لا أستطيع أن ألوم لبنانياً واحداً يريد أن يرى زوايا مشرقة في وثيقة حزب الله الثانية. وأستطيع أن أفهم تلك النصوص الكثيرة اللبنانية خصوصاً التي استطاعت أن تجد محاور إيجابية بخاصة وإنها قارنتها بالوثيقة الأولى الصادرة قبل ربع قرن تقريباً. حق اللبنانيين أن يتفاءلوا كما يتفاءل البشر في عز الأزمات ومنهم الفلسطينيون الذين يبقون على تفاؤل ما رغم انسداد الأفق خصوصاً في ما يتعلق ولو راهناً بانقسام قضيتهم في الفكرة والمشروع والجغرافيا والعمق الاستراتيجي. وحقّنا أن نشرّق ونغرّب في قراءة الإشارات في الوثيقة المذكورة ودلالات النص الحزب اللهي بالنسبة للبنان والفلسطينيين والمنطقة وأبعد. صدق من أشار إلى أن الوثيقة تُتقن خطاب فترة الحرب الباردة وتنسخها على الصدام الحاصل والمرشح للتصعيد بين أميركا والغرب وبين الجمهورية الإسلامية في إيران. فعلى رغم أن الوثيقة تقف بإسهاب عند تراجع المشروع الأميركي والهيمنة و «الاستكبار» إلا أنها تعدّ اللبنانيين وغيرهم لصراع لا ينتهي على غرار صراع الآلهة اليونانية النازعة إما إلى الفناء أو إلى الإفناء. وهي في هذا المستوى لا تعكس النفس الحزب اللهي بقدر ما تعكس النزعة الإيرانية الراهنة التي تجسّد اندفاعاً نجادياً خامنئياً محموماً إلى استباق الزمن خصوصاً أن معارضة إيرانية جدية واسعة بدأت تتبلور على رغم القمع والسجون والعنف. فباعتقادنا أن الوثيقة تشي بأن السياسة الإيرانية تقوم حالياً على استثمار التحولات في السياسة الأميركية التي قرئت على أنها تراجع وانكفاء لدفع مساعي فرض الهيمنة الإيرانية إلى آخر مدى ممكن. بل أن الوثيقة توضّح في نصّها وإيحاءاتها ولهجتها أن وجهة النظام الإيراني والجيوب العسكرية والإرهابية المرتبطة به هو نحو مزيد من الضغط على المشاريع الأميركية وإرباكا لها واستثماراً لتعثرها في العراق وأفغانستان وغيرهما من مواقع لا سيما على الجبهة الاقتصادية. والأمر ذاته ينسحب على المحور مع إسرائيل في جبهتين الفلسطينية واللبنانية. وهنا لم تكرّس الوثيقة خطاب ما يُسمى ب «المقاومة» ولا فرق هنا بين كونها إسلامية أو شعبية فحسب بل أولوية هذه «المقاومة» على الدولة، أيضاً. فمن العجب العجاب أن تضع الوثيقة 17 شرطاً لقبول الدولة سيادة وقراراً فوق قرار الحزب والطائفة. وليس صعباً أن نكتشف مما جاء في باب الحديث عن الدولة أن الولاء الأول والأخير هو ليس للبنان، وإن جملت العبارات وتجمّل المتحدث وجامل على طريقة العُربان، وإنما لمشروع خامنئي يفترض حزب الله أنه انتصر وأنه سينتصر لا محالة! فإذا بنص الوثيقة أطروحة متعوب عليها تبرّر بقاء توازن القوى في لبنان ووضع الدولة والعلاقات بين شركائها على ما صاغه حزب الله كجزء من الرؤية الإيرانية القائلة بالاستفادة من كل حالة تهلهل عربية في هيكلة الدولة وصراعات القوى فيها والتركيبة الطائفية في بلد ما والتوترات وما إلى ذلك لغرض تكريسها أدوات وأوراق لعب ضمن المشروع الإيراني، وهو مشروع هيمنة ونفوذ ومصالح وأيديولوجيا وليس هياماً بعيون العرب أو ذوداً عن حياض القدس ومآذنها. وهو واضح وضوح البديهي وإن اتخذ البعض هيئة الجدّ في المناقشة. هكذا تقول تجربة الدول والعلوم السياسية والجيو سياسية والعلاقات الدولية وما تراكم من تجارب تاريخية. ومن هنا، فإن حزب الله المعتقد أنه المنتصر على كل الشركاء والخصوم في لبنان يكرّس ربط لبنان الدولة والمقدرات بالمشروع الإيراني رضي من رضي وطقّ من طقّ! فهو يُدرك تماماً ما آلت إليه توازنات القوى في لبنان وأنها فرصته الذهبية لتشديد القبضة على الدولة واحتمالات تطورها معافاة ومؤسسات وديموقراطية حقيقية. فليس صدفة أن ينطلق جنبلاط في مراجعة النظام الطائفي والحض على ديموقراطية نيابية وحكم الشعب غير المطوأف، وأن يتبعه لبنانيون كثر يعتقدون أنهم في هذه المرحلة على الأقلّ خسروا الجولة لمصلحة حزب اللهّ لم يحدث هذا لأن الدولة ضعيفة، كما يزعم حزب الله، بل لأنه يصرّ على أن يكون أقوى منها وأقدر من خلال استقوائه بقوة إقليمية تسعى لأن تكون دولية، ومن خلال ربطها أكثر بمشروع هذه القوة وأهدافه. وهنا تكمن مفارقة سمجة إلى حدّ كبير في خطاب الوثيقة التي قام واضعوها بتفخيخ الدولة ومؤسساتها فعلياً ومجازياً بحديث «المقاومة» وهدوا حيلها تماماً وانبروا في اليوم التالي يشتكون من ضعف الدولة ووهنها واعتبروا ذلك حجة دامغة لإبقائها في وحل التاريخ. لقد كتب زملاء كثيرون أن لبنان قوي في ضعفه بالذات. وأقول إن لبنان أضعف في جبهته الداخلية منه في جبهته الخارجية. بمعنى أن لبنان لم يعد ضعيفاً أمام إسرائيل التي انكفأ مشروعها الإقليمي بسبب من تطورات جذرية في الداخل الإسرائيلي وفي العالم، ولم يعد ضعيفاً بالقدر الذي كان أمام المشروع السوري، لكنه ضعف كثيراً منذ اغتيال الحريري الأب أمام حزب الله ومجروراته وأمام المدّ الإيراني الذي يريد لبنان ترساً متقدماً للمفاعلات النووية الإيرانية. ومن هنا فإن حشر كل لبنان في خانة «ظهير للمقاومة» يجعل من هذا البلد واحتمالاته ومن فكرة الدولة والديموقراطية فيه رهينة أكثر من أي وقت مضى لمشروع يتناقض كلياً مع فكرة لبنان السيّد المستقل والديموقراطي. ويضعه في مواجهة دائمة مع إسرائيل أو مع أميركا يتمّ تصعيدها كلما أحسّ طرف من الأطراف المعنية ولبنان ليس بينها أن مصالحه قد تضررت أو قد تتضرّر. وعلينا أن نتوقّع صولات وجولات ستكون أكثر ترويعاً في كل مرة من سابقتها. صحيح أن حسن نصر الله يبدو، بالوثيقة والمؤتمر الصحافي وبالخطاب الحزب اللهي في السنة الأخيرة، كمن يلتزم بأحكام حملة تسويق الحزب من جديد، ويظهر كمن يراعي حساسيات السياسة اللبنانية ويتفادى المنعطفات والمنزلقات، لكن لا خطابه ولا الوثيقة يستطيعان أن يُعطيا ولو أملاً عقلانياً واحداً بأن الأمور في لبنان وبين لبنان ومحيطه إلى انفراج ما. فحسب الوثيقة يستطيع اللبنانيون بما أنتجوه من تراكمات غنية وتجارب قاسية ومجتمع مدني أن يواصلوا الحديث عن ديموقراطية ودولة وعقد اجتماعي وسيادة إلى ما شاء الله ولكن تحت مظلة حزب الله نيابة عن خامنئي! فبحسب نص الوثيقة يبقى الولاء في الأول والأخير له وحده. فهو بحسب مؤدّى الوثيقة سرمدي لا نهائي بينما لبنان، براهنه ومستقبله على الأقلّ، مجرّد حيثية ما في مشروع مقدّس يطاول الكون وليس فلسطين وحدها! بمعنى أن كل ما في متناول يد حزب الله وسيده كذراع من أذرع «الولي الفقيه الإمام الخامنئي (دام ظلّه)» سيوضع تحت تصرّف المشروع الإلهي المعلن أحياناً والموحى به أحياناً أخرى! المنتصرون حقيقة أو افتراضاً قد يكونون كرماء في جانب من سيرتهم لكنهم في الوقت ذاته يسعون إلى تكريس انتصارهم والاستفادة منه إلى أقصى الحدود وفي كل موقع ممكن. هكذا فقط أمكنني أن أقرأ وثيقة حزب الله وإيحاءاتها. فمن ناحية، غيّر من لهجته في ما يتصل باستعداده لكذا وكذا من أفعال على الساحة اللبنانية، أو من دعوة إلى وحدة إسلامية عربية، أو دعم وتأييد للمقاومة الفلسطينية، ومن حديث عن التنوع كمصدر غنى، لكنه يفعل ذلك بكرم المنتصر الذي يريد أن يمضي قدماً بانتصاره وأخذ كل ما حوله ومَن حوله بعباءته إلى حيث هو ماض. فوثيقة حزب الله مفصلة على مقاسات عباءة الخامنئي التي يسعى صاحبها إلى هيمنة إقليمية ودولية. وهو لا يُخفي ذلك ويرسل حزب الله أو الحوثيين أو أوساطاً في حماس ليخبرونا، ولو إيماءً، أن ما من أحد سيبقى خارج العباءة، والآن بالمليح ومحاسن الكلام، ولا بأس ببعض آيات من الذكر الحكيم. أما غداً، فإن الأمر خاضع لخيارات الولي ومصالح ولاية الفقيه «دام ظله». * كاتب فلسطيني