المعيقلي في خطبة عرفة: الحج ليس مكانا للشعارات السياسية ولا التحزبات.. مما يوجب الالتزام بالأنظمة والتعليمات    الأمير عبدالعزيز بن سعود يقف على سير العمل في مركز القيادة والسيطرة لأمن الحج    ألمانيا واسكتلندا يقصان شريط منافسات يورو 2024    الاتحاد يخطف قائد ريال مدريد من النصر    وزارة الداخلية تصدر قرارات إدارية بحق (18) مخالفًا لأنظمة وتعليمات الحج    وزير الإعلام يتفقد مقار منظومة الإعلام بالمشاعر المقدسة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يؤكد اعتزاز المملكة بخدمة ضيوف الرحمن    مسعى أمريكي لتجنب حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله    الحجاج يتوافدون إلى عرفات لأداء الركن الأعظم    الأجواء المناخية بطرق المشاعر المقدسة    رجل أمن يحتضن الكعبة.. خدمة وشوق    سويسرا تحتضن قمة دولية حول أوكرانيا    يوم اليتيمة و الخُلّيف..أبرز العادات عند سيدات مكة في الحج    أبحاث تؤكد: أدمغة الرجال تتغير بعد الأبوّة    «الصحة» تُحذر الحجاج من أخطار التعرض لأشعة الشمس من الساعة 11 صباحاً حتى 4 مساءً    3 مناطق تكثر فيها الإصابات الحرارية أثناء الحج    الصحة الفلسطينية: توقف 32 مستشفى عن العمل من أصل 34 في غزة    انضمام مسؤول استخباراتي سابق إلى مجلس إدارة شركة Open AI    جبل عرفات..من الناحية الجيولوجية    الرئيس المصري يزور المتحف الدولي للسيرة النبوية    تعرّف على درجات الحرارة المتوقعة في مكة والمشاعر المقدسة    الرئيس الشيشاني يصل إلى المدينة المنورة    نائب أمير مكة يتابع أعمال الحج والخدمات المقدمة لضيوف الرحمن    اكتمال جاهزية إيصال ترجمة خطبة يوم عرفة لمليار مستفيد    مركبة ذكية تتأكد من بيانات وتراخيص شركات الحجاج    تنظيف وغسل 120 مصلى وجامعا في بريدة استعدادا لصلاة العيد    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    السعودية تتسلم علم استضافة أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025    النيابة العامة تطور جهاز ترجمان لترجمة مجريات التحقيق خلال موسم حج 1445ه    طيران الأمن يُسخر إمكاناته لخدمة الحجيج    حجاج صندوق الشهداء والمصابين والأسرى والمفقودين يحطون رحالهم في منى    مصادر «عكاظ»: الشهري يدرس عروض أندية «روشن»    مركز العمليات الأمنية ل«عكاظ»: نرد على المكالمات في ثانيتين    2000 إعلامي من 150 دولة يتنافسون في الأداء    «SSF» قوات النخبة.. تدخل سريع للحماية والتأمين    أفضل أداء أسبوعي للنفط في شهرين    «السيادي السعودي» يعتزم الاستثمار في الهيدروجين الأخضر و«المتجددة»    «النقد الدولي»: سياسة السعودية الاقتصادية تدعم النمو غير النفطي    عرفة البيضاء.. تتهيأ لأضخم تجمّع بشري    النائب العام يجري جولة تفقدية على مركز القيادة والتحكم للإشراف المباشر على أعمال النيابة العامة بالحج    حجاج بيت الله يؤدون الركن الأعظم    «قوات المجاهدين».. انتشار على سفوح الجبال    4 أطعمة مناسبة أثناء تناول حقن التنحيف    40 عاماً لتخطي سوء معاملة طفل !    الأولوية لفيرتز    افتتاح قصير ل«يورو 2024» وتكريم بيكنباور    ألمانيا تدك شباك إسكتلندا بخماسية في افتتاح اليورو    إصابة لابورت قبل انطلاق يورو 2024    الأخضر تحت 21 عاماً يخسر من بنما بركلات الترجيح في بطولة تولون الدولية    فيلم "نورة" من مهرجان "كان" إلى صالات السينما السعودية في رابع العيد    120 مليون نازح في العالم    المملكة من أكبر المستثمرين في الطاقة النظيفة    خارطة طريق فرنسية لاحتواء التصعيد في جنوب لبنان    الرئيس المصري يغادر المدينة المنورة    صحفيو مكة يشيدون بمضامين ملتقى إعلام الحج    بوتين يحذر من الفوضى ويضع شروطا للسلام مع أوكرانيا    هدايا بروح التراث السعودي لضيوف الرحمن    العيسى: تنوع الاجتهاد في القضايا الشرعية محل استيعاب الوعي الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في فراق الشيخ مستور البقيلي - رحمه الله
نشر في الجزيرة يوم 05 - 08 - 2020

نشأت كغيري من لداتي ونحن لا نعرف غير هذا اللقب كان شيخاً بحق، بعلمه، ووقاره وهيئته، وهدوئه، وحلمه. مذ عقلت الدنيا وأنا أشاهد هذا الشيخ بشكل مستمر. لم تكن القرابة بينه وبين والدي هي ما يجمعهما فقط، بل كان الذي يجمعهما -رحمهما الله - شيء أكبر من ذلك. إن تقارب الأرواح مع اختلاف الطباع شيء عجيب، يدل على أن القلوب بيد الله. أظن أنني وقد جالستهما وحيداً عامة طفولتي وصدراً من شبابي، قادر على أن أقول بكل ثقة: إن الهم المشترك والفضول العلمي؛ من أعظم ما يؤلِّف بين القلوب ويربط بين الأشخاص. وهكذا كانا - رحمهما الله- فمجالسهما المنفردة متمحضة للمعرفة والعلم، فهذه قراءة في سيرة ابن هشام، وتلك مراجعة في زاد المعاد، وابن كثير كان حاضراً باستمرار إما من خلال تفسيره أو بدايته ...
وبصدق كان الجزء الممتع لي هو حديثهما المسهب عن التاريخ القريب (زمناً ونسباً) وتذكّرهما الأنساب المشتركة والقرابات المتداخلة، والقصائد والأشعار، وإن كنت أسفت على شيء؛ فهو ندمي على ما بخلت به الذاكرة أو أعياها استرجاعه، وقد كان بإمكاني حفظه في قرطاس لا يبخل أو يعجز. المؤكد أن النصح الشفوي والحديث المباشر مهما كانت درجة حسنه؛ ليس بأكثر فائدة من القدوة والأسوة، وأزعم أن مما أثَّر في نفسي وأنا طفل صغير؛ رؤيتي لهذا الشيخ الجليل الذي يحمل درجة الماجستير في الفقه المقارن ويشغل منصباً عدلياً مهماً، وهو مع ذلك يستزيد في طلب علم جديد، أذكر أنه في عام 1407ه التحق بدبلوم عال في علوم القرآن وما يتعلَّق به مما لم يكن مقرراً على من يتخصص في الفقه، ومع إمكانية اطلاعه على هذا الفن قراءةً وبحثاً، إلا أنه اقتطع من وقته أربعة مساءات أسبوعياً لمدة أربعة فصول دراسية ليلتحق بهذا الدبلوم وليتعلَّم هذا الفن، وربما كان بعض المحاضرين أصغر منه سناً وأقل منه درجة علمية، ولم يكن يأبه بذلك أو يلقي له بالاً، وأذكر جيداً أنه ربما ناقش كثيراً من هذه المسائل مع أبي -رحمهما الله- وقد جعلها في كراسات ودفاتر منمّقة أرجو أن تكون محفوظة لدى أولاده -حفظهم الله-. وكأني به يطبِّق مقولة البخاري - رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عن من هو فوقه ومثله ودونه).
في أحد (الرمضانات) شرفت بصحبتهما -رحمها الله - إلى مكة لأداء العمرة، وكانت أول عمرة أعقلها، وكنت قريب العاشرة من عمري، فأذهلني حرصهما على تطبيق السنة ابتداءً من التلبية غير المنقطعة بمجرد المرور على الميقات حتى كادت الطائرة ترتج تلبية، ومروراً بالحرص على سنن الطواف من الاضطباع والرمل. وأذكر أنني سألت أبي -رحمه الله - ونحن نسعى عن أمر متعلِّق بالتوسعة التي كانت على وشك الافتتاح فأجابني أنه سوف يخبرني بعد الفراغ من العمرة، ومباشرة التفت إلي الشيخ مستور - رحمه الله- وقال يخاطبني كأني رجل عاقل: لا ينبغي أن تقطع سلسلة الذكر والدعاء بينك وبين ربك. لم أزل أذكر هذه الكلمة وقد مرت أكثر من ثلاثة عقود عليها، فلا تحتقر كلمة توجهها لطفل أو نصيحة تقدّمها المراهق؛ على أن يكون فعلك مطابقاً لقولك! كل من يعرف الشيخ -رحمه الله- يدرك مباشرة حسن خلقه ومبلغ حلمه، لكن كل من أدرك المصيبة التي نزلت بساحته يوم أن فقد في يوم واحد اثنين من أبنائه في شرخ الشباب وقوة الفتوة، هما زينة الشباب في وقتهما حسناً وبهاءً وخلقاً وذكاء؛ فإنه سيرى للشيخ وجهاً آخر جديداً، ألا وهو الصبر.
فما زلت أتذكَّر بغصة عصر ذلك اليوم الكئيب الذي هُرعت فيه لمغسلة الأموات بالدريهيمة، لأتفاجأ بخروج الشيخ من المغسلة متوضئاً بعد أن لفَّ الأكفان على فلذة كبده، لا أنسى ما حييت حين هممت بتقبيل رأسه بعينين دامعتين وقلب فارغ وصوت يتهدّج من البكاء، وهو يتكلَّف الابتسام ويطرد عنه أثر الحزن حتى ليخيل للأحمق أن الشيخ ليس بحزين! ويزداد الصابر عند ربه درجة فيكون الرضا منزلته التي يرتضيها له ربه الذي نحسب أنه رضي عنه، حين يخرج من دفن إبراهيم لزيارة عبدالمحسن فيجده قد رحل إلى ربه، يا الله كأني أنظر إليه الآن بعد ربع قرن حين دخل مجلسه ونحن جلوس ليخبر بوفاة عبدالمحسن وهو يأمر بقول: لا إله إلا الله! ومن يطيق ما أطقت أيها الشيخ إلا الصديقون. أجزم - وكثير ممن يعرف الشيخ -رحمه الله - يجزم بذلك أنه لم يسلم من عواقب ذلك الحزن الذي كان يكتمه ويأبى أن يظهره، وفضَّل أن يقتدي فيه بيعقوب فلا يشكوه إلا إلى الله {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ}، كم مرة خلال أيام الحزن تلك هاجت به الذكرى فخرج من المجلس مندفعاً لا يلوي على شيء ليخلو بربه.. وحزنه.. ودمعه..
أما أمام الناس فهو يستحيي من ربه أن يظهر انكساراًً لهم وهو يعلم أن هذا قدر الله.. يا لها من درجة لا يصل إليها إلا الموفّقون.
ومرة أخرى يأتي دور القدوة العملية، فكان هذا الشيخ الجليل يعطينا دروساً عملية في الحياة والإيمان؛ إذ لم تمر أيام معدودات حتى رُزئنا نحن والشيخ بوفاة أبي -رحمه الله- وإذ بالشيخ حاضر في جلده وصبره ورضاه وسكينته، وإذا بصاحبه يُدفن بجوار ابنيه. وكأني الآن أستعيد صوت الشيخ حين نزور قبورهم المتجاورة: (أبي وجدتي أم سعيد وعبدالمحسن وإبراهيم - رحمهم الله)، إذ كان يقول: عائلة كاملة. وأحسب أن الله أحب لعبده مستور درجة فوق ما نتصوره فزاد من ابتلائه تمحيصاً وتطهيراً ورفعة للدرجات كما نظن بربنا الكريم؛ فتوالت عليه الأسقام وهو يتجاوزها بالقلب الصابر واللسان الذاكر والوجه البشوش والتسليم والرضا. نعم، لقد تغيَّرت حركة الشيخ لكن قلبه لم يتغيَّر.. إن كانت الصلاة قبل في قلبه فقد ملكت عليه بعد تعبه نفسيته كلها، فازداد بها وبالمسجد والقرآن تعلّقاً، ولقد أمر بعض أبنائه يوماً بالتوقف عند جامع لم ينته بعد من صلاة الجمعة مع أنهم قادمون من الجامع المجاور بعد أدائها. ولم تزل حال الشيخ كذلك متعلِّقة في شيبتها بما ألفته في شبابها؛ حتى غلبه ما لا قدرة لمخلوق على دفعه، وإن لكل أجل كتاباً، وكل مخلوق فانٍ، فاختار الله وديعته واسترد أمانته ليلة أول جمعة من عشر ذي الحجة، تماماً كصاحبه قبل ربع قرن.
آن لك أن تستريح يا أبا عبد الرحمن، ستلتقي بالأحبة إن شاء الله، ستزول عنك مصائب الدنيا ووعثاؤها وشدائدها وغربتها، كأني أنظر إليك تتبوأ بيت الحمد في جنان الخلد إن شاء الله لتجد ابنيك في استقبالك هناك مع الملائكة الكرام، ستلتقي صاحبك فتتذكران أيام الدنيا، ستلتقي إخوتك الذين سبقوك فيهشّون لك ويسرّون بقدومك، ستلتقي والدتك التي توفيت شهيدة (بجمع) والتي كنت تذكر لي قصة وفاتها فتسيل دموعك من خديك المتلألئين بنور الصلاح على لحيتك المليئة وقاراًً الشاهدة على شيبتك في الإسلام وتوقيرك للسنة، ستلتقي والدك الذي كنت معه حين وفاته وأنت تقرأ عليه سورة يس وتحتسبه عند الله. لئن كان أبناؤك وأهلك بك رحماء، وكانوا قد استفرغوا الوسع والطاقة فبذلوا لك من البر والعناية والاهتمام ما أنت به حقيق؛ وما هم به جديرون؛ فإننا جميعاً قد أسلمناك لأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ربما ابتأسنا نحن، أما أنت وأمثالك: فإلى روح وريحان ورب راض غير غضبان.
** **


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.