البديوي يرحب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعم طلب عضوية دولة فلسطين    العطاوي: سنكمل نجاحات غرفة الرياض التجارية ونواكب المرحلة وتطلعات القيادة    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة معالي الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    رابطة العالم الإسلامي ترحب بتبنّي الأمم المتحدة قراراً يدعم طلب عضوية دولة فلسطين    الهلال ينهي تحضيراته للحزم    شرطة مكة تقبض على مصريين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    شرطة الرياض: القبض على (5) أشخاص لمشاجرة جماعية بينهم    جمعية الرواد الشبابية تنظم دورة "فن التصوير" في جازان    وزير الشؤون الإسلامية يدشن المنصة الدعوية الرقمية في جازان    رومارينهو: الخسارة بهذه النتيجة شيء ⁠محزن .. و⁠⁠سعيد بالفترة التي قضيتها في الاتحاد    ترقب لعودة جيمس مدافع تشيلسي للعب بعد خمسة أشهر من الغياب    إنترميلان يكرر إنجاز يوفنتوس التاريخي    الاتفاق يقسو على الاتحاد بخماسية في دوري روشن    إيغالو يقود الوحدة بالفوز على الخليج في دوري روشن    موعد مباراة الإتحاد القادمة بعد الخسارة أمام الاتفاق    «سلمان للإغاثة» ينتزع 719 لغماً عبر مشروع "مسام" في اليمن خلال أسبوع    سورية: مقتل «داعشي» حاول تفجير نفسه في السويداء    بعد تصويت الجمعية العامة لصالح عضوية فلسطين.. ما هي الخطوات القادمة لتنفيذ القرار؟    رئيس جمهورية المالديف يزور المسجد النبوي    "كنوز السعودية" بوزارة الإعلام تفوز بجائزتي النخلة الذهبية في مهرجان أفلام السعودية    وزير الشؤون الإسلامية يفتتح إدارة المساجد والدعوة والإرشاد بمحافظة فيفا    "العقار": 19 ألف عملية رقابة إلكترونية ب4 أشهُر    النفط يرتفع والذهب يزداد بريقاً    30 ألفاً ينزحون من رفح يومياً.. والأمم المتحدة تحذر من «كارثة هائلة»    إتاحة باب الانتساب لنزلاء السجون الراغبين في إكمال دراستهم بالشرقية    جامعة الملك سعود توعي باضطرابات التخاطب والبلع    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خيرية آل عبدان في ذمة الله    استمرار هطول أمطار رعدية متوسطة على معظم مناطق المملكة    بيئات قتالية مختلفة بختام "الموج الأحمر 7"    رسالة رونالدو بعد فوز النصر على الأخدود    العرب ودولة الإنسان    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    الشاعرة الكواري: الذات الأنثوية المتمردة تحتاج إلى دعم وأنا وريثة الصحراء    حين يتحوّل الدواء إلى داء !    أدوية التنحيف أشد خطراً.. وقد تقود للانتحار !    مصير مجهول للمرحلة التالية من حرب روسيا وأوكرانيا    ب 10 طعنات.. مصري ينهي حياة خطيبته ويحاول الانتحار    جمال الورد    مفوض الإفتاء في جازان يشيد بجهود جمعية غيث الصحية    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    رَحِيلُ البَدْرِ    «البعوض» الفتاك    رئيس جامعة جازان المكلف ⁧يستقبل مدير عام الإفتاء بالمنطقة    تعزيز الاستدامة وتحولات الطاقة في المملكة    أمانة الطائف تسجل لملّاك المباني بالطرق المستهدفة لإصدار شهادة "امتثال"    أمير منطقة جازان يلتقي عدداً من ملاك الإبل من مختلف مناطق المملكة ويطّلع على الجهود المبذولة للتعريف بالإبل    أسماء القصيّر.. رحلة من التميز في العلاج النفسي    كيف نتصرف بإيجابية وقت الأزمة؟    تجنب قضايا المقاولات    بلدية صبيا تنفذ مبادرة لرصد التشوهات البصرية    شركة ملاهي توقّع اتفاقية تعاون مع روشن العقارية ضمن المعرض السعودي للترفيه والتسلية    رسالة من أستاذي الشريف فؤاد عنقاوي    دلعيه عشان يدلعك !    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    نائب أمير عسير يتوّج فريق الدفاع المدني بكأس بطولة أجاوييد 2    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



روايته الأولى "بطرس الصياد" تصدر قريباً بعد ست مجموعات قصصية . يحاول الحفاظ على الذاكرة القديمة في زمن التراجعات والهزائم سعيد الكفراوي : طريقي مزدحم بالدهشة ونصوصي كتبها الحنين
نشر في الحياة يوم 15 - 01 - 2001

كلا ليست شائعة، كما يعتقد بعض زملائه وأصدقائه : لقد أنجز سعيد الكفراوي فعلاً رواية أولى وهي قيد الصدور في القاهرة تحت عنوان "بطرس الصيّاد". لكنّ القاص المصري الذي يشعر أنّه لم ينل حقّه من الاهتمام، مثل بعض أقرانه في جيل الستينات، ما زال مقتنعاً أن "قصة جيدة أفضل من ألف رواية متوسّطة". وبعدما رحل الآباء، وتتابعت الهزائم، وصودر الفكر والابداع، لا يجد صاحب "مدينة الموت الجميل" مفرّاً من اختراع سبل جديدة للمواجهة، من خلال الكتابة التي تنبع عنده من الواقع والتي لا مفرّ من أن تكون "مسكونة بالماضي". ويكشف الكفراوي هنا حماسه لمغامرة قصيدة النثر، كونها "تكسر النمط القديم"، معتبراً أنّه يفعل الشيء نفسه، إنّما بقوالب وأدوات وتقنيات مختلفة. ويؤكّد الكاتب الذي نشأ في حيّز قروي، "هامشي الى حد الوجع"، أن شيوع الجانب الاسطوري في قصصه لا ينفي اهتمامه بما هو سياسي، معترفاً بأنّه يعاني من أزمة ابداعيّة، وبأنّه ينظر إلى النقاد اليوم بإشفاق شديد. ف "في ظلّ غيبوبة الإعلام وتغييب الثقافة الجادة، هناك ما يكفي لمصادرة أي رؤيا نقدية أو إبداعية".
ينطلق سعيد الكفراوي في تجربته القصصية من توازن دقيق بين عالم يفترض وجوده في الواقع، وعالم متخيل يسعى الى استحضاره. وتتجسّد خصوصية هذا الأديب والقاص المصري في ما يلتقطه من ملامح مكان محلي ينهض على مفردات وعوالم، وربما لغة، تحرض في معظم الأحيان على التأمل. والأسئلة التي تطرحها أعماله تدور غالبيتها حول مواجهة الموت. ثمة في كتاباته قرية تذوي بسبب قدمها الفادح، ومدينة تمثل بالنسبة إليه مكاناً غير أليف، وأشخاص يمكثون في الهامش بأرواحهم الهائمة. تلك الجروح الغائرة تعبير للزمن المنسي، أو تجسيد له... ألم يكتب الناقد شكري عياد يوماً في دراسة مهمة عن أعمال الكفراوي: "إنه الزمن البئر، مفهوم الفنان للخلود".
اصدر سعيد الكفراوي ست مجموعات قصصية هي "مدينة الموت الجميل" و"ستر العورة" و"سدرة المنتهى" و"مجرى العيون" و"بيت للعابرين" و"دوائر من حنيني". وقد فرغ أخيراً من كتابة روايته الأولى التي تصدر قريباً تحت عنوان "بطرس الصياد". وفي ما يلي الحوار الذي أجرته معه "الوسط" :
عبر كتاباتك كلها يسري تيار من الحنين يشحنه الفقدان. حنين إلى أماكن لم تعد أليفة، وأشخاص رحلوا، وحكايات ولّت وأرض تغيرها الجغرافيا... كأن الأدب لديك هو رصد هذه الأشياء المستحيلة التي لم يعد حدوثها ممكناً. كيف يكون الحنين مادة للكتابة، ويكون معبراً عن روح تجربة قصصية؟
- سألوا غابرييل غارسيا ماركيز يوماً كيف كتب رواية "الحب في زمن الكوليرا"، فأجابهم لقد كتبها الحنين. كل منّا، في كل الأحوال، عاش حياته عبر تجربة متواترة، شكلت وعيه الأول، وتلقّى من خلالها أول الأسئلة. الطريق مزدحم بالدهشة ويا للعجب، هكذا قال أحد اقطاب الصوفية. وأنا عشت وسط جماعة من "مساتير الله" في مكان قروي هامشي الى حد الوجع. ورأيت أهلي في كل أحوالهم في الحياة وفي الموت. الكتابة تنبع عندي من الواقع، حتى الحضور والغياب ينبعان من مخايلة هذا الواقع. ثمة بشر يقبعون هناك في حيز من ذاكرة، وقد عاشوا حياتهم تحت سطوة سلطات رمزية... لقد أمضى نيكوس كازنتزاكيس كل حياته يعذبه ذلك الحنين للإمساك بسرّ الارتقاء التصاعدي، وفهم العلاقة الجدلية بين الروح والجسد، وكان كثيراً ما يصرخ: "ألقي نظرة أخيرة حولي لمن سأقول وداعاً؟ وإلى أي شيء؟ الجبال؟ البحر؟ العريشة المحملة بالعناقيد على شرفتي؟ للفضيلة أم الخطيئة؟ عبثاً كلها سوف تهبط معي الى القبر".
أعتقد أن أي كتابة إبداعية جيدة ممسوسة بالماضي. لقد كان بورخيس يعتقد أن الماضي أصدق الأزمنة، باعتبار أن الحاضر والمستقبل يذهبان إليه. ما هذا الذي يدفعنا للكتابة عما فات؟ هل هو إحساسك إنك وحيد بدرجة مرعبة، كأنما الماضي يشكل عبر الحنين إليه مادة الذاكرة؟ في يقيني إنك في مواجهة وحشية ما: تلك السطوات الجنسية، وفعل القتل المستمر، وإنهيار سلم القيم، والبحث عن شيء يضيع، والحسية الجسدانية وكل هذه المعاني التي تشعر بها في النصوص... لا تعني أن يلوذ الكاتب إلى "نوستالجيا" بقدر ما تعني الكشف عن عالم بكل متناقضاته.
تجربة الستينات
بدأت الكتابة في الستينات فلماذا لم تبدأ نشر قصصك في كتب إلا مع الثمانينات؟
- عشت تجربة الكتابة الستينية من أولها، زمن تكويننا جماعة أدبية في مدينة مصرية هي المحلة الكبرى، كان من افرادها جابر عصفور ونصر حامد أبو زيد والشاعر محمد صالح. في هذا الزمن الموغل تعرفت على جماعة "غاليري"، وقادني إليها جمال الغيطاني الذي تعرفت عليه مصادفة... والتقينا في حلقة استاذنا نجيب محفوظ في مقهى "ريش". هكذا نشرت في مجلات "الأدب" و"الأقلام"... وفي مجلة "المجلة"، أيام عزها الغارب حين كان رئيس تحريرها طيب الذكر استاذنا يحيى حقي. ونشرت بعض القصص في ملحق "الطليعة الأدبي"، حين كان يشرف عليه الراحل غالي شكري. عشت تجربة الستينات الفنية والإبداعية، ورأيتها تتفتّح عبر التمهيد لمشروع كتابة جديدة، تتناقض تماماً مع ما سبقها. في ذلك الوقت الذي كان يتسم بتمزق المثقف وغربته، كنا نتلمس افتقادنا لحرية حقيقية، وسيادة سطوة الفرد في الواقع وانهيار الحلم القومي بعد الهزيمة... وعشت تلك الفترة تمزقاً عنيفاً بين الحلم والحقيقة، وشهدت بداية جمود الروح المصرية.
وفي أوائل السبعينات جاءني عقد عمل، ورآه أمل دنقل فأشار عليّ بالسفر. غادرت مصر ولم أعد إلا بعد سنوات، كانت الأماكن ازدحمت وتغيرت الملامح العامة وصعبت الاجابة واصبحت مستحيلة بين خذلان بعض الذين عرفتهم سابقاً، وغربة عن الواقع الجديد الذي لم يعد كما عرفته... وكان عليّ في أوائل الثمانينات أن أصدر "مدينة الموت الجميل" التي كتبتها في حقب سابقة، ووجدت صدى طيباً على المستوى النقدي، كي أعيد احتلال مكانتي. بعدها صدرت المجموعات الأخرى، واستطعت عبر مكابدة للروح أن استعيد ما فقدته بالسفر.
نلاحظ دائماً أن حركة الستينات أنغلقت على حلقة ضيقة، فيما طُمس بعض افرادها وأنت منهم. هل هناك آلية لهذا الحجب؟ وأي دور لعبه في هذا السياق انخراط ذلك التيار في الحركة اليسارية المصرية؟
- على بعض كتاب الستينات أن يشعلوا أصابعهم شموعاً للروائي جمال الغيطاني، فقد حملهم على ظهره سنوات طويلة عبر صفحات الأدب التي كان يشرف عليها، وخاض بهم الأهوال، فيما ساهم في طمس كتاب آخرين من هذا الجيل. لا أقصد هنا أنه حاربهم، لكنه في حقيقة الأمر لم يأخذهم في اعتباره على رغم إبداعهم الفائق الجودة. أذكر مثلاً خيري شلبي، محمد مستجاب، وعفيفي مطر... هؤلاء الذين يعيشون وينحازون الى كتابة جيدة، قليلة الحظ في كل أحوالها.
ألا تذكر بعض ملامح تلك الفترة؟ ربما بعض الوقائع التي عشتها عبر حركة أضافت الكثير من المعاني لفعل الكتابة في ذلك الحين؟
- كنا في ذلك الوقت، أوائل السبعينات تقريباًَ، نعيش بداية صعود القضايا الصغيرة في الحياة الثقافية، فيما راح يتراجع النهوض على مستوياته كافة... وإذا بالاسئلة التي طرحت حول التنوير يعقبها انتعاش لكل أشكال الفكر اللاهوتي. وكنا نشعر في ظل الهزيمة أن الثقافة لم تعد استجابة لاسهامات البشر، بل أصبحت تعبيراً عن فكر مؤسسة. كانت تربطني، وما تزال، علاقة خاصة بمحمد عفيفي مطر، وكان يحيى الطاهر عبد الله يبعث في دمنا الحماس، والناس فرحة بما تبدعه رغم خلو يدها من المال. أذكر أنني اعتقلت في تلك الفترة، في معتقل القلعة، وكانت أغرب واقعة اعتقال في تاريخ مصر. في المساء كان يأتي المحققون ويستجوبونني باعتباري من الشيوعيين الأفذاذ، وفي النهار يحضر آخرون ويحققون معي باعتباري من "الإخوان المسلمين"، وأنا في غاية الدهشة من الأمر. وحين خرجت من السجن انتحى بي استاذنا نجيب محفوظ في جانب من المقهى، وسردت عليه كل ما جرى. يومها لم يعلق على شيء، لكنني كنت ألاحظ أمارات الحزن على وجهه، وبعد شهور كتب رواية "الكرنك"، ولدى صدورها ربت على كتفي وقال لي: يا كفراوي أنت اسماعيل الشيخ في الرواية. كنا في ذلك الوقت، ولإخلاصنا الشديد للكتابة، موضع تأمل الرجل، ومن خلالنا كان يرى ما يحدث من متغيرات عبر سلطة جائرة وواقع يعيش مظالم حياته اليومية، يدفع فيه كتاب لا يمتلكون غير حلمهم أفضل ما فيهم ، أي مواهبهم.
صدرت "دوائر من حنيني" عن دار توبقال في المغرب، فهل بسبب ذلك لم تُقرأ جيداً في مصر؟ وهل صحيح أنك مقروء في المغرب العربي أكثر من المشرق؟
- صدرت لي مجموعتان في المغرب : "دوائر من حنيني" عن "دار توبقال"، و"كشك الموسيقى" عن "دار الفنك" تتقدّمها دراسة مهمة لمحمد برادة. أحرص على النشر في الساحة المغربية بسبب اهتمام هذه الساحة بالثقافة الجادة والابداع المتميز، ولقربي الروحي من مبدعيها الكبار. تربطني صداقة وأخوة تعلو على كل شيء بالشاعر محمد بنيس، وتربطني علاقة أخوة ومودة بالروائي والناقد محمد برادة الذي أكن له كل احترام واعتبره جسراً يربط ثقافتي المشرق والمغرب. أشعر بالسعادة لأنني مقروء هناك، ومن لا يحلم بالانتشار في بلد كليطو والعروي والخطيبي، حيث النخبة تساهم بفاعلية في تكوين العقل والوجدان العربيين؟ عندما أزور المغرب أشعر أنني في مصر، وأعيش في أزقتها دراما حية واستعيد في حواريها التاريخ كله. البيوت ورائحة الزمن وعبق الأشياء الحية. يمكنك القول إنني مغربيّ الهوى...
كافكا وتشيكوف ويوسف ادريس
بعد ست مجموعات قصصية ترجمت مختارات منها الى الانكليزية باشراف المستعرب دينيس جونسون ديفيز، ومجموعة قيد النشر سوف تصدر عن دار "أكت سود" الفرنسية هي "كشك الموسيقى"... تعتزم اصدار روايتك الأولى فهل تعتبر مثل كثيرين أننا نعيش زمن الرواية؟
- الفن الجيد هو مادة كل زمن، وقصة جيدة هي، في رأيي، أفضل من ألف رواية متوسّطة القيمة! هناك كتّاب كبار، مثل كافكا وتشيكوف ويوسف ادريس. أكّدوا عظمة فنّ القصّة كنوع قائم بحدّ ذاته. صحيح أنّني أنجزت رواية بعنوان "بطرس الصياد"، وأنا لا أنكر أساساً أن الرواية تحقق الآن زمنها الخاص، لكنه واحد من الأزمنة : هناك زمن للشعر وللقصة القصيرة وبقية الفنون. أنا لا يمكنني إلا الاعتراف بأننا نعيش واقعاً ابداعياً غنياً على كل مستوياته، يشهد انجازاً حقيقياًَ عبر كل مدارس الحداثة، ويتجسّد بملامح متميزة وسمات مفارقة... وهذا الشعار المرفوع يمثل في رأيي سلطة القمع.
حدثنا عن أجواء روايتك "بطرس الصياد"؟
- رواية "بطرس الصياد" استشراف لمنطقة علاقة الكاتب بمكابدات الخلق الفني، عبر حكاية العذراء وما حدث أواخر الستينات في كنيستها في ضاحية الزيتون في القاهرة. أحاول من خلال هذا الحدث كشف الوقائع والعلاقات عبر سياق درامي ولغة خاصة. وأتمنى أن تمثل التجربة بقعة ضوء في تيار الكتابة الروائية العربية، وإلا فسوف تنزل على رأسي كل كراسي مقاهي البلد. فلا أحد من اصدقائي يصدق أنني كتبت رواية، وهناك من يعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون شائعة من صنعي على حد تعبير الصديق الكاتب محمود الورداني.
هل تأثرت بشكل من الأشكال بنجيب محفوظ ككاتب للقصة القصيرة؟ وهل قرأت قصصه الأخيرة التي ينشرها في الصحافة المصريّة؟
- مَنْ منا لم يقرأ هذا الكاتب الكبير؟ ومَنْ لم يتأثر به في مطلع علاقته بالكتابة؟ لنجيب محفوظ فضل المؤسس، وله فضل تعليمنا معرفة الكشف عن روح الأماكن. إذا كان يوسف إدريس ساعدنا على تأمل الروح المصرية، فإن محفوظ نبهنا إلى قيمة التعرف على الواقع، وإدراكه، ورصد اسئلته. هذا هو موقع الخبرة في الكتابة الإبداعية. أنا أقرأ كل ما يكتبه نجيب محفوظ، والقصص الأخيرة هي شحنات من الوجد تحدد علاقة الرجل بالرحيل. هل قرأت كتابه "اصداء السيرة الذاتية"... ذلك الكتاب الشهادة المرصع بالحكمة، يحكي عن مواجهة الأبدية، ويعكس شذرات من ذكريات حميمة لا تنتهي، كأنها القنديل المشتعل يراقب قلب الليل الخفي.
كيف ترى العلاقة بين جيلك والأجيال اللاحقة؟
- صدقني، أنا لا أحب كثيراً فكرة المجايلة، وسامحه الله استاذنا أدوار الخراط الذي كرّس المفهوم، وأنا أصلاً لا أعرف إلى أي جيل ينتسب... فهو متواصل مع كل تيارات الكتابة، وما شاء الله حاضر في كلّ مكان. في داخلنا نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف أدريس، ونحن، وعلى نحو من الانحاء، مست نارنا الأجيال المتلاحقة. أنا شخصياً أقدر الكتابة التالية لنا، واعتبر ما يصدر الآن من ابداعات هو امتداد لما صدر عبر مجلة "غاليري 68"، المنبر الذي تبلورت حوله الحساسية الجديدة في الأدب المصري على حد تعبير إدوار الخراط. أتابع باهتمام مغامرات قصيدة النثر، وكسرها للنمط الشعري القديم، وعبثها المضني بالموسيقى من خلال الموقف ومن خلال وزن الكلمات. نعم إنّها كتابة جديدة جاءت استجابة للمتغيرات في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وفجّرت وعي الكاتب، وأصبحت العودة للحياة اليومية وكتابة الذات ونثرية الاشياء إضافة مهمة لمشروع الكتابة السابقة. ونحن نسعى، مثل كتّاب قصيدة النثر، إلى تأكيد ذواتنا في كتابة مغايرة، في ظل الواقع القائم على الاحتمالات الذي يغيّب فيه الإعلام الرسمي كل شيء. لكنّ هناك من يظنّ أن الفن والأدب فضاء مستباح للتافه والسطحي، وهؤلاء هم الخطر الفعلي على الابداع . وكما تعرف أننا والكتاب الذين جاءوا بعدنا من أهل الهامش. لا سلطة لنا ولا نجلس على وسيلة للتعبير، تجمعنا تجليات متعددة تمثل الآن حالة الإبداع المصري.
تبدو القضايا السياسية التي انعكست في كتابات أبناء جيلك، غائبة لديك؟
- من قال ذلك؟ هل قرأت قصة "الجمعة اليتيمة" التي تدور حول معتقل سياسي في زنزانته؟ وكذلك قصة "لابورها نو" في مجموعة "مدينة الموت الجميل"، و"نهار غائم" والعديد من القصص حملت همها السياسي؟. صنع الله ابراهيم في "شرف" يحتفي بالسياسي، عبر مشروعه الروائي وعبر شخصياته الفنية، وكذلك جمال الغيطاني في "الزيني بركات" وفي "حارة الزعفراني". أما خيري شلبي ومحمد مستجاب فالسياسة لديهما كامنة في نسيج الحياة ومن خلال الفن... حتى محمد البساطي تأتي السياسة لديه عبر نصوص متخيلة، وإدوار الخراط لم تكن السياسة هماًَ راسخاً في نصه الأدبي... هو الذي زار معتقلات الملك فاروق، وانتظم في التنظيمات السرية في الاربعينات في جناحها التروتسكي الثوري. أعتقد أن كل ما كتبته فيه الكثير مما هو سياسي، على رغم شيوع الجانب الاسطوري فيه، واهتمامه بالتعبير عن روح البشر... وفيه الكثير من التعبير عن معاناة أهل الهامش في مواجهة المظالم.
الحفاظ على ذاكرة قديمة
إلى أي مدى تغيرت الآن القرية التي عشتها وكتبت عنها، تلك القرية كما ترسخت في وجدان الطفل "عبد المولى"، بطل العديد من قصصك؟
- لقد تغيرت الأحوال كثيراً، وطمست المعالم القديمة بعد هجرات المصريين إلى بلدان الخليج للعمل، لم يعد في القرية ما كنت تراه. أعتقد أنني وبعض الكتاب نحاول الحفاظ على ذاكرة قديمة عبر ما نكتبه. الآن يفنى كل شيء، وأنا تستهويني الكتابة عن تلك المنطقة الغامضة من الروح المصرية. صدقني بعد أن رحل الآباء، وفي ظل المتغير الاقتصادي الفادح، والهزائم المتتابعة، لم يعد شيء على حاله : تلك البيوت القديمة التي كانت في الريح، والأصداء التي كنت تسمعها في الأفراح وطقوس الختان، وقراءات "المياتم"، البشر الطيبون أصابهم قدر كاف من التوحش، وخضعوا للسلطة السياسية والإعلامية التي تمطرنا بالصور الدامية. وكل هذه الأمور في حاجة إلى كتاب كبار للتعبير عنها. كان أدونيس يصرخ في وجهي ونحن نمشي وسط ميدان التحرير في القاهرة، حيث تتلاحق الوجوه حاملة انفعالاتها: "كل هذه الوجوه والملامح ولا يوجد إلا نجيب محفوظ واحد؟". وأنا أقول: كل هذا التغيير ولا نستطيع التعبير عنه؟ يا لها من مأساة!
تتلاحق اصدارات الكتاب والشعراء في غياب حركة نقدية مواكبة... هل تعاني من ذلك على الصعيد الشخصي؟
- صدقني أنا أعاني من أزمة كتابة إبداعية تخصني، وأصبحت أنظر إلى النقد باشفاق شديد. ماذا تنتظر من واقع عربي مرتهن للغيب، ضاعت فيه حرية التعبير، وفُقد الحقّ في مراجعة الثوابت، وانحسر دور المثقف، وطغى الفكر الظلامي وصار الابداع يخضع للمطاردة...؟ ما الذي يستطيعه النقد في ظل هذا المناخ؟ اعترف لك أن حظي من النقد كان وفيراً، ومرضياً بكل السبل. وعلى رغم كل ذلك، ليس هذا هو الدور الحقيقي للنقد. أنا أرى أن النقد عليه أن يمهّد الطريق أمام كل كتابة جديدة ويبشر بها. وعلى كل حال في ظلّ غيبوبة الإعلام وتغييب الثقافة الجادة، هناك ما يكفي لمصادرة أي رؤيا نقدية أو إبداعية على حد سواء في واقعنا العربي الفكاهي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.