أهالي محافظة طريب يطلقون مبادرة عودة سوق الاثنين الشعبي يوم الاثنين القادم    الشؤون الإسلامية في جازان تشارك في البرنامج التوعوي للوقاية من التدخين    الذهب الجديد    رؤية 2030 والسيادة الرقمية    إعلان الفائزين ب «جائزة اليونسكو الفوزان الدولية» التي تدعمها المملكة    الفريق الفتحاوي يصل الرس ويستكمل استعداداته لمواجهة الحزم    رسالة من رياض محرز إلى جماهير الأهلي    ضبط 21.6 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل والحدود خلال أسبوع    الترجي يغلق قضاياه الدولية والمحلية ويقترب من تسجيل اللاعبين    الفخر بطبيعتنا هوية وطن    صحف عالمية: الأهلي يقلب الطاولة على الهلال في "قمة لا تُنسى"    البرلمان العربي يُرحِّب بتقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة    المركزي الروسي يرفع سعر الدولار ويخفض اليورو أمام الروبل    أمطار رعدية غزيرة على عدة مناطق    بوبا العربية تعقد شراكات تقنية وصحية في مؤتمر "Money 20/20" بالرياض    استشهاد 11 فلسطينيًا بينهم أطفال ونساء في غزة    جودة التداوي والكسب المادي    حق التعليم لا يسقط بالتقادم أين مرونة القبول    أثر الحوار في تعزيز المشاركة لدى طلاب الثانوي    الملحقية الثقافية السعودية: 201 مبتعث ومبتعثة في نخبة جامعات كندا    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    محافظ الطائف يتوّج الجواد "تلال الخالدية" بكأس الأمير عبدالله الفيصل و"وثاب المشاهير" بكأس الملك فيصل    18حكماً يشاركون في إدارة مباريات خليجي تحت 17 عاماً    اليوم السبت .. انطلاق بطولة الخليج للناشئين    البرتغال: سنعترف رسميا بدولة فلسطين    ماريسكا: حياة والدي الصياد كانت أصعب    الرويلي يشهد حفل تخريج دورة التأهيل العسكري للأطباء الجامعيين ال 12 من طلبة كلية الأمير سلطان العسكرية للعلوم الصحية بالظهران    مستشفى الدرب العام يشهد مبادرة "إشراقة عين" للكشف المبكر عن أمراض العيون    ضبط (5) مخالفين لنظام أمن الحدود في عسير لتهريبهم (100) كجم "قات"    المرور : ترك الطفل وحيدًا داخل المركبة.. خطر يهدد حياته    قطاع تهامة الإسعافي يفعل اليوم العالمي للإسعافات الأولية    إمام المسجد النبوي: القرآن أعظم الكتب وأكملها ومعجزته باقية إلى يوم القيامة    الجهني: أوصي المسلمين بتقوى الله والاعتصام بالكتاب والسنة    جدة تغني حب وحماس في ليلة مروان خوري وآدم ومحمد شاكر    في النظرية الأدبية.. بين جابر عصفور وعبدالله الغذامي    محافظ بيشة يدشن جمعية التنمية الزراعية "باسقات"    خطباء الجوامع: وحدة الصف وحفظ الأمن من أعظم نعم الله على المملكة    جمعية نمو للتوحد تحتفي باليوم الوطني ال95    جلسات منتدى حوار الأمن والتاريخ.. إرث راسخ ورؤية مستدامة للأمن والتنمية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع مجلس هيئة تطوير المنطقة    اختتام ورشة عمل بناء العمل الفني بالمدينة المنورة    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    نائب أمير تبوك يدشن حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    مجلس الدفاع الخليجي المشترك يقرر تحديث الخطط الدفاعية وتبادل المعلومات الاستخبارية    ما مدى قوة الجيش السعودي بعد توقيع محمد بن سلمان اتفاق دفاع مع باكستا    أمير منطقة المدينة المنورة يرعى حفل تكريم الفائزين بجائزة جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز للتميز    قطر: حرب إبادة جماعية    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    فرنسا: حملة تدميرية جائرة    "سترونج إندبندنت وومن"    زراعة «سن في عين» رجل تعيد له البصر    سارعي للمجد والعلياء    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    وجهة نظر في فلاتر التواصل    خطى ثابتة لمستقبل واعد    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحبة نوبل 1991 للآداب ، مواطنة في بلاد العم مانديلا . نادين غورديمير : انا في بيتي ، في وطني ، أكثر من أي وقت مضى
نشر في الحياة يوم 12 - 04 - 1999

في الوقت الذي يستعد الرئيس نلسون مانديلا لترك الحكم، بعد خمس سنوات من الحرية والعدالة، أين هي جنوب افريقيا اليوم؟ ما هي التغيرات التي حدثت فيها؟ هل حققت الحرية أهدافها؟ هل تسودها العدالة؟ تلك هي الأسئلة التي يمكن أن تطرح. لكن السؤال الأساسي يظل: ترى من يملك سلطة الكلمة، ليجيب عن مثل هذه الأسئلة؟ نادين غورديمير الكاتبة البيضاء. ابنة جنوب افريقيا التي ترعرعت على النضال ضد التمييز العنصري، وكتبت بعض أجمل نصوص النصف الثاني من القرن العشرين، ما جعلها تستحق جائزة نوبل للآداب في العام 1991، تعتبر نفسها مؤهلة لرسم صورة راهنة ومحايدة لما آل اليه حال هذا البلد... وطنها الذي تفخر اليوم بالعيش فيه.
نادين غورديمير التي تقول اليوم "انني أكثر من أي وقت مضى أشعر بأنني أعيش في بيتي وفي وطني"، رسمت صورة لأوضاع جنوب افريقيا، من خلال جولتها في مدينتها جوهانسبورغ ومن خلال علاقاتها، وتأملها في الفوارق الاجتماعية. والنص الذي نشر في العديد من الصحف العالمية قبل أيام، ننشر هنا مقتطفات رئيسة منه.
"هي الآن خمسة أعوام من الحرية. حربنا انتهت - وحربنا هي نضال جنوب افريقيا في سبيل الحرية... لكني ألاحظ ان أسلوب عيشنا حالياً، له شكل اسقاط ذاتي من نمط ذاك الذي كان يمكن أن أطبقه على وضعية بريطانيا العظمى خلال الحرب. ففي كل مرة أسأل فيها من قبل الصحافيين في بريطانيا أو في غيرها من البلدان الأوروبية، وفي كل مرة التقي أوروبيين، أجد سؤالا واحداً يحرق شفاههم جميعاً: "ما الذي آل اليه وضع البيض؟" وفي كل مرة، وبصدق مدهش يكون جوابي: وماذا عن السود؟ أفلا تعتقدون أن في حياة هؤلاء الجديدة مشاكل يتعين حلها؟".
تقول نادين غورديمير، "ثمة فرضيتان تطرحان نفسيهما في ما يتعلق بالاسلوب الذي يرى به الاوروبيون جنوب افريقيا. فلانهم بيض نراهم لا يتماهون الا مع البيض، سواء كان ذلك شعوريا أم لا شعورياً. وبما انني بيضاء، يفترضون انني افعل مثلهم ... انهم يسقطون أولويات حيواتهم الخاصة، المكيفة بفعل التقاليد الاستعمارية القديمة التي تربط هذه الاولويات بكون المرء أبيض. وهم بذلك يرون أن البيض مهددون بحلول السود مكانهم، بشكل لا يمكن التراجع عنه.
"خمس سنوات على طريق الحرية وأنا خارجة من بؤرة التمييز العنصري، أجدني اتساءل أي احفورة قديمة سأكون ان ظل احساسي بذاتي مرتبطاً، اساساً، بواقع انني كائن أبيض؟".
بالنسبة الي، تضيف صاحبة جائزة نوبل، "التغيير الحقيقي الذي حدث بعد خمس سنوات من الحرية، يأتي من لدن الآخرين، من المناخ المختلف الذي بات سائداً في المدن والشوارع. من الاطار الذي فيه التقي الناس أو أعمل معهم. بالنسبة الى الاختلاط بأناس من كل الألوان ليس أمراً جديداً. إذ بين أمثال هؤلاء أقيم علاقات العمل وارتبط بصداقات وثيقة منذ سنوات عدة. ولكن، في الماضي كانت حياتي تسير ضد كل ما كان يعرّف هذا البلد ويعطيه سماته، حتى ولو كانت هذه الحياة مؤطرة بقوانين وبدولة وبتقاليد علمانية أو دينية تمثل كل ما لم يكنه هذا البلد. وحتى حين كنا نقول "وطننا" كنا نشير الى ذلك البلد الذي يبتعثه الناس وسط آلامهم، ويناضلون من أجله، باقين على قيد الحياة بأفضل ما يمكنهم ان يفعلوا. ان الكيان الرسمي لجنوب افريقيا، لم تكن له هوية على الاطلاق.
"اليوم بت واعية، في كل يوم وعبر ألف اشارة واشارة، واضحة أو مخبوءة، سعيدة أو مقلقة، ان في امكاني ان أتحدث عن "وطننا" ... وهذا ما أشعر به حين اخرج من بوابة بيتي، هذا ما أسمعه في ضجيج حركة المرور، وما أتعرف عليه حين أشق لنفسي طريقا على الرصيف بين البائعين الذين يبيعون كل شيء وأي شيء، من التليفون النقال، والعطور الفرنسية الزائفة الى الطماطم وورق المراحيض. ادركه بطرف عيني حين أقف في الصف في مكتب البريد، لأصغي الى الجابي الأسود وهو يوجه تعليماته الى الموظف الشاب الأبيض. وأسمعه في اللهجات العديدة للغاتنا المتعددة، وعلى السنة الذين يتحدثون بالانكليزية في البرامج الاذاعية، معلقين على المسائل السياسية والاجتماعية".
"كل هذا هو تلك السمة التي يصعب تعريفها والتي يطلق عليها اسم الثقة. الثقة التي تلوح حتى على وجه ابن الطائفة الكبرى طائفة العاطلين عن العمل، الذي يساعدني على إيقاف سيارتي بحركات مسرحية استعراضية. نعم، ما هذا سوى تناقض لا يتماشى مع الشروط الحقيقية لحياته. انني أعيش في جوهانسبورغ. في مدينة انتقالية تعج بهذا النمط من التناقضات".
عذراً يا جدتي!
"ذات مساء، منذ فترة وجيزة من الزمن، تروي نادين، سرق احدهم محفظتي، حين توقف الصديق الذي كان يقلني في سيارته، عند الضوء الأحمر. كنت قد نسيت ان اقفل باب السيارة: واقفال باب السيارة احتياط روتيني لدينا، مثل توزيع الواقي مجاناً تحسباً للاصابة بالايدز. استأت كثيراً، بالتأكيد، لأنني في غمضة عين فقدت مفاتيح البيت وبطاقة الائتمان وكراس التقاعد. أما واقع كون السارق شخصاً يعيش في الشارع ولا يتمتع بأي غطاء اجتماعي، فأمر لم يعزني أبداً... ولكن، في هذه الشوارع نفسها، حين أتمشى وسط الزحام بين اناس مستبعدين من رفاه المدينة يعيشون في احياء مغلقة وفي بيوت التنك، يحدث ان يحيط بي أحدهم فأسمعه على الفور قائلاً: "عذراً يا جدتي!". ستقولون انه التهذيب المعتاد. أبداً. انه يعتذر... لأنه يقبلني وكأنني مجرد قريبة له في أسرة بني البشر، هو الذي كان وجدوده مستعبدين، بمهارة ووحشية في الآن عينه، خلال أجيال وأجيال، منذ عهد الاستعمار حتى عهد التمييز العنصري ....
"ان الأجانب يعتقدون، بشكل مثير للفضول، ان البيض هم وحدهم الذين يتعرضون للسرقة والعنف والاجرام ... وهذا غير صحيح فالبيوت في ضواحي جوهانسبورغ، حيث يقطن السود، مسورة بالأسلاك الشائكة وتحرسها الكلاب على الدوام، بدورها. والسود الذين نجحوا في الاعمال أو في المهن الحرة، والذين صارت لهم اليوم مكانتهم في طائفة الأغنياء من أصحاب السيارات الفخمة، هم بدورهم ضحايا السرقات. نحن نواجه المشكلة نفسها معاً. ونستفيد من تجربة البلدان الأخرى، في محاولة منا لحماية مجتمعنا من الاجرام.
"ولكن، حين تتجولون في مدينتي، لن تكونوا بحاجة الى عالم اجتماع أو الى عالم اجرام، حتى تتعرفوا على أسباب انتشار رقعة الجريمة. وليس من قبيل التبرير وحسن النوايا، ان نجيب بسرعة ودون لف أو دوران بأن البطالة هي أول الأسباب. لقد حدث لي ان تعلمت قيادة السيارة من جديد، ومن الألف الى الياء، بعد ان قدت خمسين سنة تلت حصولي على رخصة القيادة، وذلك لأن من الضروري الآن التعرف على تقنيات جديدة تمكن السائق من القيادة بين الباصات الصغيرة، جواميس الطرق الجديدة. فهذه الباصات التي تقع في مكان وسط بين الباص الكبير وسيارة التاكسي، تشكل خطرا حقيقيا في الطريق بالنسبة الى سائق السيارة غير النبيه. فهي تطلق "زماميرها" من دون هوادة لجلب الزبائن المحتملين، وتلتقط ركابها في أي مكان يلوحون فيه وهم واقفون على جانب الطريق مثلما تفعل سيارات الأجرة الصغيرة. صحيح انها تسير في طرق منتظمة مثل الباصات الكبيرة، لكنها ليست مجبرة على اعطاء اشارة التوقف حين تتوقف. هذه الباصات السريعة تجدها دائماً مليئة بالركاب الذين يكادون يختنقون داخلها. لقد حلت هذه الباصات مشكلة النقل التي كانت أنظمة التمييز العنصري المتعاقبة قد حلتها بأن تركت السود يعتمدون على سيقانهم وحدها. بالنسبة الي هذه الباصات الصغيرة تؤكد منذ جاءت صناديق الاقتراع في العام 1994 حصول الناس على حريتهم، وتدل الى تدفقهم على المدينة بشكل مكثف. انها أفواج تتألف من ألوف الأشخاص الآتين بحثاً عن عمل من دون أن تكون لديهم، على أية حال، أية فرصة للعثور عليه. وهكذا حين لا يعود التسول المذل كافياً يأتي اليأس ليوجد طريقة يمكن بها البقاء على قيد الحياة: الاجرام.
الاجرام كان مخبوءاً
"ولكن على عكس ما قد يعتقده بعضهم براحة بال، من الجلي ان ظاهرة الاجرام هذه ليست وليدة الحرية. فالأمور لم تكن أحسن حالا أيام التمييز العنصري: كل ما في الأمر انها كانت مخبوءة. فالعاطلون عن العمل والحاصلون على جزء يسير منه، الذين يصلون اليوم الى المدينة عطاشاً الى حياة أفضل، كانوا في الماضي محصورين في "مواطن البؤس" ذلك الاختراع الاجتماعي العبقري الذي تفتقت عنه ذهنية أهل التمييز العنصري، حيث كانوا يحصرون داخل فقرهم. كان العاطلون عن العمل، مرض المجتمع، يحجر عليهم. واليد العاملة المهاجرة من الأرياف أو من اقليم الى آخر، لم يكن ليسمح لها بدخول المدينة إلا بنسب تتماشى مع احتياجات الصناعة. وكان القانون يمنع اولئك العمال من جلب أسرهم معهم".
نادين غورديمير تتذكر هذا، حين تشاهد، بأمّ عينها اليوم "هذه الفئة البائسة من أبناء التخلف" أطفال الشوارع. "فاليوم، تقول، ها هم أمام أنظارنا بدلاً من أن يبقوا سيئي التغذية سيئي التعليم داخل احياء التمييز العنصري، كما كان حالهم في الماضي، حين لم يكن في وسعهم أن يرعبوا أو يستفزوا اولئك الذين ينامون على أسرتهم المريحة ببطونهم المليئة".
نادين غورديمير ترى انه لا يمكن الآن للمرء أن يهز كتفيه مكتفياً باعتبار هؤلاء مجرد جيل ضائع. وتقول: "انني واحدة من اولئك الذين يضغطون لكي تطلق السلطات برامج تجديدية عريضة المدى، تؤمن في الوقت نفسه، التدريب والتشغيل. فحين يتعهد البالغون الصغار باهتمامهم، لن يبقى هؤلاء نزلاء الشوارع" وتضيف الكاتبة ان مما يشجعها اليوم على التفاؤل انها ترى "الحكومة وهي تضغط على الشركات لكي تؤمن شيئاً من التدريب".
قمة السلم وأسفله
من ناحية أخرى تلاحظ غورديمير أن سود جنوب افريقيا لا يزالون مبتدئين في عالم التجارة، وذلك لأن هذا النشاط الاقتصادي كان محرماً عليهم في الماضي حين لم يكن من حقهم أن يمتلكوا حوانيت في المدينة. من هنا فانهم نادراً ما امتلكوا رساميل يمكنها أن تطلقهم في الأعمال، ومع هذا ها هم اليوم يتعلمون وبسرعة وبكثير من المشقة كيف يدبرون أمورهم.
وتتساءل الكاتبة: اذا ما اعتبرنا التقاسم رمزاً أخلاقياً من رموز مرحلة ما بعد التمييز العنصري، ضمن أية مستويات سنراه بارزاً؟ "في قمة السلم الاقتصادي، تجيب، تلك القمة التي كانت في الماضي حكراً على البيض وحدهم، أما اليوم فقد بدأ اناس ينتمون الى الطبقة نفسها يعيشون بعضهم الى جانب بعض من دون تفريق في اللون أو العنصر. في الماضي كانت أية اشارة الى حي هافتون، تعتبر ذات دلالة سلبية، لأن هذا الحي السكاني كان يرمز في حينه الى الامتيازات المقصورة على البيض. واليوم ها هو نلسون مانديلا، رئيسنا، يقطن في هذا الحي. وعيشه فيه يرمز الى تواضعه هو الذي كان في امكانه ان يختار الدارة الرسمية التي كان يقطنها رؤساء نظام التمييز العنصري في بريتوريا. أما ضاحية ساندتون الأفخم بين الضواحي الخضراء، فلم يعد في الامكان، حقاً، اعتبارها رمزاً لنمط حياة رأسماليي البيض، لأن شخصيات سوداء من عالم الأعمال والمهن الحرة والاعلام والفن يعيشون فيها اليوم، مستمتعين بحراسة مشددة مفروضة عليها. ومن الطبيعي، على أية حال، ان يكون هؤلاء أقلية بين السود".
ولئن كانت الكاتبة تتحدث هنا عن قمة الهرم الاجتماعي، فانها لا يفوتها ان تذكر بأنه "في أسفل الهرم الاجتماعي الجديد، تحدث تغيرات تتناقض بدورها، وعلى طريقتها، مع أسلوب العيش الذي كان سائداً في الماضي". وتتذكر نادين كيف أنها في نهاية العام الفائت توجهت الى حي السود القديم في الكسندرا، حيث زارت شقة من ثلاث غرف بنيت حديثاً بفضل مساعدات عامة وقروض مصرفية ضئيلة الفوائد. هناك التقت نادين، كما تقول "افراد عائلة ماشا بيلا الخمسة الذين كانوا انتقلوا للعيش في الشقة بعد أن عاشوا طوال سبعة عشر عاماً في كوخ يتألف من غرفة واحدة كان يتكدس فيه أربعة عشر شخصاً". على هذا تعلق نادين قائلة "ان هذا النمط من تبادل الشروط المادية للعيش هو المعيار الرئيسي الذي آخذه في الاعتبار لكي أتحدث عن العدالة في وطني. في مدينتي. انني أعرف أن هذا الهدف ما كان يمكن التوصل اليه خلال خمسة أعوام، بالنظر الى الهوة التي تفصل الفقراء عن الأغنياء في البلدان الرأسمالية المتطورة، التي تجعل عادة من مثل هذا التطور حصان معركتها منذ مئات السنين، وبالنظر الى اخفاق البلدان الاشتراكية التي لم تعرف أبدا كيف تتفادى كبتها للحريات في خضم مراسيم السلطات. مثلما هو الحال مع الباصات الصغيرة، التي هي وسط بين الباص وسيارة الاجرة، يتعين على جنوب افريقيا ان تختار، براغماتيا، طريقاً وسطاً، اقتصاداً مختلطاً، يستفيد من الامكانات المتاحة كلها في سبيل اعطاء المساواة القانونية، التي تم الحصول عليها اليوم، تجسيداً اقتصادياً ومادياً تستفيد منه الغالبية الفقيرة.
تمييز... لكنه ايجابي
"في حياتي، كما أراها اليوم بوصفي مواطنة مسؤولة، كان من الطبيعي ان اهتم دائماً بالفن، بالشيء الذي يسمى بشكل فيه ازعاج لتذوقي الفني تكويناً ثقافياً، لا يكون فيه مكان لفوارق العرق واللون أو اللغة، وسط الحماس الجماعي في ملكوت المخيلة الذي لا يمكن حتى للتمييز العنصري أن يضمه الى عالمه. ولكن اليوم، لكي نجعل من جنوب افريقيا بلداً افريقياً، وليس مجرد مخفر "مؤفرق" للغرب، يأخذ السود المبادرة، كما ينبغي، يطلقون الجزء الأكبر من التجديدات الثقافية. والحال ان هذا النمط من التمييز الايجابي غير الرسمي والعضوي، يأتي ليخلق توازناً لم يكن له وجود يوم كانت الشراكات بين السود والبيض تميل دائماً الى ناحية واحدة، لأن البيض، في نشاطاتهم اليومية كانوا قادرين، قانوناً، على الحصول على امكانات مغلقة دون السود".
ومع هذا تؤكد نادين غورديمير: "انني أشعر أكثر من أي وقت مضى، بأنني أعيش في وطني وفي بيتي هنا. وأشعر بأنني على سجيتي حتى حين أعمل مع صديقي القديم والي مونغان سيروني، الشاعر والمناضل العنيف في سبيل الحرية، والذي صار اليوم نائباً في البرلمان ويحتل موقعاً مهماً في وزارة الفنون والثقافة، ومع والتر شاكيلا، مدير "ونديبرو سنتر" للفنون، ضمن اطار لم يكن له وجود من قبل، لا بالنسبة اليهما ولا بالنسبة الي.
"ربما كان يمكن القول هنا بأن المسألة تتعلق بميدان علاقات اجتماعية أكثر خصوصية من ميدان يشهد عبارة اعتذار تقول "عذراً يا جدتي!". رغم كل شيء هاآنذا اليوم أعمل الفكر حول مشاعري حين يحدث لي خلال جولاتي في المدينة أو في الضواحي، أن أمر أمام مدرسة ساعة الخروج من الصفوف. هذه المدرسة التي أعرفها جيداً، كانت في الماضي مخصصة للبيض. اليوم أرى الصغار يخرجون منها، الصبيان يقفزون والفتيات ممسكات بأيدي بعضهن والجميع يضحكون. ان ألوان البشرة كلها ماثلة هاهنا: سود من جنوب افريقيا، هنود من جنوب افريقيا، مهجنون من جنوب افريقيا، بيض من جنوب افريقيا. انهم ينمون ويترعرعون وهم يتقاسمون اليوم تجربة تعليمية مشتركة. لذلك لن يعيشوا أبداً ذلك الرعب المذهل الذي كشفت عنه لجنة "الحقيقة والمصالحة" ذات يوم، وكان ذلك الكشف ضرورياً لكي نعي ما الذي فعلناه أو سكتنا عن فعله. هؤلاء الصغار لن يرموا جانبا لكي يتعلموا الحقد والخوف من المجهول واللامبالاة بالآخر".
وتختتم نادين غورديمير مقالها بالحديث عن "واحد من أبناء الجيل الذي كان ضحية للتمييز العنصري، وهو توكيو سيكسوال، الرئيس السابق لحكومة غوتنغ الاقليم الذي تكوّن جوهانسبورغ عاصمته والذي صار اليوم مناضلاً في سبيل انعتاق السود نهائياً. توكيو هذا متزوج من بيضاء. ومنذ فترة قال لي عبارة يمكننا اليوم أن نجعل منها خط سلوك لنا، قال: اذا ما ضُرب أسود، فانني أنا من يضرب. وإذا ما مُسَّ البيض، فإن امرأتي هي من يمس. وإذا ما أُسيء الى الملونين، فإن أطفالي هم الذين يساء اليهم. ان وحدتكم تجسد ما أنا كائنه"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.