدمتها لحوم الخراف، وهناك جزار أو اثنان، كانا يعلقان جزءاً من جمل، وجزار وحيد في آخر الخان، كان يعلق أيضاً جزءاً من بقرة أو عجل أو حسيل (اعذرونا على هذه التقسيمات) هذا التنويع كان يعكس مدى إقبال أهل المدينة على لحم الجمال، بل إن هناك العديد من الناس، لديهم وسواس تجاه لحم الجمل، فقد درج بعضهم على ذبح جمل، في مناسبات الأفراح خصوصاً، تقليلاً للتكلفة المادية، وكانت مثل هذه الوليمة تشهد انصراف بعض المدعوين عنها أو الاكتفاء - درءاً للشك- بأكل الأرز.. وكان هناك رجل خير كلما أراد أحد من أقراننا إبعاده عن لحم الخراف، يقولون له وهم معه على المائدة: - يا عم! الذي على هذا الأرز لحم جمل! وكان يرد بكبرياء: - مشكورين! ويقوم حالاً من على السفرة! ولا أدري الآن ما هو تبريرنا لتلك القسوة مع رجل بسيط، وكثير الحياء، للحد الذي يجعله يتنازل عن وجبة دسمة، يعرف يقيناً إنها لا تحتوي على لحم جمل! وقد دارت الأيام ونسيت (الحاشي) وانصراف أغلب الناس عنه، حتى جمعتني الظروف في العام 1394ه برجل من خيرة الناس ووجهائهم في حائل فدعاني للعشاء، ورغم أنني لا أتذكر المناسبة التي جعلتني أمام وليمة الحاشي وجها لوجه، إلا أنني أذكر ذلك السماط الطويل الذي مد لنا، وكان يتوسطه جمل كامل، أي والله، جمل كامل، وقد مد المدعوون أيديهم في وسطه، منهم من مدها برقة ونعومة، ومنهم من مدها بعنف، وكانت درجة قوة مدة اليد تقاس بالصيد الذي تعود به من داخل الحاشي، وقد مددت يدي معهم، لكنني عجزت عن الظفر ولو بقطعة صغيرة من ذلك اللحم، لقد كان قاسياً بحق، لكنني، وأنا في غمرة البحث عن قطعة لحم، وجدت أن بطن الجمل بدأ يعلن عما بداخله دجاج ومكرونة ومكسرات وأرز، ذلك لم يكن جملاً.. كان مغارة! وكنت أتوقع أن يحصل أحدهم من بطنه على بط وديك رومي وخرفان! وقد انتهت تلك الوليمة الكبيرة دون أن أحظى ولو بقطعة من لحم الحاشي. بعد تلك الحادثة قر في ذهني أن لحم الجمل يحتاج إلى يد سميكة وأسنان سليمة، ليتمكن الراغب فيه من التمتع به، أما أنا فقد تذكرت زهدي الشديد في اللحوم كلها، لكن الفضول ومنظر الجمل، كان سبباً في خوض تجربة لم تثمر عن شيء! وأبقى مع لحم الجمل الذي أصبح يحظى الآن بإقبال شديد، لقلة شحومه ولفوائده المتعددة، التي اكتشفت ليس في الجزيرة فقط، ولكن من قبل العديد من المراكز العلمية، وهذا ما جعل الأسر تتجه إليه الآن. وقد بدأت بتجربة لحم الحاشي، لأنهيها بالعديد من الصفات التي جعلت الناس - القادرين خصوصاً - يتعلقون بالجمال، وأنا أعرف صديقاً يهوى تربية الجمال، وكان يقطع عدة كيلومترات يومياً، ليتفقد عدة جمال، هيأ لها مكاناً ورعاة في الصحراء، ولم يكن يهدف من تربية الجمال المكسب أو مغنم لكنه العشق.. وقد قيل: (إن الإبل تشارك صاحبها الخوف، فإذا خاف اضطربت، وإذا ما شعرت بحاجة أهلها للرحيل، خوفاً من خطر مقبل (شنفت) آذانها ومدة أعناقها، تتحسس مصدر الخطر، ووجهته وأسرعت المشي للرحيل، وأحياناً تجدها تنذر أهلها بالخطر والرحيل قبل وقوعه لأنها إذا أحست به نهضت، واتجهت بأعناقها جهة العدو المهاجم، وتبدو عليها الاضطرابات فيدرك صاحبها أن هناك عدوا مقبلاً فيستعد له). والجمل هو الحيوان الوحيد القادر على السير في أقصى الظروف المناخية، وهو لا يحتاج إلى الماء كثيراً حتى سمي بسفينة الصحراء، أما أكله فإنه يتدبره من أي مكان.. حتى ضرب به المثل في الصبر.. لكن هناك من يقول: إن الجمل لا يترك ثأره. لقد ساهمت الطفرة المادية في تعبير أبناء الجزيرة العربية عن حبهم للإبل، فأصبحوا يربونها ويهيئون لها الأماكن اللائقة، وهم فوق ذلك كله يقيمون لها المهرجانات، حتى بلغ سعر بعض الابل آلافاً من الريالات لكيلا نقول الملايين...!