تزاحمت الرسائل خلال الأسبوعين الماضيين على البريد الإلكتروني الخاص بي بعد افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، والتي من خلالها جسد خادم الحرمين الشريفين أحلامه وتطلعاته الشخصية وأحلام من سبقه من ملوك الدولة السعودية الثالثة – رحمهم الله جميعاً – وجسد آمال الشعب السعودي على أرض الواقع بهذا الإنجاز والصرح العلمي المرموق. ولكن ما خيب آمالي عبر تلك الرسائل الإلكترونية أنها كانت تعكس في مجملها وجهات نظر لفئات فكرية منغلقة، إذ تنوعت ما بين العنصرية ضد الذات وضد الآخر، وما بين عنف فكري حملته آراء متطرفة لا تتوقف عن طرح أفكار «ميتة» تعكس مدى نشازها ومدى توقف تفكيرها. إن العقول النيرة تتقبل مختلف الآراء مهما كانت وتتسامح معها، بل وتحترمها، ولكن أن يصل الأمر إلى الهجوم على مشروع وطني والتركيز على قضايا هامشية والانشغال بسجال «عقيم»، لنتناول من خلاله قضايانا العلمية، والتي أصبح بعض أبناء المجتمع السعودي في هذه المرحلة التاريخية المعاصرة يترفع عن الخوض في غمارها بسبب إيمانه المطلق بالثوابت والأسس التي قامت عليها الدولة السعودية منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، ومنها انطلقت النهضة التنموية بمختلف أشكالها ووسائلها، وفي مقدمها تأسيس وتطور التعليم العام والعالي بمختلف مراحله وتنوع تخصصاته للذكور والإناث على حد سواء، فهذا الأمر هو ما لا يمكن أن يتقبله أيُ عاقل حكيم! فإلى متى يظل بعض ذوي العقول البسيطة والنظرة الضيقة يستفزون النخب العلمية والفكرية بمختلف تخصصاتها وتوجهاتها العلمية والمعرفية من خلال محاولات هؤلاء طرح أفكار لا تبتعد بتأملها لحقائق الأشياء وتعمقها لمختلف القضايا والتحديات التي تواجه بلادنا إلى أبعد من أنوفهم، ولا تعدو كونها أفكاراً تطرح فقط لإثارة الانتباه والبلبلة والجدل الذي يثير الشك تجاه كل ما تقدمه الدولة من خير لأبنائها وللإنسانية جمعاء؟ كم كنت طموحة جداً عندما تصورت للحظة ما أنني سأقرأ ردود أفعال صدى هذه الهدية الملكية الكريمة إلى الشعب السعودي والأمتين العربية والإسلامية والعالم أجمع في كلمات بعض من أبرز علماء ورجال الدين على وجه التحديد في هذه البلاد الطيبة، اذ اكتشف من خلالها مشاعرهم الحقيقية تجاه العلم وأهله، وتجاه الوطن والرغبة الصادقة في تطوره وتقدمه الدائم نحو الأمام لا محاولة اثارة الشكوك حوله وحول طبيعته! وكم كنت خيالية عندما سرحت بأفكاري بعيداً جداً وتمنيت أن أقرأ أو أسمع رداً «تضامنياً» واحداً من مواطني بلد الخير هذا كافة بدلاً من الانشغال بالسجالات العقيمة والمريضة التي لا تنتهي ليقول الجميع وبصوت واحد لخادم الحرمين الشريفين: جزاك الله خيراً عن وطنك وأمتك والعالم أجمع، ثم يسأله الجميع: وماذا بعد يا خادم الحرمين؟ ماذا ينتظر شعبك وأمتك والعالم بعد هذه الهدية الملكية القيمة؟ ألا يستحق أبناؤك وإخوانك من طلبة العلم من المفكرين والباحثين في الدراسات الإنسانية والنظرية بمختلف فروعها وتخصصاتها صرحاً أكاديمياً علمياً مماثلاً ل «كاوست»، بحيث يسهم في مد الجسور المتينة للتفاعل والتحاور الحضاري – الفكري الحقيقي بين الذات العربية الإسلامية والآخر؟ إننا كأكاديميين ننظر ونتطلع إلى اليوم الذي نسهم فيه علمياً ومعرفياً جنباً إلى جنب مع أشقائنا العرب والمسلمين، وإخواننا في الإنسانية من مختلف حضارات العالم ومن مختلف الايديولوجيات والتيارات والمذاهب الفكرية، لوضع أسس لدراسات ونظريات علمية ومعرفية حديثة تُسهم في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة، وتنطلق للتعاون والانفتاح على الآخر من خلال ما قد تترجمه الدراسات العلمية المشتركة بين المفكرين والأكاديميين السعوديين والعرب بالتعاون مع إخوانهم وشركائهم في صروح العلم والمعرفة من بقية الحضارات المختلفة. تلك هي الإسهامات الحقيقية التي تقف كخط دفاع ضد الايديولوجيات المتطرفة والمنغلقة كافة في جميع أنحاء العالم، كما تسهم في بناء فكر ووعي عالمي واضح تجاه المملكة العربية السعودية ورسالتها الإسلامية الخالدة. قد تكون هذه الأماني عظيمة، وقد يرى البعض صعوبة تحقيقها في هذه البلاد الطاهرة، إلا أننا لو منحنا أنفسنا بعضاً من الوقت وتعمقنا في درس مثل هذا المشروع لاستطعنا في النهاية أن نقرأ مستقبله ومستقبل نتائجه التي ستكون هي بالفعل من يضع الأسس المتينة للانفتاح والتسامح مع الذات ثم مع الآخر، حتى نصل إلى محو كل أسباب العنف والتطرف من النفوس والعقول البشرية وهزيمتها بالفكر العلمي والمعرفي القائم أساسه على مبادئ الدين الإسلامي الصحيح الداعي إلى السلام. إن بعض العقول البشرية التي تدعي الاستنارة وقف بها التاريخ عند حدود القرون الماضية، ولكن يبقى العلم هو المختبر والمصنع التنويري العقلي الحقيقي للإنسان في كل عصر وزمان، كونه هو الذي يسمح فقط بالانتقال إلى مختلف الايديولوجيات والعقائد ويتشعب في فكرها وينهل من مختلف معارفها. والمملكة العربية السعودية التي تشهد اليوم إصلاحاً عاماً وشاملاً انطلق من رغبة صادقة وإيمان ووعي كاملين بالمرحلة التاريخية التي يشهدها العالم فإنها تفرض علينا جميعاً كأبناء مجتمع واحد أن نبقى على يقظة ووعي، لنتدارك ما سيأتي من منطلق أن الأمور والأشياء من حولنا تتغير باستمرار وليس العكس، وحتى لا يصبح حالنا كحال «الراعي النائم» الذي غلبه النعاس عقوداً من الزمن ثم استيقظ محاولاً أن يتدارك ما فاته وكأن الأشياء جميعها من حوله لم ولن تتغير! * أكاديمية سعودية [email protected]