يمر المسافر بين عمانوالقدس بمنطقة سحيقة يصل انخفاضها الى 412 مترا تحت سطح البحر .. انها غور الاردن على ضفتي نهر الاردن، وفيها تقع اخفض بقعة في العالم: البحر الميت المعروف تاريخيا بانه احدى عجائب الدنيا لملوحته الشديدة ولانه اخفض نقطة على وجه الارض. ويقول الخبراء ان منطقة الاغوار الاردنية تشكلت منذ حوالي 15 مليون سنة بعد حدوث صدع الشرق الاوسط - البحر الاحمر - شرق افريقيا، مشيرين الى ان منطقة حوض البحر الميت كانت مسكونة منذ فترات موغلة في القدم ومرت عليها احداث تاريخية كثيرة فتعددت الاسماء التي اطلقها السكان على البحر الذي لا يزال يحمل الاسم نفسه الذي اطلقه عليه اليونان القدماء، لكن العرب اطلقوا عليه اسماء اخرى كثيرة مثل بحيرة لوط وبحر زغر والبحر النتن وبحر عربة ووادي الملح وبحر سدوم. ويؤكد عبد القادر عابد من قسم الجيولوجيا في الجامعة الاردنية ان البحر الميت كان موجودا قبل ملايين السنين من حادث الخسف الذي اصاب قوم لوط، وحسب المراجع الدينية فان لوطا عليه السلام جاء من ارض بابل بعد ان امن بالنبي ابراهيم عليه السلام وهاجر معه الى الارض المقدسة - فلسطين، فنزل في مدينة سدوم عاصمة مدن المنطقة لكن الفاحشة شاعت في تلك المدائن "ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة، ما سبقكم بها من احد من العالمين" سورة الاعراف غير انهم استمروا في اتيان المنكر فجاء عقاب الله لهم بان امطرهم حجارة من سجيل وكبريتا ونارا من السماء، ونظرت امرأة لوط وراءها فصارت عمودا من ملح يعتقد السكان المحليون بانه لا يزال ينتصب مطلا على البحر الميت منذ سنة 1900 قبل الميلاد. ويقول المؤرخ يوسيفوس الذي زار المنطقة في اواخر القرن الميلادي الاول "كانت هذه البلاد مباركة .. لكن مدنها الان محروقة ويقال انها احرقت بالصواعق نتيجة فجور اهلها وشرهم"، ويضيف ياقوت الحموي في كتابه "معجم ا لبلدان" ان "البحيرة المنتنة تقع غربي الاردن قرب اريحا ، وهي بحيرة ملعونة لا ينتفع بها في شيء ولا يتوالد فيها حيوان". والحقيقة ان مياه البحر الميت تتميز عن غيرها من البحار بشدة ملوحتها التي تتزايد سنة بعد اخرى حيث تصل نسبتها حاليا الى 350 غراما من الاملاح في كل كيلوغرام من الماء مقارنة بحوالي 40 غراما في البحار والمحيطات الاخرى، مما يؤدي الى انعدام الحياة البحرية تماما، وقد عكس القدماء تلك الظاهرة في خريطة القدس الفسيفسائية الموجودة في مدينة مادبا والتي يرجع تاريخها الى اواخر القرن الميلادي الخامس، بان رسموا الاسماك تسبح في نهر الاردن لكنها عند مصبه في البحر الميت تعود ادراجها بعكس التيار بحثا عن الحياة في المياه الحلوة. غير ان البحر الميت اليوم بات مصدرا مهما غنيا بالمعادن اللازمة للتنمية الزراعية والصناعية وكذلك لمعالجة الحالات الطبية المختلفة مثل داء الصدفية والفطريات. ويعود زوار البحر الميت بخبرة فريدة من نوعها في السباحة والعوم اذ ان الكثافة العالية للماء تجعل الغطس شيئا مستحيلا كما ترفع المياه السابح عاليا وتجعل من الصعب عليه التحرك بسهولة. وتقع على الشواطئ الاردنية للبحر الميت منتجعات عدة تتوافر فيها مرافق الاستحمام والعلاج. وتنافس منتجات البحر الميت الاردنية من املاح طبيعية ومراهم وطين مثيلاتها الاسرائيلية لجودة المواد الخام في الجانب الاردني والتي تتوافر فيها مادة المغنيزيوم بنسب عالية، وتعمل في الاردن الان اكثر من خمسين شركة في انتاج سلع مختلفة من املاح البحر الميت تسوق عالمياً. ويخشى خبراء الجيولوجيا من اضمحلال البحر الميت اذا استمرت نسب التغذية السنوية بالمياه في التناقص مقارنة بحجم الاستنزاف نتيجة التبخر الطبيعي او الاستعمال الصناعي. ويقول الدكتور الياس سلامة استاذ الجيولوجيا في الجامعة الاردنية انه في بداية الستينات كان منسوب البحر الميت يبلغ 392 مترا تحت سطح البحر لكنه بات اليوم 412 مترا. ويحذر سلامة من ان استمرار نسبة انخفاض المنسوب هذه يعني ان البحر الميت سيفقد في غضون الخمسين عاما المقبلة ثلث مساحته لتصبح 650 كيلومترا مربعا في مقابل حوالي الف كيلومتر مربع في بداية الستينات. وتفيد الاحصاءات بان كمية المياه التي تصب في البحر الميت حاليا تبلغ 300 مليون متر مكعب سنويا في مقابل 1700 مليون متر مكعب قبل اربعين عاما. ويرجع هذا الانخفاض في المقام الاول الى الاستخدام المفرط للمصادر المائية المغذية للبحر وفي مقدمها نهر الاردن ونهر اليرموك بعد تحويل اسرائيل مجرى الاول منذ العام 1964. وتراجع طول البحر الميت في السنوات العشر الأخيرة من 80 كيلومترا الى 75 كلم وعرضه من 10-20 كيلوترا الى 6-16 كلم. ومع تدني كمية المياه فيه ترتفع نسبة الملوحة ويزداد انخفاضه تحت سطح البحر، فبعدما كان يقل عن هذا المستوى 8،393 مترا في العام 1865 ارتفع في العام 1929 الى 8،388 ثم عاد الى الانخفاض في العام 1977 ليصل الى 412 مترا، وادى ذلك الى انخفاض منسوب عيون المياه الحارة المجاورة للبحر مثل حمامات ماعين المعدنية والى حدوث عشرات الحفر العميقة في المنطقة. ويعتقد الخبراء ان شق قناة بين البحر الاحمر والبحر الميت هو الحل الانسب لانقاذ هذا الاخير واعادة التوازن الى منسوبه. وتقدر دراسة للبنك الدولي كلفة المشروع بنحو مليار دولار علما ان طول القناة لن يتعدى 20 كليومترا يمكن ان يستفاد منها ايضا في توليد الكهرباء وتحلية 850 مليون متر مكعب من المياه سنويا. ويدعو الخبراء الاردنيون منظمة اليونيسكو الى المساهمة في تمويل المشروع لتجنيب البحر الميت خطر الزوال التدريجي، معتبرين ان لمنطقة البحر الميت قيمة تاريخية وانسانية كبيرة لا سيما انها شهدت عمادة السيد المسيح