تشهد ظاهرة العنف انفجارا في العالم؟ لسببين: الأول هو انه لا يعد ممكناً ببساطة تجاهل الزيادة الكبيرة في اعداد الجثث .... والثاني لأنه خلال السنوات العشر الأخيرة، زادت معدلات الجريمة حول العالم بنسبة 50 في المئة أو أكثر. فقد قفزت هذه النسبة في البلدان الصناعية بنحو 15 في المئة، بينما بلغت الزيادة أكثر من 80 في المئة في أميركا اللاتينية و112في المئة في العالم العربي. في السنوات ما بين 1990 و1994، زادت معدلات الجرائم في العالم بنسبة 8.86 في المئة لكل مئة ألف نسمة. وحدها منطقة آسيا - المحيط الهادئ أظهرت انخفاضاً في النسبة. وآخر الأرقام المتوافرة حول هذه الظاهرة، تشير الى حدوث اكثر من 40 جريمة قتل لكل مئة ألف نسمة في الصحراء الجنوبية الافريقية، تتبعها اميركا اللاتينية بنسبة 23 جريمة لكل مئة ألف نسمة. أما اعلى النسب فهي موجودة في جوهانسبورغ 115 جريمة وكالي 91 جريمة لكل مئة ألف نسمة. هذا السر المعروف لذلك الاتجاه الدموي المتصاعد، يثير اسئلة عدة: ما الذي سبّب هذه الطفرة في العنف في اجزاء واسعة من العالم؟ وهل ستكون هذه ظاهرة دائمة أم موقتة؟ في محاولة الاجابة على هذين السؤالين ينقسم العلماء الى معسكرين: على ضفاف الجبهة الاولى يقف علماء الحياة البيولوجيا، الذين ينحون بكل لائمة العنف على الهرمونات الكيماوية. وفي الجبهة المضادة، يقف علماء الاجتماع والبيئة والاقتصاد في جبهة متراصة مناوئة بعنف لفكرة "الحتمية البيولوجية". ماذا يقول كل من هذين الفريقين؟ يقول البيولوجيون إن الرجال والنساء يختلفون بيولوجياً لأن الرجال ينتجون عشر الى عشرين مرة اكثر هرمونة "التستوستيرون"، هذه المادة الكيميائية التي تؤثر بعمق على الشكل والسلوك والمزاج وفهم الذات. ولأن البشر كائنات اجتماعية أيضاً، من السهل ان ننسى، برأي هؤلاء، ان البيولوجيا تقع في جذر هذه المسألة وانها تؤثر على كل ناحية من نواحي حياتنا الاجتماعية: من معدلات الطلاق العالية الى عنف المراهقين الشبان ورياضة اللياقة البدنية والمصارعة الحرة. والتستوستيرون مادة كيميائية قريبة جداً من الكولستيرول. وتم عزلها للمرة الأولى بنجاح من جانب عالم دانمركي سنة 1935 من خصيتي فأر، ثم ركبت بنجاح على يد عالم البيولوجيا الالماني ادولف بوتنانت. هرمون النساء وعلى رغم ان التستوستيرون غالباً ما يقدم على انه تعريف للذكورة، إلا أن النساء ينتجن منها أيضاً في مبيضاتهن وفي الغدد المنتجة للادرينالين. وفي المقابل يحوّل جسم الذكر بعض التستوستيرون الى استراديول، وهي هرمونة انثوية. ويمتلك جسم المرأة متلقيات للتستوستيرون مثل جسم الرجل تماماً. ولهذا السبب تحقن النساء اللواتي يرغبن بتغيير جنسهن بالتستوستيرون فتشهدن تغيرات ذكورية، كخشونة الصوت والشعر على الوجه وحتى سقوط شعر الرأس. كل جنين يكون في البداية انثى، ويبقى كذلك ما لم تتعدل تركيبته الهرمونية. وهو يحتاج الى التستوستيرون لتحويل الجنين الانثوي الى ذكر. ويشهد الذكور موجتين عارمتين من التستوستيرون خلال حياتهم: الاولى تحدث في الرحم بعد ستة اسابيع على تلقيح البويضة، وتؤهل الدماغ والجسم على المعرفة الغريزية لكيفية الاستجابة للموجة الثانية التي ستأتي عند المراهقة، والتي تحدث التغييرات التي نعرف. ومن دون التستوستيرون يظل البشر جميعهم اناثاً. وبما انه يمكن قياس معدلات التستوستيرون في الريق كما في الدم، تمكن باحثون من تجميع معلومات حول التغيرات المتعلقة بكميات التستوستيرون. وقد لوحظ انها مرتبطة لدى الرجال والنساء على السواء بالسيطرة ومظهر الثقة وتقدير الذات. وفي اغلب البيئات التي تتطلب مقدرة تنافسية، خصوصاً في المجال الجسدي، نجد ان من يتمتع بمعدلات تسوستيرون عالية هو الذي يربح. وإذا ما وضعنا رجلين في غرفة واحدة معا، فأن من يحمل معدلات عالية من التستوستيرون هو الذي يسيطر على الجلسة. أما النساء العاملات فإنهن يتمتعن بمعدلات اعلى من التستوستيرون من النساء اللواتي يبقين في المنزل. كما ان بناتهن ايضاً يحملن معدلات اعلى من هذه الهرمونة من بنات النساء اللواتي لا يعملن. وفي دراسة اجريت على 700 سجين، تبين ان من يحمل منهم معدلات تستوستيرون عالية، كانوا اكثر اشتباكا مع سلطات السجن واشتركوا في احداث عنف من دون اي سبب مباشر لها. وهذا الأمر يصح أيضاً على النساء نزيلات السجون كما بينت دراسة اجريت على 87 امرأة سجينة. قوة واثارة ويقول الباحث الاميركي اندرو لوليتان إن التستوستيرون وجد اساساً خلال عملية التطور البشري لمساعدة الانسان في عمليات الصيد والحرب. فهو يزيد القوة والاثارة، كما الادرينالين، توقعاً للحرب النفسية أو الجسدية، ويساعد على الانتصار. وأشار بعض الدراسات الى ان شبان المدن الذين يعيشون في مناطق تكون معدلات الجريمة مرتفعة فيها، غالباً ما ترتفع معدلات التستوستيرون لديهم اكثر من رفاقهم الذين يعيشون في مناطق آمنة. وهكذا فإن معدلات التستوستيرون العالية قد لا تكون فقط مجرد استجابة لبيئة عنيفة، بل انها قد تزيد من حلقة العنف. وفي المقابل، فإن تدني العنف والجريمة قد يسمح بتدني معدلات التستوستيرون بين شبان المدن، مولداً اتجاهًا لتقليص اضافي لمعدلات الجرائم ونسبة الولادات. الداروينيون الجدد يقولون إن النواحي الجنسية والعدوانية في التستوستيرون مرتبطة بتقسيم العمل لدى الانسان القديم قاطف الثمار والصياد. وهذا التقسيم، حيث الرجال اساساً يصطادون والنساء يجمعن الثمار، هو الذي شجع حدوث اختلاف في مستويات التستوستيرون. فالنساء يحتجن بعضا منها للدفاع عن ذاتهن ولاكتساب قوة ومواجهة بعض المخاطر من آن الى آخر، ولكن ليس بقدر ما يحتاجها الرجال. فالرجال يستخدمونها لزيادة مقدرتهم على هزيمة منافسيهم، والاستجابة للتهديدات الجسدية في بيئة غريبة، وزيادة جاذبيتهم الجسدية، مما يخولهم نشر مورثاتهم جيناتهم حتى اوسع حلقة ممكنة والدفاع عن مساكنهم اذا ما اضطر الأمر. إن الفرق بين الرجال والنساء، برأي البيولوجيين، فرق حقيقي، ومن دون ذلك الفرق قد يكون من الصعب فهم الأرقام التي تصدرها وزارات العدل في العالم. ففي الولاياتالمتحدة وحدها اعدم 98 شخصاً السنة الماضية كانوا جميعهم رجالاً. وكان 55في المئة ممن القي القبض عليهم سنة 1998 من الشبان تحت سن الخامسة والعشرين، أي السنوات التي تشهد اعلى معدلات التستوستيرون الطبيعية لدى الشباب. وتبعاً لذلك، كما يقول الباحث سوليفان لا يعود من دواعي الدهشة ان تكون المهن العسكرية والرياضات العنيفة والحملات الاستكشافية الخطرة والمغامرات الرأسمالية والسياسة والمقامرة، مجالات يخوضها الرجال اساساً. ويضيف: "ان المجال السياسي هو الأكثر اثارة، لأنه الحلبة الدقيقة لتوزيع السلطة. واذا ما دققنا للحظة كيف تقاد اللعبة السياسية في مجتمعاتنا، سنجدها مشبعة بالمعارك والانا والنزاعات والمخاطرة . إن حياة باكملها يمكن ان تضيع بسبب خطأ واحد يحدث بسبب التستوستيرون...". نظريات اجتماعية هذا عن "الحتميات التستوستيرونية"، فماذا عن النظريات الاجتماعية؟. يقول انصار هذه النظريات إن أنواع العنف ليست متساوية. فالسمات التي تميز عنف تاجر المخدرات النيجيري او الانتحاري التاميلي، لا علاقة لها الا قليلاً بعنف التلميذ الاميركي المسلح او الزوج العنيف. في الحالتين الأوليين يكون العنف مدروسا وذا أهداف مختلفة، اما في الحالتين الاخيرتين، فغالباً ما يكون العنف هو الهدف بحد ذاته. ويضيفون ان هناك عوامل شخصية وعائلية واجتماعية وراء اشكال العنف المختلفة. فالعوامل البيولوجية - كالاضرار العصبية في الرحم - قد تؤهل طفلاً إلى العنف، بينما الاهمال العاطفي او الاساءة الجسدية في سنوات الطفولة الاولى قد تؤدي الى النتيجة ذاتها، إذ تؤثر على تطور ونمو الجهاز العصبي. كما ان العائلات قد تعلّم اولادها الاعتداء: فالآباء والأمهات الذين يمارسون عنفاً على أولادهم ينقلون سلوكياتهم اليهم ومنهم إلى الشارع. وإذا كانت الطبيعة الانسانية والتربية والثقافة كلها عوامل مفيدة لفهم جذور العنف السلوكي، إلا أنها لا تساعد على تفسير الارتفاع الحاد لأعمال العنف في العشرين سنة الاخيرة. وهنا، كما تشدد مايرا بوفينيتش واندرو موريسون خبيرا مسائل العنف في بنك "انتر اميريكان"، يتعّين بنا درس الوقائع الديموغرافية التي تهيئ المسرح لتزايد العنف في العالم. فالجريمة - بما فيها الجريمة العنيفة - تنحو الى ان تكون في أعلى قمة لها في سن مبكرة. والشبان بين سني 18 و24 يرتكبون نسبة مهمة من الجرائم العنيفة ويشكلون الحصة الاكبر في ضحايا الجرائم. ولا تختلف هذه الارقام كثيراً بين مختلف الثقافات. النمو الديمغرافي يزيد من تعداد الشباب، أي ذلك الجزء من المجتمع الاكثر نزعة لممارسة العنف. ونسبة السكان الذين تبلغ اعمارهم ما بين 15 و24 سنة ازدادت في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ واميركا اللاتينية والبلدان الصناعية، ووصلت الى اعلى معدلاتها في أوائل الثمانينات، نتيجة زيادة عدد سكان الارض في الستينات والسبعينات وانخفاض معدلات وفيات الاطفال. وقد تطابقت زيادة هذه النسبة من الاعمار مع بداية ارتفاع ظاهرة العنف. وعلى رغم أن تعداد الشباب اخذ بالانخفاض في اغلب مناطق العالم، إلا أن معدلات الجرائم لم تنخفض. وهذا برأي بوفينيتش وموريسون من شأنه ان يبين سمة اساسية في السلوك العدواني وهي: متى حدث السلوك العدواني فهو ينزع الى الحدوث مجدداً. فالعنف يولد العنف، إذ يتعلم المجتمع بأسره ان يحل نزاعاته باللجوء الى العدوان. ويقول علماء أجتماع آخرون إن هناك مسألة اخرى تثير التساؤلات، وهي تأثير الكثافة السكانية على نزعة السلوك العدواني. فثلث سكان العالم يعيشون منذ سنة 1975 في المدن. وهذه النسبة ستتضاعف بحلول سنة 2025 . ونجد هنا ان نسبة الجرائم مرتبطة بشدة بحجم المدينة. فالازدحام يزيد من حدة السلوك غير الاجتماعي ويسهل احساس المرء بأنه مجهول الهوية ويدفعه الى تقليد السلوكيات العنيفة. المدن الكبيرة تنمي الاحساس بفقدان التماسك الاجتماعي والحس الجماعي اللذين من شأنهما لجم العنف الفردي. العولمة تولد العنف وبينت دراسة أجريت على 168 مدينة في الولاياتالمتحدة ان التفكك الاجتماعي الذي قيس بنسبة الطلاقات والفقر، كانا اهم عاملين يشرحان زيادة الجرائم بين غير الاميركيين في أوائل الثمانينات. لكن الديموغرافيا ليست العامل الوحيد المسبب للعنف، برأي انصار المدرسة الاجتماعية. الى ذلك يجب أن تضاف الهوة الفاصلة بين البلدان الغنية والفقيرة، والتي اتسعت اكثر من أي يوم مضى خلال العقدين الماضيين. كما شهدت السنوات العشرون الأخيرة تفاوتاً حاداً في الدخول في البلد الواحد أيضاً. فالتفاوت في الاجور ارتفع في اميركا اللاتينية وبلدان الكتلة السوفياتية السابقة واغلب بلدان منظمة التعاون والنمو الاقتصادي. وأظهرت دراسة حديثة اجراها البنك العالمي على اكثر من 50 بلداً علاقة واضحة ما بين زيادة التفاوت في الدخول وزيادة نسب الجريمة. أما "التقرير الشامل حول الجريمة والعدالة" الصادر عن الاممالمتحدة سنة 1999 فينتهي الى القول بأن الضغط الاجتماعي والاقتصادي الذي قيس بمعدلات البطالة واللامساواة وعدم الرضا عن الدخل هو عامل أساسي في تفسير المتغيرات المتعلقة ب"بجرائم الملامسة" بين مختلف بلدان العالم ويقصد بجرائم الملامسة تلك المتعلقة بالاعتداءات والتهديدات والعنف الجنسي والسرقة. ويبدو ان الفقر أيضاً يولد معدلات اعلى من العنف. بيد ان الفقر بحد ذاته ليس هو السبب، بل هو يترافق مع مجموعة من الميزات كالكثافة السكانية، وكثرة قاطني المسكن الواحد، وقلة الرعاية بالطفولة والمرأة الحامل. وكل هذه عوامل مشجعة للعنف. التطور السريع في تقنية الاتصالات يكشف كذلك جانباً آخر قاتماً: اتساع الاتصالات العالمية جعل تفاوت الدخول مرئياً بوضوح بين من "يملكون" ومن "لا يملكون" في العالم. كما ان انفجار شبكات الإعلام العابرة للقارات حمل صور هوليوود الى اقاصي العالم، وهي صور تقدم نماذج عنيفة للأطفال. ويربط تقرير الأممالمتحدة زيادة صناعة المخدرات والاتجار بها والجرائم المرافقة لها بالعولمة. ففي اواسط الثمانينات ارتفع انتاج المخدرات ارتفاعاً حاداً في العالم: فانتاج أوراق الكوكا تضاعف، وازداد انتاج الافيون ثلاث مرات خلال التسعينات. وقدرت تجارة المخدرات بحوالي 400 مليار دولار أي حوالي 8 في المئة من التجارة العالمية. في سنة 1995، وذلك دافع مهم لاستخدام العنف "المحسوب". ويوجد اليوم في العالم 200 مليون مستهلك للمخدرات، يعاني العديد منهم من اعطال عصبية تؤدي الى سلوك عنيف لديهم. كما ان دراسة اجريت في بريطانيا بينت ان دوافع نصف السرقات تتعلق بالمال الذي يحتاجه المدمن لشراء المخدرات. أي المدرستين على حق: انصار التيستوستيرون، ام خصوم العولمة والتزايد السكاني؟ هذا السؤال ليس مجرد رياضة ذهنية. إذ في طريقة الأجابة عليه سيتحدد مصير الجنس البشري: انتصار النظريات البيولوجية، وبالتالي بدء العبث بالهندسة الجينية للبشر، تمهيداً لولادة العالم الذي حذر منع جورج اورويل من ولادته: عالم "مزرعة الحيوانات" و"الأخ الأكبر". فوز النظريات الاجتماعية التي تحث على وضع البرامج الهادفة الى تطوير العناية بالطفولة وادخال الوقاية من العنف في البرامج الدراسية، وتحديث المحيط المدني وتنظيم بيع الكحول والاسلحة الفردية والقيام بحملات توعية ضد العنف المنزلي. هذا بالطبع اضافة الى مكافحة الفقر والزيادة السكانية في العالم. وبانتظار ان تحسم البشرية أمرها حيال هذين التوجهين، لا يبدو ان امامنا نحن المواطنين العاديين من خيار آخر سوى مواصلة التساؤل عن الاسباب الحقيقية للعنف، فيما نقوم باحصاء اعداد ضحاياه!