«... وفي كتاب «مروج الذهب» أيضاً تتضح ثقة المسعودي بنفسه واعتزازه بما وصل اليه من علم وثقافة ودراية، وبما قام به من جهود ومغامرات، وما لاقاه من أهوال ومصاعب. فقد أراد المسعودي أن يثبت للقارئ ان كتابه هذا يتميز عن كتب غيره ممن سبقوه فقال: «فإنا وجدنا مصنفي الكتب في ذلك مجيداً ومقصراً، ومسهباً ومختصراً، ووجدنا الأخبار زائدة مع زيادة الأيام، حادثة مع حدوث الأزمات، وربما غاب البارع منها عن الفطن الذكي، ولكل واحد قسط يخصه بمقدار عنايته، ولكل اقليم عجائب يقتصر على علمها أهله». وإذ يبدي المسعودي اعتزازه بجهوده، وما لاقاه من مشقات رحلاته الكثيرة، يفخر بذلك كله فيقول في «مروج الذهب»: «وجميع ما أوردناه في هذا الكتاب، لا يسع ذوي الدراية جهله، ولا يعذر في تركه والتغافل عنه، فمن عد أبواب كتابي هذا ولم يمعن النظر في قراءة كل باب منه، لم يبلغ حقيقة ما قلنا، ولا عرف للعلم مقداره. فقد جمعنا ما فيه في عدة سنين باجتهاد وتعب عظيمين وجولان في الأسفار، وطواف في البلدان من الشرق والغرب، في كثير من الممالك غير مملكة الإسلام. فمن قرأ كتابنا هذا فليدبره بعين المحبة، وليتفضل بهمته بإصلاح ما أنكر منه مما غيره الناسخ، وصحفه الكاتب وليرع لي نسبة العلم، وحرمة الأدب، وموجبات الرواية، وما تجشمت من التعب فيها، فإن منزلتي فيه وفي نظمه وتأليفه بمنزلة من وجد جوهراً منثوراً ذا أنواع مختلفة وفنون متباينة، فنظم منها سلكاً واتخذه عقداً نفيساً، ثميناً باقياً لطلابه». في هذا التقديم البارع - والمتواضع بعض الشيء - لكتابه الأشهر «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، من الواضح ان المسعودي، المؤرخ والرحالة البغدادي الشهير الذي عاش في العصر العباسي الثاني، حاول - وعلى الأسلوب نفسه الذي يتبعه في أزماننا الحديثة مؤلفو الكتب العلمية - أن يبدي من التسامح مع من يقرأ كتابه ويبادر الى نقده، بمقدار ما يبدي من الإدراك لقيمة كتابه مقدّراً إياها حق قدرها، ولذلك نجده ينهى عن التصرف في مادة الكتاب في أية صورة، ويخوّف من ذلك، حيث يقول: «وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي وآخره ليكون رادعاً عن ميله هوى، أو غلبه شقاء، فليراقب الله ربه، وليحاذر منقلبه، فالمدة يسيرة، والمسافة قصيرة، والى الله المصير». غير ان هذا لم يكن، بالتأكيد، التجديد الوحيد الذي أدخله المسعودي الى فن التأليف. ولئن كان ابن خلدون قد وجه اليه الكثير من الانتقادات، في ما وجه من نقد تحليلي الى من سبقه من المؤرخين، في «المقدمة»، فإن صاحب هذه المقدمة لم يفته أن يلقب المسعودي ب «إمام المؤرخين»، وهو ما عمد اليه المستشرق فون كريمر لاحقاً، حين لقب المسعودي ب «هيرودتس العرب»، مضيفاً أن اثر المؤلف العربي أوسع بكثير من تأثير أبي التاريخ الاغريقي، حتى وإن كان هذا الأخير «أكثر فناً وأفصح منهجية». المهم في هذا كله هو الاعتراف السابق واللاحق بمكنة المسعودي في كتابة التاريخ، وذلك تحديداً من خلال كتابه «مروج الذهب»، حتى وإن كان وضع الكثير من الكتب غيره مما بقي بعضه وضاع بعضه الآخر. ومهما يكن من أمر هنا، فإن باحثين كثراً يعتبرون «مروج الذهب» الأساس في كتابات المسعودي، بل أيضاً في التطور الذي أصاب، على يديه، فن كتابة التاريخ كتابة عيانية ميدانية. وفي هذا الاطار قد يفيد ان نذكر ان المفكر الفرنسي أرنست رينان وضع دراسة طويلة عمد فيها الى المقارنة «بين الرحالة والمؤرخ العربي المسعودي، وبين الرحالة الجغرافي والمؤرخ اليوناني بوزانياس (القرن الثاني للميلاد) لما بينهما «من صلة وقربى في النهج والمساق» ختمها بأمور وأحكام، يرى المستشرق الفرنسي باربيه دي مينار، مع هذا، ان «من العسير التسليم بها». فالرحالة اليوناني هو فنان وشاعر يحيا ويعيش ويتحمس للأساطير اليونانية والخرافات المروية، كما انه معجب بمآثر اليونان. ومن هنا، فإن الكتاب الذي وضعه بعنوان «رحلة في اليونان» لا يتعدى مداه حدود بلاده الأم، بينما الرحالة والجغرافي المسلم المسعودي، هو مؤلف موسوعي، قد يكون أقل حماسة من الأول، إلا أنه أكثر فضولا علمياً واطلاعاً، فأخذ من العالم المعروف في عهده، مجالا لنشاطه ورحلاته. ومن هنا فإن ذكرياته المتزاحمة قد تجعله يتيه ويضل بعض الشيء. إلا أنه أبداً لا يذهب فريسة خياله الجامح. فإن كان يبدو في بعض الأحيان سفسطائياً في الحال الأولى، فإنه في الحال الثانية ذو فضول ساذج... لكنه مخلص في الحالين كل الاخلاص. والحال ان هذا القول لم يخرج عما قاله ابن خلدون عن المسعودي وعن «مروج الذهب». وكتاب «مروج الذهب» الذي كان له هذا الشأن وهذه القوة، يعتبر في مجاله من أبرز المصنفات العربية على الإطلاق. وتحدث المسعودي بنفسه عن محتوياته قائلاً: «لقد تحدثت فيه عن التاريخ وأخبار العالم وما مضى من أكناف الزمان من أخبار الأنبياء والملوك وسيرها، والأمم ومساكنها». وفي هذا السياق يقول الدكتور علي حسني الخربوطلي، الذي وضع عن المسعودي وآثاره كتاباً معاصراً، ان هذا الكتاب «قد لا يكون تاريخاً متصل الحلقات بعضه ببعض، ولكنه يتألف من مجموعة من الأحداث والأخبار». وهي حلقات رتّبها المسعودي ترتيباً موضوعياً بحيث ان في امكاننا ان نقسم الكتاب، من الناحية الموضوعية الى قسمين متميزين: القسم الأول الذي يتحدث فيه المسعودي عن الخليقة وقصص الأنبياء والبحار والأرضين وما فيهما من العجائب، وتواريخ الأمم القديمة من الفرس واليونان والرومان والعرب القدماء وأديانهم وعاداتهم ومذاهبهم، والشهور والتقاويم. وفي آخر هذا القسم يتحدث المسعودي عن البعثة النبوية والدولة العربية الإسلامية منذ عهد الرسول الى خلافة عثمان بن عفان. أما في القسم الثاني فإنه يبدأ بخلافة علي بن أبي طالب، ثم يتناول الخلافة الأموية، ويتحدث عن الخلافة العباسية حتى عهد الخليفة المطيع لله العباسي (سنة 345ه). من اللافت ان المسعودي منذ الباب الأول لكتابه يتحدث عن دافعه لكتابته ويفصل في مصادره ويقارن في ما بينها. وفي الباب الثاني يسهب في تفصيل أقسام كتابه وأبوابه، التي يبلغ عددها 132 باباً، خاتماً بقوله هنا: «فهذه جوامع ما حوى هذا الكتاب من الأبواب، على أنه قد يأتي من كل باب مما ذكرناه من أنواع العلوم وفنون الأخبار والآثار ما لم تأت عليه تراجم الأبواب...». ثم يؤكد أهمية كتابه قائلاً: «ودللنا على كتابنا بالقليل على الكثير، وبالخبر اليسير على الجليل الخطير، وذكرنا في كل كتاب من هذه الكتب ما لم نذكره في الآخر إلا ما لا يسع تركه، ولم نجد بداً من ايراده لما دعت الضرورة الى وضعه...». والمسعودي الذي وضع هذا الكتاب الأساسي تتويجاً لحياته العلمية الطويلة، وبعد أسفار وصل فيها الى الكثير من الممالك والديار، عرفه الغرب منذ القرن الثامن عشر وكوّن عنه في أوروبا رأياً عالياً، خصوصاً حين ترجم كتابه هذا، وبدا متضمناً فصولاً تأتّت من مشاهدات عيانية في بلدان بعيدة وصل اليها المسعودي وأرخ لها، كالصين التي كان المسعودي من أوائل المسلمين الذين رحلوا اليها وجابوا مدنها، ومع هذا عرف كيف يتميز بتدوين أخبار رحلاته على أساس منهجي علمي أبرز قيمة الرحلات... وبخاصة حين يهتم بعقد مقارنة مفيدة، مثلاً، بين أهالي الصين وبين العرب قبل الإسلام. عاش علي بن الحسين المسعودي كما قلنا في العصر العباسي الثاني. هو الذي ولد في بغداد حوالى العام 900م. (287ه). وهو عاصر ابن الرومي في بغداد باكراً وشهد وفاته وأشاد بشعره، كما شهد وفاة ابن حنبل. وهو عاش متنقلاً بين البلاد، وبخاصة بعدما بدأت القلاقل السياسية في بغداد... وأثمرت رحلاته عدداً كبيراً من الكتب، كان «مروج الذهب» وسيظل أشهرها. وهو بعد رحلاته الكثيرة تنقل بين العراق والشام ومصر، حيث يخبرنا انه أنجز كتابه «مروج الذهب» في فسطاطها سنة 336ه. وهو ظل مستقراً في مصر حتى توفي عام 346ه. [email protected]