لا نبالغ في القول إن الأزمة السورية ستترك في كل بيت من بيوت السوريين مريضاً نفسياً على الأقل إن لم تكن قد فعلت حقاً. فبعد نحو أربعة أعوام على عمر الأزمة لا يكاد يخلو بيت من إحدى ظواهر الأمراض النفسية التي تتفاوت في شدتها، باتت أعراض الاكتئاب أكثر انتشاراً من أعراض الرشح. وهي تتفشى على نطاق واسع في أوساط السوريين، في حين تكاد تخرج الآفات العقلية الشديدة عن السيطرة في الفضاء العام، والتي يمكن ملاحظتها من خلال انتشار أعداد كبيرة من المرضى العقليين في الشوارع والأماكن العامة، ومن خلال ملصقات معلّقة على الجدران تحمل صور مرضى نفسيين خرجوا ولم يعودوا إلى بيوتهم في غفلة من عيون ذويهم. مزاج جهادي... واستنزاف يعاني غسان (25 سنة) من مرض نفسي شديد، وهو يعيش مع عائلة خاله بعد أن فقد كامل أفراد أسرته في قصف استهدف منزلهم في الغوطة. يقول أبو عمار خال غسان إنه تحوّل من طالب جامعي إلى مريض نفسي بعد تعرّضه لضغوط وتجارب مؤلمة. ويضيف: «ولما لم يتبقّ له عائلة اضطررت إلى الإبقاء عليه مع أسرتي. وكاد أن يقضي علينا بسبب تصرفاته، فبعد خروجنا من الغوطة واستقرارنا في منطقة موالية، تسلّل للمرة الثالثة إلى شرفة المنزل الذي نشغله، وفي كل مرة كان يبدأ بالصراخ بعبارات تدعو إلى الجهاد مع نداءات التكبير، ما دفع بسكان إلى اقتحام منزلنا ولم يرحلوا إلا بعد ان تأكدوا أنه مختل عقلياً، ومع ذلك هدّدوا بقتله أمامنا إن لم نمنعه من تكرار ما فعل». يعزو الطبيب النفسي جمال. ن سبب تفاقم أزمة الأمراض النفسية في سورية «إلى العجز عن التصدي لها واستمرار الأسباب المنتجة لها. فهناك نقص شديد في الأطباء الاختصاصيين علاوة عن غياب التمويل وبرامج التوعية وانعدام البنى التحتية التي تعتني بالمرضى العقليين. ونلاحظ في شكل كبير تركيزاً على توفير الحاجات الأساسية كالطعام والإقامة والألبسة، وتجاهلاً واسعاً لجهود الدعم النفسي». ويضيف: «يستنزف المرضى النفسيون عائلاتهم، خصوصاً الأشخاص الأسوياء الذين اعتلت صحتهم النفسية فجأة لا سيما الأطفال واليافعين. ويكون تأثيرهم مدمراً في العائلة التي لا تتمكن عادة من تقبّل ما حدث لهم. وتكون مستعدة أن تدفع كل ما تملك من أجل استرداد عافية المريض، وهو ما لا يحدث في معظم الحالات أو قد يستغرق وقتاً طويلاً للغاية». إنتاج السجون «فصل في السجن» مصطلح جديد يعرفه جيداً كل من خاضوا تجربة الاعتقال. ويعني أن السجين أصيب بحالة من الجنون جعلته يفقد توازنه العقلي وبالتالي ينفصل عن الواقع. وهناك العشرات من السجناء الذين حوّلتهم ظروف الاعتقال غير الإنسانية إلى مختلين عقلياً، ما تسبب في مقتل عدد منهم بفعل التعذيب أو المعاملة السيئة التي يتلقونها من بقية السجناء، لأن الحياة معهم ضمن الزنازين تصبح مستحيلة. وإذا كان المحظوظون فقط هم من يخرجون من السجون أحياء، فإن الأكثر حظاً من بين هؤلاء هم الذين يخرجون من دون أن يحملوا آثاراً نفسية مدمرة لبقية حياتهم. يقول عبد الوهاب وهو سجين سابق تعافى من أزمة نفسية كادت تودي بحياته في السجن: «كانت مرحلة صعبة للغاية. كنت أشعر أنني في عالم آخر. لا أصدق أنني عدت إلى حياتي الطبيعية بعد كل هذه القسوة التي تعرّضت لها أثناء الاعتقال». تمكنت عائلة عبد الوهاب من إنقاذه كونها لا تزال أسرة متماسكة، فاحتضنته ووفّرت له نوعاً من العلاج. لكن ماذا تفعل عشرات العائلات المبتلية بنوبات الصرع وطقوس الهلوسة ومحاولات الانتحار التي تتهدّد أفرادها، وهي التي لا تمتلك قوت يومها بل قد لا تجد منزلاً تلجأ إليه؟