ليس محمد سعيد الصكار معلّماً من معلّمي الخط العربي فحسب، بل هو رسام وشاعر وباحث. ولعله اقرب ما يكون الى المثقف الموسوعي في اهتماماته المتعددة، إلا أن حضوره الأمثل تجسد في تطوير الخط العربي، ونقل جمالياته البصرية من اطارها الكلاسيكي المغلق الى فضاءات أرحب. واشتغل هذا الفنان العراقي 65 سنة. في خطوطه على فلسفة الخط، ونبش أسراره وكنوزه. ولم يكتف صاحب "حديث القصية" بما هو موجود من خطوط كلاسيكية، بل ابتكر خطوطاً جديدة، ساعياً الى تجاوز سكونية الحرف وتقليديته. ولعل أهم منجز حققه كان "أبجدية الصكار" وهو أول مشروع تقني لإدخال الحرف العربي الى الطباعة ككتلة بصرية موحدة، اختزل بها الاشكال القديمة، سواء في أحرف العناوين أم النصوص. "الوسط" التقته لمناسبة صدور ثلاثة كتب له عن "دار المدى" الدمشقية: "القلم وما كتب" مقالات في الشعر والشعراء، ونصوص أدبية، "لواعج الأصفر" قصص قصيرة، "إخوانيات الصكار ومجالسه الأدبية". * كيف بدأت علاقتك بالخط العربي؟ - نشأت بيني وبين الخط العربي علاقة مبكرة، تعود الى اوائل الأربعينات، وربما كان لبنيتي الجسدية دور في انصرافي الى الخط. ففي المدرسة الابتدائية، كان يتردد كلام من نوع "اتعلموا الخط والنط والسبح في الشط"، ولما كنت نحيلاً، انصرفت الى الخط دون سواه، خصوصاً ان مدارس تلك الايام كانت تخصص حصة للخط وتجويده. ولعل اول ما اثار اهتمامي بجمالية الخط العربي، كلمة مكتوبة بخط الرقعة، على باب من القصدير لدكان مغلق في بلدتي الخالص، وكانت الكلمة هي "رانية"، فكنت أقف كل يوم أتأمل هذه الكلمة، وأحاول تقليدها بكل الوسائل. وحين انتقلت العائلة الى البصرة، في أواخر الاربعينات، لفت نظري ان معظم الصبية يخطّون بالطبشور والفحم على الاسفلت والحيطان، فوجدت نفسي في المحيط الذي أتوق اليه، وبدأت أتأمل لافتات الشوارع، التي كان يكتبها خطاط مشهور في البصرة هو ستار كريم الذي اعتبره أستاذي الاول، اذ كنت احاول تقليد خطوطه. وانتهت محاولاتي الاولى بافتتاح استديو للخط، أطلقت عليه اسم "استديو الصكار للخط والرسم"، وبذلك بدأ احترافي للخط، اذ شاعت خطوطي على لافتات الشوارع وملصقات السينما ومانشيتات الصحف في البصرة. ووجدت نفسي بعدئذ بحاجة الى تطوير هذه الهواية، بوصفها هماً ثقافياً بالدرجة الاولى، فبدأت استعين بكراسات الخطاطين الكبار، وأحاول تقليدها، لأن التقليد هو الشغل الشاغل للخطاطين جميعاً. الصدمة الأولى * من كان أشهر الخطاطين في بغداد آنذاك؟ - هاشم البغدادي بلا شك، ولي مع هذا الخطاط حكاية خاصة، فحين كنت في البصرة، وكانت لافتاتي وخطوطي تملأ شوارع المدينة، رغبت ان اطور شغلي، وقررت ان اذهب الى بغداد للتعرف الى هذا الخطاط المشهور والتعلم على يديه. كنت وقتها في العشرين. وحين قابلته، ارتبكت ولم استطع ان اقول له انني خطاط، قلت له اريد ان اتعلم على يديك، قال: هل تعرف انواع الخطوط؟ أجبته "لا"، على رغم احاطتي بها جميعاً. ثم احضر لي انواعاً من الخطوط وعرفتها جميعاً. وسألته: كم سنة احتاج الى تعلم الخط على يديك؟ اجابني: هذا الامر يتعلق بك، فخط الثلث وحده يحتاج الى ممارسة لا تقل عن ثلاث سنوات. شعرت انني اهبط الى الارض، وحين انتهى من كلامه، اكتشفت انني بحاجة الى 13 سنة حتى اصبح خطاطاً. نزلت السلم الى الشارع وقد اصبت بصدمة كبيرة، لكنني قررت ان اتعلم بنفسي، فانكببت على تقليد خطوط اشهر الخطاطين في العالم، وفي الوقت ذاته، بدأت اكتب الشعر، وأحسب ان لأحدهما على الآخر أثراً. * ما هي أبرز التحديات التي تواجه الخط العربي كقيمة فنية وجمالية، في ظل انتشار التقنيات العلمية الحديثة؟ - ليست هناك تحديات اطلاقاً. هناك من يتوهم ان الخط العربي يواجه تحديات، بسبب تطور التقنيات الحديثة وانتشارها، لكن ذلك غير صحيح. الخط العربي حاجة، والانسان لا يتخلى عن حاجاته الجمالية التي يوازن بها عالمه الداخلي في مواجهة العالم الخارجي. اما بخصوص المستجدات التي حصلت في ساحة الخط، فهذه مسألة طبيعية، وينبغي ان يتطور الخط، ويستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة، وهذا الموضوع تحديداً، هو نقطة خلافي مع الخطاطين الآخرين منذ ما يقرب من 40 عاماً. انتبهت باكراً الى هذه المسألة، وبدأت العمل عليها منذ العام 1965، اذ اكتشفت ان للخط العربي امكانات تشكيلية غير محدودة، وكنت عندما استقرئ خطوط بعض الخطاطين الكبار، اجد لديهم حساسية فنية رفيعة جداً تجاه العلاقات التشكيلية في تكوين الحرف. وهذا الاكتشاف دفعني الى ان اتقصى حدود هذه العلاقات التشكيلية، وأحاول ان اقترب من جوهرها، وألتمس في تكوينها امكانات جديدة تواكب مستجدات الحياة، مما كان يجري آنذاك في اواسط الستينات من القرن العشرين. * في أي مجال قمت بالتطوير آنذاك؟ - على صعيد العمل الخطي، لم يتجاوز حدود لافتات الشوارع ووسائل الاعلام، وهذا ما يستجيب له الخط الكلاسيكي. لكن اهتماماتي كانت أبعد من ذلك، خصوصاً انني كنت اعمل في الصحافة وأمارسها بأنواعها كافة من المطبعة الى التحرير. وهذا الامر ساعدني كثيراً في التعرف الى مشكلات الحروف الطباعية بالذات، وأخذت انظر الى الخط كقيمة فنية ذات طاقات تشكيلية واسعة جداً. وكان من الصعب اختراق حاجز التقليد الذي يعتبر في نظر الخطاطين كفراً، وحين تجاوزت هذه التقاليد الصارمة، واخترقت حدودها، تعرضت لحملة تشهير شعواء لدرجة اتهامي من البعض بالماسونية، الامر الذي جعلني أغادر العراق. أبجدية الصكار * تقصد ما أطلقت عليه آنذاك "أبجدية الصكار"؟ - نعم. لقد بدأ المشروع في العام 1965، اذ سمعت بافتتاح جامعة جديدة في العراق، فرحبت بهذه الفكرة، وتساءلت: ما الذي استطيع تقديمه الى هذه المؤسسة الثقافية الجديدة؟ وقررت ان أهديها معرضاً يضم 50 لوحة تشتمل على تاريخ فن الخط العربي منذ نشأته الى ذلك اليوم، فوضعت تصميماً لهذه الفكرة. وقبل شروعي بتنفيذها، رأيت انه سيكون من المناسب ارفاق هذا المعرض بدليل يوضح الجوانب التاريخية والفنية للخط العربي، فأنفقت نحو شهرين في الكتابة الى ان وصلت الى مادة الحرف والمطبعة. وهنا فوجئت بأمر لم يخطر على بالي، وهو ان حروفنا الطباعية، منذ عهد غوتمبرغ الى ذلك الزمن، قام بتصميمها اجانب ولا يد للعرب فيها، وان المحاولات المبكرة لتصميم الحروف العربية في الطباعة، باءت بالفشل، وحوربت بشدة من قبل الشركات والمؤسسات الطباعية الاجنبية. هكذا تم وأد المبادرة التي قام بها الشماس عبدالله زاخر صاحب مطبعة ضهور الشوير في لبنان، في اواخر القرن الثامن عشر. وكذلك مشروع الشاعر ابراهيم اليازجي صاحب قصيدة: "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب"، فقد حاول اختزال خطوط الآلة الكاتبة ووضع تصميماً مبتكراً في العام 1890. وقد رُفض مشروعه وقتذاك، ثم عادوا اليه بعد وفاته. * ولكن ما هو جوهر مشروعك في هذا المجال؟ - جوهر مشروعي، باختصار، يتعلق بفهم الدلالات الروحية للحرف العربي، بوصفه حالة صوتية أولاً وكتابية ثانياً. وهو ما كان غائباً عن التصميمات التي انجزها الغربيون، اذ جعلوا للحروف العربية 1500 شكل، بحجة ان الكتابة العربية موصولة الحروف، وهو أمر غير معقول وفي غاية الصعوبة. وبدأت بمغامرة استمرت ست سنوات، انطلاقاً من فهمي لشروط اللغة العربية من الناحية النحوية والصرفية، وتوصلت أخيراً الى امكانية استبدال مئات الحروف الطباعية ب14 وحدة رئيسية، و8 وحدات فرعية لحروف الطباعة العربية، وهذه الوحدات مدروسة تشكيلياً وبصرياً. ومع الاستخدام الواسع للكومبيوتر في الطباعة العربية، اشتققت من حروف الابجدية، بعضاً منها ووضعته في الاستخدام، كحرف البصرة وحرف بابل وحرف الرافدين، بما يغني المطبعة العربية بأصناف مختلفة من الخطوط، سواء في العناوين أم في المتن. الحروفية ومطب الشكلانية * ما هو تقويمك للتجارب التي استلهمت الحروفية في التشكيل المعاصر؟ - انا واحد من الذين ساهموا في محاولة تأصيل الحرف العربي كقيمة تشكيلية وبصرية. لكنني لم افعل ذلك من منطلق الموضة، بل لميلي الى المغامرة والتجريب، ولقناعتي ان من مهمة الخطاط العربي اليوم، اكتشاف الطاقات القصوى للحروف وفهم كيمياء الألوان وخصائص المواد الأولية التي يعمل عليها، وأصول التصميم، والنظر الى اللوحة الحروفية باعتبارها وحدة تشكيلية متكاملة. وعلى هذا الاساس تمكن الاستفادة من معطيات النحت في توازن الكتلة والفراغ، وبقية الفنون الاخرى. ويخيل اليّ ان معظم الاعمال الحروفية، لم تكن مبنية على اسس متينة في ما يتعلق بالخط العربي، لأن غالبية من مارس اللوحة الحروفية لم يكن خطاطاً، وهو لا يجيد الخط وأسراره ومجازاته. وأنا أميز بين ثلاثة عناصر هي: الحرف، الخط، الكتابة. فالحرف هو اساس كل الممارسات والفنون المحيطة به، بوصفه صورة للصوت اللغوي، اذ حين تقول "باء" مثلاً، يتبادر الى ذهنك صوت هذا الشكل قبل ان تنطق به. اما الخط فهو فن نسخ هذا الحرف. وأخيراً الكتابة وهي لا تتطلب منا اي جهد فني خاص، اكثر من ايصال رسالة الى الآخر. وهذه المجازات الموجودة في الخط العربي والامكانات التشكيلية التي ابدعت فيها وطورتها مجموعة من الخطاطين العرب والمسلمين منذ قرن، للأسف لم تكن متيسرة لمعظم من اتجه الى اللوحة الحروفية، ما اوقع هؤلاء في مطب الشلكانية على رغم التخريجات، التي ادعوها، كالاشارة والدلالة، والتجلي، ولم تصمد محاولاتهم، لسبب بسيط هو عدم معرفتهم بفن الخط العربي. لا يكفي ان ترسم دائرة، وتضع لها خطاً منحنياً لكي تبدو على شكل حرف "واو". وأعتقد بأن الحروفية لم تستطع ان تثبت وجودها كقيمة جمالية الى اليوم، لأنها اكتفت بالشغل على السطح ولم تتوغل في روحانية الخط وأسراره العميقة. * ماذا عن علاقة الحروفية بالتصوف؟ - ليس ثمة علاقة بين الحروفية والتصوف من الناحية التشكيلية والجمالية. هناك علاقة بين التصوف والخط، اذ حاول بعض المتصوفة اضفاء دلالات على معنى الحرف والبعد الروحي له. فالنفري يقول: "الحرف أمة من الأمم"، وهذه العبارة تفتح على أبعاد فلسفية، اشتغل عليها متصوفة آخرون مثل ابن عربي والشيخ عبدالكريم الجيلاني الذي أنجز كتاباً عن النقطة في حرف الباء الموجودة في عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم". وأرى ان هذه الشطحات ليست منطقية، ولا تتعلق بالنشاط الصوفي للحروف، وانما امتدت الى عمل التعاويذ ودراسة الأفلاك والنجوم، وكلها تنتسب الى العلوم الغيبية. * ما مدى شغلك على البعد البصري للحرف؟ - انا لا انظر الى الحرف كشكل، بل ككتلة بصرية معبرة وذات معنى، ولو تأملنا في لوحات الخطاطين الكبار، لوجدنا انهم كانوا يرصدون الجانب التشكيلي في اللوحة رصداً محكماً وبديعاً، لكن هذه المحاولات بقيت محدودة كون القاعدة الخطية هي نفسها عند كل الخطاطين. من جهتي، التفت مبكراً الى اهمية هذا الامر، وأخذت أحدق في الحروف حرفاً حرفاً، وفيها مجتمعة، وهي مركبة في لوحة، بحثاً عن الطاقة البصرية الكامنة فيها. وبعد البحث والتجريب الطويلين، اسند عملي الى شروط ثلاثة هي: الحركة، والارتكاز، والحيوية القصوى، وهو ما يمنح اللوحة الاحساس بأن هناك تناغماً مسموعاً. ولتحقيق هذه الشروط، ابتكرت خطوطاً جديدة كالخط العراقي، واستعملته في النص الذي تكثر فيه الحروف المنحنية والملتفة، ما يجعل لهذا الاغناء والالتفاف كتلة بصرية واحدة، عبر الاستفادة من معطيات الخط الديواني. اما خط "كوفي الخالص"، فهو تطوير للخط الكوفي، وعلى رغم صرامة قواعده الهندسية، فقد أفلته من عقاله واعتمدت على الايقاع البصري والموسيقي، في الصعود والنزول، المشروطين بالحركة. وهناك الخط البصري نسبة الى البصرة، وأعتمده في النصوص الكثيفة بالوحدات المستديرة مثل الواو والقاف والطاء. وللأسف فإن الخط العربي، يفتقر الى نظرية نقدية، تواكب تطورات هذا الخط وأسراره. وعلى رغم كتاب القلشقندي وأبي حيان التوحيدي وكامل البابا، الا انه لم تنشأ الى اليوم نظرية في نقد الخط العربي تضيء ينابيعه الجمالية والفلسفية وتكشف أهميته في تنمية التذوق البصري. * ما هو الحرف الذي تفضل تخطيطه، وتشعر انه قريب اليك من دون بقية الحروف؟ - لا أخفي عليك ان الحروف مبذولة عند كل الخطاطين، ويصعب التمييز بينها، إلا في ما ندر. لأن القاعدة واحدة، ولا أجد حرية التصرف في خط من الخطوط الكلاسيكية، وهو ما جعلني اخترع خطوطاً جديدة تتيح لي حرية التجريب وفتح فضاءات جديدة تطيح بقدسية الخطوط الكلاسيكية المعروفة. وإذا أردت ان اذكر حرفاً مفضلاً لدي، ربما سأختار حرف النون، فهذا الحرف يثيرني في تكوينه. وقد اكتشفت بالمصادفة ان انحناء النون، يتطابق تماماً مع انحناء الدائرة في أبعاده، الامر الذي صعقني، وصرت كلما رسمت حرف النون، أقيس محيطه فأجده مثل محيط الدائرة، الى ان اقتنعت تماماً بهذا التشابه. وعموماً فإنني احس اليوم ان القصبة هي التي تخط، اما اليد فتنبهني الى ان اقف او أكمل، فحين لا يتطابق احساسي الداخلي مع شكل الحرف، أشعر على الفور بخطأ ما، ينبغي تلافيه على الفور.