الاثنين 3/8/2009: أصدقاء مجموعة أصدقاء فرقتهم المسافات. ومن بداياتها تُقرأ الحكاية: لكي تتحقق فرديتك يتطلب الأمر دولة تكون أنت أحد مواطنيها، ففي غياب الدولة يتحول المواطن الى عضو في جسم اسمه القبيلة أو الحزب (بالمفهوم القبلي) أو الطائفة أو المقاومة (بالمفهوم الإيديولوجي الشرقي)، عضو يتحرك بأمر فاقداً استقلاله أو ذاته. وإذا تمرد الإنسان في غياب الدولة رافضاً العضوية، فهو عدو الجماعة أو مجنونها أو منكر نعمة الرضى. كنا أصدقاء أفراداً في شبه دولة، تركت لنا مساحة حرة، المساحة هذه لم تصلها الجماعات بكائناتها البشرية العضوية، بقيت لنا وهي تضيق سنة بعد سنة. مجموعة أصدقاء تفرقنا. منّا المهاجر ولن يعود، والمنكفئ وقد فقد دهشته، والمنتحر الذي ألقى بفرديته في الجماعة نقطة في بحر. ومنا الفدائي يتمسك بفرديته رافعاً رايتها أمام الجماعات ومتعرضاً لاتهاماتها ولا يأبه: يعيش حياته ويتمسك بمعناها الخاص متحدياً. دولة بعد دولة يسقط هذا الشرق باسم ما يسمونه قيماً. دول تسقط، ربما لأنها لم تتأسس جيداً، فترثها جماعات قبلية ودينية وطائفية وعرقية، ويختلف الوارثون، وصولاً الى حروب مقدسة تخوضها الكائنات البشرية العضوية حتى يسود الخواء، خواء بدأت معالمه في أفغانستان والعراق والصومال، ويمكن أن يمتد. الثلثاء 4/8/2009: «أخبار اليوم» في سياق عناية مكتبة الإسكندرية بتاريخ الصحافة في مصر أصدرت مجلداً مصوراً في عنوان «أخبار اليوم – مدرسة صحيفة مصرية» قدم له إسماعيل سراج الدين ومحمد عهدي فضلي وأعده خالد عزب وممدوح مبروك وشريف اللبان. وإذا ذكرت «أخبار اليوم» يذكر مؤسساها التوأمان مصطفى وعلي أمين اللذان حملا نشأتهما وثقافتهما الوطنية الليبرالية الى أجواء تلك الدار الصحافية وطبعاها بهما. وشكل الأسلوب الصحافي في «أخبار اليوم» نقلة مفارقة في الصحافة المصرية بعدما خبر الإخوان أمين العمل في صحف يرأس تحريرها لبنانيون، خصوصاً «الأهرام». ووجه المفارقة هو المباشرة في نشر المعلومة ووضع الخبر في درجة تعلو على التحليل والانطباع. وفي ذلك تميزت «أخبار اليوم» ذات المرجع البريطاني عن صحف مصر التي أسسها اللبنانيون (الشوام) وكانت لغتها العربية حديثة وحيوية، لكن مرجعها الفرنسي أعطاها طابع الإنشاء والانطباع والتحليل، فصار ما وراء الخبر يتقدمه والانطباع عن الحدث يسبق ذكر التفاصيل. نشأ مصطفى وعلي أمين في بيت خال والدتهما رتيبة زغلول، وكان والدهما محامياً لامعاً في تلك الفترة. ويكتب مصطفى عن تأثير سعد زغلول لجهة التسامح والديموقراطية، كما يذكر انه وأخوه كانا ينقلان آراء زملائهما التلاميذ الى نسيبهما زعيم الأمة: «كنا جالسين حول سعد زغلول عندما وصله خطاب (رسالة) مكتوب عليه سري جداً قام بفتحه أمامنا وراح يقرأه باهتمام شديد، ثم فوجئنا به ينحي الخطاب وينفجر في الضحك، وأثار تصرفه فضولنا فسألناه عن سبب هذا الضحك، فقال ان الخطاب مرسل إليه من وزارة الداخلية وانه يحوي منشوراً كان يُوزع في الجامع الأزهر. أما المنشور فكان يتهمه بأنه ضد الإسلام والمسلمين والسبب أنه وافق على تعيين اثنين من الأقباط في وزارته، وأكثر من ذلك فقد تضمن المنشور اتهاماً صريحاً لسعد بأنه يشجع العاهرات وأنه أمر بتنظيم مسابقة بينهن، وطلب من مرقص حنا وزير الأشغال أيامها الإشراف بنفسه على المسابقة وتوزيع الجوائز على العاهرات. وقبل أن نفيق من دهشتنا رفع سعد زغلول سماعة التليفون واتصل بالوزير مرقص حنا يسأله عن حكاية مسابقة العاهرات، ويبدو أن الكلام أغضب الوزير فقد سمعنا صوته من سماعة التليفون وهو يصرخ بصوت عال مؤكداً أن ما حدث كذب وافتراء. ومرة أخرى ينفجر سعد زغلول في الضحك ويقول للوزير: يا أخي أنا أعرف الأزهريين، أعرف أنهم لا يكذبون وأعرف ماذا يقصدون وأنا واثق أنهم يقصدون المسابقة المسرحية التي نظمتها وزارة الأشغال وقمت أنت بتوزيع جوائزها، فاقترح عليه وزير الأشغال إلقاء القبض على أصحاب هذا المنشور، لكن سعد زغلول رفض بشدة قائلاً: إننا نعيش عصر الديموقراطية، وفي عصر الديموقراطية لا يجب أن نسجن من يختلف معنا في الرأي. وهكذا فقد كان سعد زغلول ديموقراطياً الى أقصى درجة، وكان يكره حكم الكرباج ويقول انه ليس هناك أسهل من استعمال القوة. الصعب هو الديموقراطية، هو حكم الشورى». الكتاب رحلة في تاريخ دار صحافية ومعها تاريخ مصر العاصف منذ أربعينات القرن الماضي، في مواكبة لا يقدر عليها سوى صحافي حرّ في دولة تطبق القانون، وانفتاح اقتصادي يسمح بعيش الصحافة من دون ارتهان. عهود سياسية متنوعة عاشت فيها «أخبار اليوم» لعل أفضلها عصر ما قبل القرارات الاشتراكية في أوائل الستينات، حين كانت جذوة الليبرالية مشتعلة ومعها الحوار في مستويات الحياة كلها. كانت صحافة عمادها دولة القانون وحيوية الطبقة الوسطى والحس الوطني والانفتاح على العالم والإيمان بالتقدم، بعيداً من الإيديولوجيات الصارمة. الأربعاء 5/8/2009: بلا عصب ليس بقوة جسده يقف، انما بعكازين، وأحياناً بسنادات أخرى. الوقوف من دون مساعدة شيء من الماضي، نراه في صور بالأسود والأبيض: عائلة في الحديقة العامة، فتاة قرب التمثال الشمعي لهمفري بوغارت، وشاب قرب تمثال نمر يقاتل النمر. لا أحد يقف وحده، فالأجساد تهافتت والمعاني أيضاً. لا فكرة تثبت وحدها لتتعامل مع فضاء المعاني مثل وردة متصلة بتراب وهواء. الأفكار المتهافتة تستطيع الوقوف، إنما بالاستناد الى أفكار جاهزة. تصعد الفكرة متمسكة بالدرابزين الخشبي حتى تصل الى سطح البناء العالي. لا تطير الفكرة بل تنتحر من الطابق الثامن عشر. كيف تطير وهي عاجزة أصلاً عن الوقوف بلا سند؟ الأجساد والأفكار تحتاج الى من يسندها، والأوطان أيضاً تحتاج، الأوطان كلها. ليس من سند حقيقي، والحال أن ضعفاء متهالكين يسند بعضهم بعضاً ولا أحد يستطيع الاكتفاء بذاته. هذا العالم بلا عصب. الخميس 6/8/2009: سكان الفضاء نأكل خبزاً ولا نرى السنابل. نشاهد البحر من الطائرة ونتابع أفلام القراصنة ولا يلمس جلدنا مياهاً مليئة بالملح والمعادن. نحن أبناء البيوت الجاهزة تجف أحلامنا بعيداً من الطبيعة كأننا نعيش في مركبات فضائية الجمعة 7/8/2009: حيوية الجزائر لم يتحمل نواب في البرلمان الجزائري إحياء تقليد بدأ في ستينات القرن الماضي عبر تنظيم مهرجان للثقافة الأفريقية. ووجه النواب المنتمون الى «حركة النهضة» الإسلامية المعارضة أسئلة شفوية وكتابية تتهم الحكومة بتبذير المال العام ب «ضخها أموالاً طائلة في مهرجانات هلامية تنتهي بفضائح أخلاقية». وركز هؤلاء هجومهم على وزيرة الثقافة خليدة تومي، وحين ردت عليهم بحدة هددوا بمقاضاتها وقالوا انها اتهمتهم بالتطرف والفاشية وبأنهم نازيون جدد. وإذا كان كلامهم دقيقاً فإن الوزيرة تكون استخدمت نعوتاً يصح قولها في أوروبا لا في الجزائر التي لم تشهد نازية قديمة كي تجددها. لكن المشكلة ليست في القول انما في الباعث عليه، فهؤلاء النواب ينظرون بخفة الى الثقافة الأفريقية والى انفتاح الجزائر على القارة السمراء، ولا يدركون أن بلدهم كان منارة هذه القارة وملجأ مثقفيها ودعاة استقلال دولها. يعيش هؤلاء النواب وأمثالهم في عزلة عن العالمين القريب والبعيد مكتفين بما عندهم، مازجين الجهل بالتجاهل في ما يخص علاقتهم بالثقافات الأخرى، حتى تلك الداخلة في تكوينهم وعوا ذلك أم لم يعوه. هذه العقلية تشكل دافعاً من دوافع هجرة النخب الجزائرية الى أوروبا وأميركا. وتبدو منطقية هذه الهجرة التي يشكو منها لوط يوناطيرو (رئيس منظمة المبدعين والبحث العلمي في الجزائر) الذي صرح في اليوم التالي لهجمة النواب على مهرجان ثقافي ب «ان وجود مئة ألف عالم وباحث جزائري في الخارج يعكس غياب العلاقة بين هذه الشريحة المميزة والسياسيين الجزائريين». هكذا تطرد الجزائر فقراءها عبر قوارب الموت وعلماءها ومبدعيها عبر اهتزاز الأمن منذ العام 1992 وتسلّم عقليات متخلفة أو استئصالية مقاليد السلطة والمعارضة. بلد المليون شهيد ذو الحيوية المشهودة يتحول الى بلد خامد يخيّم عليه سلام الذئب والنعجة.