كنت في رحلة على متن القطار، من مدينة سيرييه إلى مدينة مونترو السويسريّتين، تستغرق من الوقت حوالي الساعة ونصف الساعة، وبعد أن أنهيت مهمّتي في مونترو، عدت أدراجي لمحطة القطار، لأعود من حيث أتيت، وكان موعد انطلاق القطار الذي أنتظره على المنصّة رقم 3 هو الساعة السادسة وأربعون دقيقة تماماً، كما هو مذكور على البطاقة. وحلال انتظاري على المنصّة، وفي الساعة السادسة و37 دقيقة تماماً «بحسب ساعة المحطّة المعلقّة في سقف المنصّة»، وصل القطار، فركبت فيه بكل ثقة، وجلست على أحد المقاعد، مستغرباً حال المقاعد القديمة نسبياً مقارنةً بالقطار الذي وصلت به إلى مونترو! وانطلق القطار خلال دقيقة من جلوسي بدون أي مبالغة! وكانت سرعته أيضاً أبطأ من القطار الذي وصلت به بشكل واضح! بل وفوجئت به يقف في محطة كل 3 أو 4 دقائق! ثم توقّف القطار بعد حوالي ربع ساعة من المسير في إحدى المحطّات، وظل واقفاً قرابة العشر دقائق! فأيقنت أن هناك شيئاً ما، وقلت في نفسي «ما اتفقنا على كذا يا ولد!». فأصبحت أخترق العربات، أخرج من عربة لأخرى، ومن عربة لأخرى... أبحث عن موظف أسأله عن الموضوع، وأريه بطاقتي ليدلّني إن كان هناك خطأ ما! مع أنني كنت على المنصّة الصحيحة، بل وفي وقت أبكر قليلاً من الوقت المفترض أصلاً! يعني ألم يكفهم أنني عربي، ووصلت بدري؟! فلم أجد أحداً داخل القطار لأسأله! حتّى وصلت لعربة السائق، التي لم أجد فيها سائق أيضاً! بل ولم أجد أحداً حتّى خارج القطار، حيث ظللت أطل من نوافذ القطار لأرى إن كان هناك أحد من موظفي المحطة أسأله! أيضاً لم أجد أحداً! فقررت، وبعد تردد، أن أنزل من القطار الى المنصّة لأركض حتى العربة الأخيرة، حيث وجدتها أيضاً عربة سائق مثل العربة الأولى، ووجدت فيها سائق القطار، الذي ترك العربة الأولى وذهب للأخيرة، حيث إن القطار أنهى رحلته القصيرة، وسيعود أدراجه الآن مروراً بمحطة مونترو! «حسبما شرح لي السائق اللطيف»! بل وقال لي: أنت ركبت القطار الخطأ! فقلت له كيف؟ وأنا قد ركبت من المنصّة الصحيحة! وفي الوقت الصحيح! بل وفي وقت أبكر بدقائق! قال لي: قطارك يغادر الساعة السادسة وأربعين دقيقة، وقطاري يغادر قبل قطارك بثلاث دقائق، هذا هو خطأك! فقلت في نفسي: «لا يا شيخ؟! قول قسم!». عندما قال لي هذه الكلمات، تذكّرت وقتها لِمَ كان الموجودون على المنصّة متسمّرين ينظرون لساعة المنصة بحذر! وعلمت وقتها أنهم ينتظرون قطارهم بالثانية! وتحسّرت على أمم يضربون بالوقت عرض الحائط، بل وطوله أيضاً. لو كان أمير الشعراء أحمد شوقي حيّاً يرزق، لأضاف لقصيدته الشهيرة التي قال فيها: إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقال: إنما الأمم الأوقات ما حُفظت ... فإن همُ ذهبت أوقاتهم ذهبوا الوقت عنصر ثابت في جميع المناسك والعبادات الإسلامية، وهو عنصر ثابت في جميع النجاحات الإسلامية من اكتشافات واختراعات وفتوحات تاريخيّة! وفي رأيي أننا أمّة أهملت قيمة الوقت، وداست قداسته تحت أقدامها، وتركت موضوع الوقت في آخر ركبانها، ولذلك، نقبع الآن في آخر الركبان. [email protected]