الملاحظة الموضوعية لردود الفعل، توجب الاعتقاد بأن غالبية معتبرة من الفلسطينيين تعلق آمالاً إيجابية على التحولات النظامية والأيديولوجية المتفاعلة عربياً، بالنسبة إلى نصرة القضية الفلسطينية وإعادة الاعتبار لدعم الكفاح التحرري الفلسطيني. تقول النظرة البانورامية إن الرأي السائد الأكثر تداولاً لدى عامة الفلسطينيين، هو أن مزيداً من التحول الديموقراطي في رحاب الظهير العربي، سيفضي إلى ارتفاع منسوب استشعار خطر المشروع الصهيوني، وبالتداعي تعزيز اتجاه ردف المشروع الوطني الفلسطيني المضاد. ولأن فورة النزوع إلى الديموقراطية اقترنت بتعويم التيار الإسلامي وصدارته للمشهد وزيادة أسهمه وفاعليته داخل النظم الجديدة البديلة، فإن قوى هذا التيار الفلسطينية تبدو الأكثر ميلاً للتفاؤل، معتبرة أن البيئة الإقليمية تمضي قدماً نحو ترسيخ المرجعية العقيدية والفكرية التي تهتدي بها. وليس بغريب في هذا السياق أن تتعالى صيحات الترحيب والاستبشار بفوز مرشح هذه المرجعية الدكتور محمد مرسي بالرئاسة المصرية في أوساط حركة «حماس»، بالتوازي والتزامن مع تكبيرات «الإخوان المسلمين» ومحازبيهم وأنصارهم في ميادين مصر. الحق أن هناك ما يبرر الانشغال الجارف فلسطينياً بما يدور في العمق العربي من تغيرات ومستجدات تبدو منعطفة على الديموقراطية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحقوقية، فلطالما كانت فلسطين، الشعب والقضية، أكثر الساحات حساسية لنتائج مثل هذه الانعطافات. لكننا نجادل في ضوء بعض الخبرات والسوابق بأنه ينبغي على القوى الفلسطينية، على المستويين النخبوي الفصائلي السياسي والشعبي المدنى، التريث في إظهار مواقفها إزاء ما يجري من حولها والحذر من التعجيل بحرق التشوفات العقلانية والتحليق بالتصورات المشرقة بغير حساب. لقد جاء حين من الدهر، غداة وقوع النكبة وما تلاها من انقلابات وتغيرات نظامية في دول كسورية ومصر والعراق، سلم فيه الفلسطينيون قياد قضيتهم بالكامل تقريباً إلى المعترك العربي، حتى أن قواهم السياسية انخرطت في الأحزاب العربية، القومية منها بخاصة، ظناً أو أملاً منها بأن الخلاص الفلسطيني يتأتى من هذا السبيل، سبيل الانغماس، ربما إلى حدِّ الذوبان، في الفعل العربي العام وشعاراته. وساهم في تعليل هذه الحال سيطرة التصور القائل إن النظم القومية ما صعدت إلا على خلفية هزيمة عام 1948، إضافة إلى مجموعة الشعارات التي رفعها الثوار الجدد الذين جعلوا الثأر من تلك الهزيمة وتحرير فلسطين قبلة دعائية لهم ونجحوا في توظيفها للحشد الجماهيري خلفهم. ومع ذلك، اكتشف الفلسطينيون بعد قرابة عقد ونصف من عام النكبة خطأ الإيغال في هذا التوجه وضرورة استبدال إحياء الوطنية الفلسطينية والاعتماد على الجهد الذاتي به، الأمر الذي تبلور عملياً بنشوء منظمة التحرير عام 1964 وحركة «فتح» بعد عام آخر. بالمناسبة، فقد جاءت تلك الصحوة لأولوية البعد الفلسطيني الوطني في معالجة النكبة وتوابعها، غداة إبلاغ الزعيم جمال عبدالناصر وفداً فلسطينياً أنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين. كان هذا التصريح من رجل القومية العربية الأول في زمنه، بمثابة لحظة كي للوعي الفلسطيني بوضع حدٍّ لثورة الآمال بأن صعود النظم القومية إنما كان بسبب النكبة وأن هذا الصعود كفيل وحده بكنس الغزوة الصهيونية وتحرير فلسطين. وبشيء من المبالغة يحق التوقع بأن هزيمة 1967 أدت بين عواقبها الخطيرة إلى انخفاض هذه الآمال إلى مستوى الأفول. استحضار هذه الوقائع، يدعونا إلى التساؤل عما إذا كان فلسطينيو اليوم في حاجة إلى صحوة أخرى قريبة الشبه، مع الوعي باختلاف بعض المعطيات والمحددات؟ لا يتأتى هذا السؤال الموحي بالحيرة والتخوف من ثقة معدومة أو حتى ضعيفة في إيجابية التحولات المدهشة عربياً على الخط البياني للكفاح الفلسطيني. فنحن ندفع بصحة قناعة القائلين إن تحرر الإنسان العربي داخلياً من ربقة التسلط والاستبداد والفساد وبقية مكبلات الملكات والموارد، سيؤول إلى ردف النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال الخارجي. غير أننا نقدّر أن تحقيق الشرط العربي المأمول ويناعه قد يستغرقان جهداً جباراً وزمناً يصعب تحديده. بصيغة مباشرة أخرى، ثمة ما يشي بأن التحولات العربية ستظل إلى أجل غير معلوم محفوفة بعدد من الهموم والكوابح والمثبطات الداخلية والخارجية المتعامدة على بعضها بعضاً. فالمتربصون أكثر، وربما كانوا أقوى مما يتوقع المتفائلون. الأمر الذي يوجب على عموم الفلسطينيين استمرار الالتزام بمقومات الفعل الذاتي وتعظيمها. وهذا لن يضيرهم في شيء، لأن مراكمة عوامل القوة الوطنية ربما عجَّلت باستدعاء الرديف الإقليمي وهيأت له مواطئ انطلاق راسخة وأزالت رجس المرجفين بمقولة إنهم لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. * كاتب فلسطيني