في تلك السنوات الذهبية كانت هوليوود، عاصمة السينما في أميركا والعالم، تجتهد لاجتذاب أهل السينما، سواء أكانوا ممثلين او مخرجين او فنيين. وكانت أوروبا الوسطى هي المكان التي تبحث فيه هوليوود عن المواهب لتأتي بها الى تلك الشواطئ الكاليفورنية حيث تساهم في صنع وتألق فن سابع كان يراد له في ذلك الحين ان يكون أميركياً خالصاً. من هنا لم يكن من الامور غير المألوفة مشاهدة عشرات الألمان والدانمركيين والروس والمجريين، حتى الفرنسيين والايطاليين، وهم يتوجهون الى عاصمة السينما العالمية ويضيفون على أساليبها ومواضيعها روحاً جديدة ويضخونها بدم جديد. بشكل عام، كانت الرحلة في ذلك الحين تسير في اتجاه واحد: من أوروبا الى أميركا، على عكس ما كان يحدث في عالم الأدب، حيث كان الأدباء الأميركيون يتدفقون على أوروبا. في مجال السينما لم تكن هوليوود لتسمح بأي خرق للقاعدة، ومهما كانت الأسباب والمبررات. وهذا القانون خبرته في ذلك الحين، ودفعت غالياً بسبب خرقه فاتنة كانت من أجمل فتيات هوليوود وأكثرهن وعداً بالنجاح: لويز بروكس، الصبية الرائعة التي انطلقت في هوليوود انطلاقة قوية ومذهلة، قبل ان يقودها حظها الطيب أو التعس؟ الى أوروبا، حيث قامت ببطولة الأفلام الثلاثة التي سوف تخلد اسمها الى أبد الآبدين، في الوقت الذي كانت فيه - تلك الأفلام نفسها - سبب دمارها وذريعة انتقام هوليوود منها. إذ، حين عادت لويز بروكس من أوروبا، بعد "مغامرتها" الأوروبية، اكتشفت انه لم يعد لها مكان هناك. اكتشفت انها انتهت، وأن هوليوود لا ترحم. وهي ستعيش نحو ستة عقود من السنين بعد ذلك، فقط على أمجاد أفلامها الأوروبية، حاقدة على هوليوود متسائلة عن الجريمة الحقيقية التي اقترفتها حتى تعاقبها عاصمة السينما كل ذلك العقاب. لويز بروكس التي كانت اعتادت ان تصف نفسها بأنها "شقراء ذات شعر أسود"، كانت هي التي افتتحت في هوليوود، أيام السينما الصامتة، تيار النجمات الفاتنات اللواتي يقوم دورهن في اغواء الرجال وتحطيمهم. كانت تيدا بارا قد سبقتها الى ذلك، لكن شيئاً ما لدى لويز بروكس كان يجعلها تبدو مختلفة ورائدة: قصة شعرها العابقة بالحداثة ربما، او نظراتها النارية القاتلة، او ربما ثقافتها، تلك الثقافة التي عرفت كيف تكونها لنفسها باكراً على رغم حياتها المضطربة في عهد الصبا. او ربما ايضاً حريتها المطلقة، فلويز لم تكن لتنظر الى نفسها الا على انها امرأة حرة بشكل جديد وشديد الحداثة: حرة من كل قيد. لا تقدم حساباً لإنسان. ومن المؤكد ان هذه السمة الأساسية من شخصيتها، شكلت سحرها، لكنها كمنت ايضاً والى حد ما، خلف تعامل هوليوود السلبي معها. على أية حال حين نضجت لويز بروكس وصارت كاتبة، لمجرد ان تثأر من هوليوود، كتبت عبارتها الشهيرة: "إن مشكلتنا تكمن في اننا منحطون أكثر من اللازم بالنسبة الى قسم من هوليوود، وأقل من اللازم بالنسبة الى القسم الآخر". وهوليوود تجاهلت بروكس وحطمتها ولكن في المقابل لم يفت أوروبا ان تعيد اليها اعتبارها حتى حين أصبحت عجوزاً، اذ ان هنري لانغلوا، رئيس "السينماتيك الفرنسي" كرمها في الخمسينات عبر عرض أفلامها الكبرى الأوروبية، كما ان جماعة "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية بجلّتها بوصفها أجمل فاتنة عرفتها السينما، ومفتتح الحداثة الأنثوية في القرن العشرين. صدمات متتالية كل هذا، لم تكن الطفلة لويز بروكس تتوقع ان يحدث لها حين كانت مجرد ابنة صغيرة لعائلة ريفية. فهي حين ولدت في العام 1906 كانت مجرد طفلة من ملايين الاطفال الذين يولدون في المدن الأميركية المعزولة الضائعة، فيعيشون حياة كئيبة عادية ويتزوجون ويربون أطفالهم ثم يموتون. وكان مقدراً لهذا ان يكون مصير لويز لولا ان أقدم صديق للعائلة على اغوائها، وكانت بعد في الرابعة عشر من عمرها، وهي حين اشتكت الى أمها أنبتها هذه الأخيرة بدلاً من ان تؤنب المعتدي متهمة إياها بإغوائه بحركاتها ونظراتها. وعلى الفور اكتشفت لويز ان لديها سلاحاً يمكن ان يساعدها على ان تكون مختلفة عما يرسم لها من حياة دعة وتفاهة في بلدتها الصغيرة بولاية كانساس. وهكذا، مع اكتشافها لقوة جسدها، قررت ان تتعلم الرقص وانضمت الى مدرسة محلية اكتشفها فيها وهي في الخامسة عشر، مدرب رقص شهير في ذلك الحين يدعى تيد شاون وتعاقد معها هذا على ان ترقص في استعراض جوال كان من بين نجومه الأساسيين الراقصة الشهيرة مارتا غراهام. وهنا بدأت لويز حياة جديدة قادتها الى التجول في ولايات أميركية عديدة. لكنها بعد عامين من العمل مع تلك الفرقة وجدت نفسها مطرودة: فإدارة الفرقة رأت ان تصرفاتها شديدة الغرابة، أقرب الى تصرفات فتيات الهوى منها الى تصرفات راقصة تحترم فنها. كانت الصدمة كبيرة، غير ان لويز لم تخلد الى اليأس، بل قررت ان تجابه قدرها هذا. وهكذا، بدلاً من ان تعود الى بلدتها مهزومة، توجهت الى نيويورك حيث قررت ان تقيم. وهناك انضمت الى فريق جورج وايت الراقص الذي كان يقدم استعراضاً عنوانه "فضائح". لم يكن ذلك الاستعراض كبير الاهمية، لكنه قادها الى لندن في احدى جولاته، واكتشفت، كما بفعل السحر، انها تنتمي وجدانياً الى أوروبا أكثر من انتمائها الى أميركا. غير ان هذا الأمر بقي لديها أشبه ب"حديقة سرية"، وإن كانت قد قررت انها ستعود الى أوروبا حين يدعوها أحد الى القارة القديمة. ولسوف تأتي تلك الدعوة بعد عشرة أعوام. نجمة في برودواي أثناء ذلك كانت لويز قد عادت الى نيويورك، وتركت فرقة جورج وايت لتنضم الى فرقة زيغفيلد الذي جعل منها، في برودواي، واحدة من أبرز نجمات استعراضه الشهير "جنون زيغفيلد". وهناك في برودواي بدأت شهرة لويز بروكس تضرب الآفاق، وخاصة انها صارت جزءاً من الليالي الساهرة، وأنها أبّدت قصة الشعر التي سرعان ما صارت على الموضة وباتت لا ترى الا وفي يدها اليمنى كأس وفي يدها اليسرى سيجارة. كان واضحاً ان لويز تهرب من شيء: من العادية على الأقل. وكان واضحاً انها تبالغ في رسم صورة لنفسها. غير ان تلك المغالاة كان لا بد لها ان "تثمر" في نهاية الأمر. فالصبية التي كانت تبدو امرأة ناضجة كاملة الأنوثة، مغوية وهي لم تصل العشرين من عمرها بعد، كانت أضحت نجمة الليالي النيويوركية. وكان لا بد للسينما ان تكتشفها. وكانت شركة "باراماونت" هي التي اكتشفتها عن طريق "صيادي النجوم"، فاقترحت عليها عقداً من خمس سنوات وقعته لويز بحماس، لتقول لاحقاً، بعد ثلاثة أرباع القرن تقريباً، في مذكراتها: "لم أكن أدرك لحظتذاك، إنني لم أبع هوليوود ساعات العمل وموهبتي فقط، بل كنت أبيعها روحي وحياتي الشخصية في الوقت نفسه". المهم في الأمر ان ذلك العقد جعل لويز تنتقل من المسرح الى السينما، ومن نيويورك الى هوليوود. غير ان خيبتها لم تكن هينة، حين راحت هوليوود تعطيها أدواراً في أفلام صامتة، لا تتوخى من خلالها الا استغلال شكلها الخارجي، ونظراتها القاتلة وقصة شعرها الصبيانية. أفلام عديدة مثلتها لويز في هوليوود في ذلك الحين. لم يكن لأي منها أهمية حقيقية، باستثناء فيلم هوارد هاوكس "فتاة في كل مرفأ" 1928. هذا الفيلم كان هاماً في حد ذاته، لكن أهميته بالنسبة الى لويز بروكس، كمنت في مكان آخر تماماً. وبشكل لم يكن ليخطر لها في بال. نجاح أوروبي ساحق ففي ألمانيا، في ذلك الحين، كان المخرج الكبير بابست، قد أعد سيناريو سينمائياً مقتبساً من مسرحيتين للكاتب فرانك ودكند، بعنوان "لولو". وكان كل شيء جاهزاً لتصوير الفيلم، باستثناء الممثلة التي يفترض بها ان تلعب دور لولو المغوية الفاتنة. وكانت مئات الأسماء والصور عرضت على بابست، لكنه رفضها جميعاً، لأنه كان يريد امرأة من نوع خاص، لم يكن هو نفسه قادراً على تحديده. وفي لحظة من لحظات يأسه قرر ان يسند الدور الى مارلين ديتريش. ثم حدث له ان شاهد فيلم هوارد هواكس "فتاة في كل مرفأ" فذهل وقال لمن معه: "إنني أريد هذه المرأة. هي لولو نفسها. هكذا تخيلتها منذ البداية". الذين كانوا يعرفون شيئاً عن لويز بروكس، في ذلك الحين، وافقوه على اختياره لكنهم حذروه: "عليك ان تنتبه. انه لمن السهل وقوعك في شراك غرامها. لو حدث هذا، سوف يقضي الحب عليك. وسيصبح مشروعك مقبرتك". ولم يكن من شأن هذا الكلام الا ان زاد من رغبة بابست في اسناد الدور لها. وهكذا اتصل بها واستدعاها، فقبلت على الفور وقد تذكرت حلمها الأوروبي القديم. ولنتخيل هنا هذا المشهد الذي ظلت لويز بروكس تقول انه كان يمثل واحدة من أجمل لحظات حياتها: بابست والسيدة حرمه ينتظرانها في محطة القطار. الزوجة قلقة النظرات. والزوج يحمل باقة زهور. تنزل لويز من عربة القطار وتتقدم منهما مرحة ضاحكة. فيقدم لها الرجل باقة الزهور في اللحظة نفسها التي يقع فيها في غرامها. وهكذا يصبح الفيلم فيلمين. وتصبح لويز جزءاً من السينما الأوروبية. فهل نحن في حاجة لأن نقول هنا ان الفيلمين الذين أخرجهما بابست من بطولة لويز بروكس في العام نفسه 1930، سيكونان أحسن فيلمين حققهما في مساره السينمائي الطويل، وانهما بالنسبة الى لويز بروكس، سيظلان حتى النهاية، اضافة الى فيلم مثلته في العام نفسه في فرنسا، قمة ما وصله أداؤها كممثلة وتألقها كامرأة؟ كانت تلك هي الأفلام الثلاثة التي ستعتبر علامات في تاريخ السينما الأوروبية. والعلامات الثلاث الرئيسية في حياة ومهنة لويز بروكس نفسها: "لولو" و"يوميات فتاة ضائعة" لبابست و"جائزة الجمال" لأوغستو جنينا. والحال ان هذه الافلام كانت الوحيدة التي تعرض في كل مرة كان يراد فيها تكريم لويز بروكس، بما في ذلك التكريم الذي خصت به لويز في العام 1999، بعد عقد ونصف العقد من رحيلها، من قبل الدورة الثانية والخمسين لمهرجان كان السينمائي، ما شكل مناسبة للعودة الى الحديث عنها. هوليوود لا ترحم كان نجاح الافلام الثلاثة صاخباً ومدهشاً. وفيها أثبتت بروكس انها ليست امرأة جميلة وحسب، وليست امرأة حرة وحسب، بل انها ممثلة من طراز رفيع ايضاً. وهي، حين كانت ترتاح لنجاحاتها في أوروبا، كانت تشعر انها الآن تهيء نفسها لعودة صاخبة الى هوليوود: خيّل اليها انها ستغزو عاصمة السينما الآن عن حق وحقيق. وأن هوليوود القاسية التي لا ترحم، سوف تعاملها كفنانة كبيرة، لا كمجرد امرأة وجسد مشتهى وفاتنة ذات سلوك معيشي غريب الأطوار. كل هذا كان يدور في رأس لويز بروكس وهي في الطائرة عائدة الى القارة الجديدة محملة بالمجد الذي أسبغه عليها نجاحها في القارة القديمة. لكنها منذ وصولها اكتشفت، من جديد، كم ان هوليوود لا ترحم! وكانت أول صدمة تلقتها، من شركة "باراماونت" نفسها، الشركة التي اكتشفتها. والحال ان مشكلة لويز مع هذه الشركة كانت غامضة بعض الشيء. فلويز حين سافرت الى ألمانيا، استجابة لدعوة بابست، كانت لا تزال من نجوم السينما الصامتة. وبعد رحيلها اضطرت الشركة الى دبلجة آخر فيلم مثلته لويز وهو "قضية الكناري المقتول"، ولما لم تجد لويز لتسجيل الحوار، سجلت على الفيلم صوت ممثلة أخرى، معتبرة لويز خائنة متخلية عن عملها. ولدى عودة هذه الاخيرة الى هوليوود لم تكن "باراماونت" نسيت هذا الأمر. وهكذا، بدلاً من ان تستقبلها استقبال نجمة كبيرة وتمنحها أدواراً تليق بها، عرضت عليها أدواراً غير ذات أهمية، اضطرت لويز الى قبول بعضها، لأسباب مالية بحتة. وكان ذلك في العامين 1931 و1932. وبعدهما اختفت لويز عن الأضواء تماماً، وراح كثيرون يتساءلون أين عساها تكون، ثم طواها النسيان ولم يعد أحد يتساءل. والحقيقة ان لويز، ليأسها من استعادة مكانتها في هوليوود، قبلت في ذلك الحين عرض زواج قدمه لها ديرنغ دايفيس، بعد ان كانت تزوجت مرة أولى من المخرج ادي ساذرلند ولم تعش معه سوى عام واحد، ومع دايفيس لم تعش لويز سوى ستة أشهر على أية حال، قالت بعدها انها لم تخلق للزواج. وكانت أثناء ذلك قد أغضبت هوليوود مرة أخرى برفضها التمثيل في فيلم "عدو الشعب" فأعطي الدور الى جين هارلو. وهكذا، في ظرف شهور قليلة انتهت لويز بروكس، حتى وإن أعطيت بضعة أدوار طوال سنوات الثلاثين، كان آخرها في فيلم "رعاة بقر" الى جانب جون واين. كانت لويز في الثانية والثلاثين من عمرها حين انتهت، هوليوودياً. وهذا ما جعل كاتباً لسيرة حياتها يقول بكل مرارة: "ان نقاد السينما والمؤرخين في سنوات الثلاثين لم يدركوا أبداً مستوى السلطة السحرية التي كان يمكن ان تمارسها هذه الفنانة التي كانت رمزاً للأنوثة وللجمال، والتي كانت مقلقة حتى الفضيحة". أما الكاتب آدو كيرو، اخصائي السوريالية فكتب يقول عنها: "ان لويز بروكس هي المرأة الوحيدة التي كان في امكانها ان تحول أي فيلم الى عمل فني كبير". قد يكون في هذا الكلام شيء من المغالاة. لكن هوليوود بالغت، من ناحية اخرى، في تجاهل هذه التي كانت الأجمل بين النساء، والأقدر بين الممثلات دون أدنى شك. بعد ذلك عاشت لويز بروكس خمسين سنة تقريباً، فهي رحلت عن عالمنا في العام 1985، وحيدة منسية في الثامنة والسبعين من عمرها. وهي ابان ذلك كرمت كثيراً، ووضعت عنها كتب ودراسات، أجمعت كلها على ان "جريمتها" الكبرى في نظر هوليوود كانت في رغبتها ان تكون مختلفة. وهي دفعت غالياً ثمن تلك الرغبة. لكنها عرفت، في مقالاتها والنصوص العديدة التي كتبتها، كيف ترد الصاع صاعين الى عاصمة السينما. ثم أخيراً، عرفت هي التي اختارت دائماً حياتها كما يحلو لها، ان تختار العبارة التي طلبت كتابتها على قبرها: "لقد أخفقت في كل شيء، ولم يكن إخفاقي بسبب عدم محاولتي. فأنا حاولت دائماً. ومن كل قلبي"