يرى ترمب في رسومه وحربه التجارية حمايةً للاقتصاد الأميركي، فإنها قد تمثل فرصة لنا كعرب في الاعتماد على أنفسنا في إنتاج ما نحتاج من غذاء ودواء وسلاح، وسد حاجة الأسواق المحلية وتوطين الصناعة، كما أن السيطرة على الغذاء تُعادل ممارسة القوة. ولعل ما يهم الدول العربية والمواطن العربي في هذا السياق هو تأثير هذه الرسوم على اقتصادهم وحياتهم، كون هذه الأجواء كما أنها تمثل تحدياً كبيراً لكثير من الاقتصادات العربية إلا أنها في الوقت ذاته تحمل في ثناياها فرصة كبيرة لاقتصاداتنا العربية، فكما يرى ترمب في رسومه وحربه هذه حمايةً للاقتصاد الأميركي وتعزيزاً للصناعة المحلية الأميركية، غير عابئ بما لهذه القرارات من تبعات وآثار ومخاوف كبيرة من حدوث أزمة اقتصادية عالمية نتيجةً لارتفاع تكاليف الاستيراد والتصدير، وانخفاض حجم التجارة الدولية، فإنها قد تمثل فرصة لنا كعرب في الاعتماد على أنفسنا في إنتاج ما نحتاج من غذاء ودواء وسلاح وسد حاجة الأسواق المحلية وتوطين الصناعة وتلبية احتياجاتنا والاهتمام بقطاعات الصناعة الحيوية كافة، فضلاً عن تنويع شركائنا التجاريين، وتقليل الاعتماد على السوق الأميركية، بحثًا عن استراتيجيات بديلة لحماية اقتصاداتنا من تداعيات هذه السياسات الجمركية العشوائية. لا يخفى على المتابع أن ترمب يضع ضمن أهدافه من فرض الرسوم الجمركية وإشعال هذه الحرب التجارية جعلها وسيلة للضغط على الآخرين لتحقيق مكتسبات أو أهداف سياسية تحسب للإدارة الأميركية الجديدة، غير أن هذه الرسوم التجارية وإن كانت آثارها المباشرة ليست بالكبيرة على الدول العربية إلا أن لها تأثيراً عنيفاً غير مباشر على كثير من دولنا نتيجة ما ستحدثه من موجات تضخمية ستؤدي بطبيعة الحال إلى ارتفاع أسعار العديد من المنتجات التي تستوردها الدول العربية، فضلاً عن اهتزاز الأسواق والبورصات وتذبذب أسعار العملات واضطراب أسعار النفط والغاز. وفي هذا السياق لا ينقص العرب أدوات مواجهة ذلك الخطر، وعلى رأسها أداة الاستثمار الداخلي والإقليمي مع دول الجوار، استغلالاً لما تمتلك بلادنا من ثروات بشرية وطبيعية، عبر التكامل فيما بينها وداخلياً لكل دولة على حدة، لإقامة الصناعات الضرورية واستصلاح الأراضي ومشروعات الإنتاج الحيواني وتوطين المشروعات التقنية ومشروعات الطاقة بما يسد احتياجات الأسواق العربية ويوفر آلاف فرص العمل. لا شك أن الطريق لمجابهة هذه العقبات التي فرضتها رسوم ترمب ليس مفروشاً بالورود وأن فرض الرسوم الجمركية والحواجز التجارية يمثل العديد من التحديات أمام دولنا العربية والدول النامية عموماً، ويؤكد ذلك التوقعات الاقتصادية الحذرة التي أطلقها صندوق النقد الدولي مؤخراً بشأن مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ حذر من أن التوترات التجارية بين الولاياتالمتحدةوالصين والاتحاد الأوروبي ستترك آثارًا سلبية كبيرة على دول الشرق الأوسط، حيث أظهرت التوقعات لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفاضًا في معدلات النمو، لتبلغ 2.6 % هذا العام و3.4 % للعام المقبل، وتعكس هذه التعديلات الانخفاضات المتوقعة في الاقتصاد العالمي بسبب الرسوم الأميركية والتدابير المضادة. ولمواجهة هذه التحديات، فدولنا العربية بحاجة إلى إصلاح السياسات والتنظيمات وضرورة تحسين بيئات العمل، من خلال تنفيذ إصلاحات تنظيمية لجذب الاستثمارات الأجنبية وتبسيط الإجراءات وحماية حقوق الملكية وتعزيز الشفافية، وجميعها عوامل تشجع الشركات الكبرى على الاستثمار في دولنا، مما يساعد في التخفيف من الآثار السلبية للصراع التجاري، إضافة إلى تنويع الشركاء التجاريين، حيث يعد توسيع العلاقات التجارية خارج نطاق الولاياتالمتحدة وسيلة لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات الاقتصادية، كما أن التعامل مع الأسواق الناشئة والاقتصادات المتقدمة يساعد على إيجاد نظام تجاري أكثر توازنًا، مما يقلل الاعتماد على أي طرف واحد. وإضافة إلى ذلك من الضروري العمل على تعزيز التحالفات الإقليمية، إذ يمكن أن تسهم اتفاقيات التجارة الإقليمية في تعزيز الآفاق التجارية وتوفير قوة تفاوضية جماعية، كمبادرات مثل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA) أو الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) بما يعزز التجارة والاستثمار داخل المنطقة، ويُمكّن الدول من التعامل مع الضغوط الخارجية بشكل أفضل، هذا فضلاً عن ضرورة الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية، عبر إعطاء الأولوية للاستثمارات في التكنولوجيا والبنية التحتية بما يُعزز القدرة التنافسية ويسهم في تحسين الخدمات اللوجستية، وأسلوب الإنتاج الفعّال، والوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة ما يساعد في تعزيز القدرة على مواجهة الصدمات الخارجية بشكل أكثر فاعلية. ولا أدلّ على واقعية الطرح القائل بإمكانية استغلال أجواء هذه الحرب التجارية لصالحنا مما نراه في المملكة من واقع معاش حالياً، حيث قدمت المملكة العربية السعودية بشأن جهود تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي نهجاً رصيناً وسرديةً مُضادةً ومقنعة، فمن خلال الاستثمار الكبير في الزراعة المحلية سعت المملكة إلى تقليل الاعتماد على المصادر الخارجية، وبالتالي تعزيز الأمن الغذائي الوطني، ويُبرز هذا التحوّل الاستراتيجي أهمية السيادة في إنتاج الغذاء، ويُسلّط الضوء على قدرة الدول العربية على رسم مساراتها الخاصة في مواجهة ضغوط التجارة العالمية. إن السيطرة على الغذاء تُعادل ممارسة القوة، والولاياتالمتحدة أول من يدرك ذلك، وتعلم أنه من خلال تعزيز الاعتماد على صادراتها الأميركية، لا تضمن الولاياتالمتحدة مصالحها الاقتصادية فحسب، بل تُعزز أيضًا نفوذها الجيوسياسي، في المقابل ضربت المملكة مثالاً مُضاداً قوياً لهذا النموذج، حين قررت السير نحو الاكتفاء الذاتي الزراعي منذ عهد الملك فهد، متحديةً بذلك التوصيات الأميركية التي كانت تفضل الاعتماد على الخارج، فاستثمرت الحكومة السعودية بكثافة في الزراعة المحلية، مركزةً على مبادرات من شأنها تعزيز قدرات الإنتاج المحلي، وأدت هذه الاستثمارات إلى تطورات ملحوظة في التكنولوجيا وأنظمة الري والممارسات الزراعية، مما أدى إلى زيادة الغلة وتقليل الاعتماد على الأغذية المستوردة فضلاً عن خلق فرص العمل، ورعاية الصناعات المحلية، ودمجها في القطاع الزراعي الرئيس، كما أسهمت في تعزيز الفخر الوطني والقدرة على الصمود في وجه تقلبات السوق العالمية. وأثبت نهج المملكة المرتكز على أهمية السيادة الوطنية إمكانية واستطاعة الدول العربية تحقيق الاكتفاء الذاتي ولو بنسب مختلفة من خلال التخطيط الاستراتيجي والاستثمار بدلًا من الاعتماد على المصادر الخارجية، وبذلك تمثل هذه السياسة الناجحة درسًا قيمًا للدول الأخرى، لا سيما تلك التي تمر بظروف جيوسياسية مماثلة، مع التأكيد على أن إعطاء الأولوية للتنمية المحلية يُمكن أن يؤدي إلى أمن مستدام وتمكين اقتصادي إذا توفرت الإرادة السياسية. والخلاصة، إن الصراع التجاري الحالي الذي تنتهجه الولاياتالمتحدة وما يقابله من ردود فعل قوية من الصين ودول الاتحاد الأوروبي وغيرهما من الدول، كما أنه يمثل مجموعة معقدة من التحديات للدول العربية والنامية كزيادة تكاليف الاستيراد وانخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين مما يؤثر على الاستهلاك والتأثير المباشر على التجارة والعلاقات الاقتصادية بين الدول، إلا أنه في المقابل يتيح فرصاً كبيرة نحو النمو الاقتصادي المستدام وتنمية الصناعات المحلية وجعلها أكثر تنافسية وزيادة فرص العمل وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وذلك عبر استراتيجيات كالتنويع والتعاون الإقليمي والاستثمار في البنية التحتية. وعليه، فدولنا العربية والإسلامية مدعوة إلى اتخاذ موقف جماعي يُبرز قوة تحالفها الإقليمي في مواجهة الضغوط الخارجية والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، من خلال تعزيز التعاون فيما بينها، بما يمكّنها من تشكيل جبهة متحدة تُعزز قوتها التفاوضية على الساحة العالمية. وبالتالي، فإن قدرة دولنا العربية على النجاح في التعامل مع التعقيدات الخاصة بديناميات التجارة العالمية ستحدد مساراتها الاقتصادية في عالم آخذ في التزايد من حيث الترابط، ومن خلال خلق بيئة تعاونية ورؤية مستقبلية يمكن لنا السعي لتحقيق مزيد من الاستقرار والازدهار وسط تقلبات التجارة العالمية، وفي ظل هذا المشهد المعقد يصبح من الضروري للدول العربية تبني نهج متوازن يعالج التحديات المباشرة ويستفيد من الفرص الناشئة لتحسين مواقفها، والتخفيف من الآثار السلبية، وتعزيز مرونتها الاقتصادية في مواجهة التحولات العالمية المستمرة. * أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية في جامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة.