جرت أول انتخابات ديموقراطية في دولة جنوب أفريقيا في حزيران يونيو 1994 تمخضت عن نهاية نظام التمييز العنصري هناك، لكنْ ليحل بعد ذاك قلق البيض المتنامي. تقول المحللة الصحافية راشيل سوارنز إن النظام القديم طوى أذياله ليأخذ مكانه عالم جديد يتصف بالتشويش وعدم امكانية التأقلم والافتقار الى الاستقرار. فالتلفاز تغطي شاشاته فرقعة موسيقى "الزولو" والكهوسا، والأركان والزوايا ينتشر فيها متسولون من البيض، وهو منظر لم يكن في البال أو الحسبان قبل عقد من الزمن، ومنصات القضاء يجلس عليها قضاة من السود يصدرون من فوقها الأحكام، بل إن العنف الذي اختفى لحين من المناطق السكنية عاد دون ضابط له أو رقيب عليه لينتشر حتى الى ما وراء حدود المناطق السكنية وليزعزع المناطق الآمنة، أو التي كانت آمنة ويقطنها البيض. وقد أصبحت دولة جنوب افريقيا الجديدة بالنسبة للعديد من البيض، مكاناً غير مفهوم بدليل أنهم يصارعون لتثبيت انتمائهم الى ذلك البلد. وربما كانت تلك فعلا حقيقة ما ينتابهم، لأن الشعور لدى البيض بإمكانية اقتلاعهم، وجد التعبير عنه في أدبياتهم هناك، والتي تعلن صب غضبهم أو اظهار تخوفهم من مرحلة ما بعد التمييز العنصري. ولا بأس بقراءة السياسة انطلاقاً من الأدب: فقد صدر كتاب بعنوان "الخزي" لمؤلفه ج. م. كويزي يخلق فيه شخصية لإمرأة بيضاء اسماها لوسي تعرضت لاغتصاب ثلاثة رجال من السود. وبرغم نصيحة أبيها لها بأن تترك البلاد، فضّلت البقاء وهي على قناعة بأن المغتصبين قد يعاودون الكرة معها. ومع الاسف قررت المرأة البيضاء لوسي أن ما تعرضت له وما قد يصيبها بعد ذلك، هو الثمن المؤلم لاستمرارها مواطنة جنوب افريقية، وربما كان ذلك من التعويضات التي ينبغي على البيض سدادها لجماهير السود نتيجة اضطهادهم لهم طيلة ستة وخمسين عاماً. فتلك المرأة وفقاً لما ورد في الكتاب سألت نفسها: "ماذا لو كان ذلك ثمن بقائي في جنوب افريقيا؟ وهي بهذا تحاول تبرير عدم هروبها، لأنها أضافت: ربما ذلك ما يفكر به السود، بل ربما كان ذلك ما ينبغي أن أفكر به. فهم ينظرون اليّ كمَدين عليه سداد شيء ما. وينظرون الى أنفسهم كجباة للديون أو للضرائب. فلماذا يسمح لي أن أعيش هنا دون أن أسدد ما علي؟". والمحزن أن الكتّاب البيض في جنوب افريقيا أمثال كوتيزي ونادين غورديمير وهما ضمن من اشتهروا بفضح شرور نظام التمييز العنصري وممارساته، يصل بهم الحال الى رسم صورة مظلمة بنفس أقلامهم التي انتقدوا بها النظام العنصري، لواقع الحال في مرحلة ما بعد التمييز، من خلال كشف مجتمع حر يزرع بذور وحشيته بنفسه. وكتاب "الخزي" حاز في شهر تشرين الأول اكتوبر 1999 على جائزة "بوكر" البريطانية، وهي أهم جوائز الأدب والنشر. اما كتاب السيدة غورديمير "بيت البارود" الذي نشر عام 1998، فيصور بلداً تلتهمه الجريمة، وينقلب فيه توازن القوى العنصري، علاوة على أن البيض العاديين من المتعلمين باتوا يناضلون ليجدوا مواقع لهم في الترتيب الاجتماعي والسياسي الجديد. والغريب أن غالبية السود يمتعضون من مثل هذه الاستنتاجات أو القناعات، حتى لو صدرت عن متحررين بيض، لأنهم - حسب قولهم - باتوا يقولون ما يقولونه تأثراً بفقدانهم السلطة والنفوذ. ثم ان الممتعضين البيض من الجريمة، بحسب نقادهم السود، يقل عددهم كثيراً حين يكون ضحاياها من السود. وهذا فضلا عن تساؤل النقاد: كم من البيض وقتذاك، اي في عهد التمييز العنصري، عارضوا أو حتى انتقدوا انفراد البيض بخير الوظائف وأحسنها وترك السود في الظل تحت رحمة البطالة. وهي ملاحظات وأسئلة مشروعة، لكن ذلك منطق يحتمل الأخذ والرد. فالذي لا شك فيه أن الكتابين المذكورين اعلاه يعكسان عدم الارتياح الذي يحسه معظم البيض في دولة جنوب افريقيا: أمة قوس القزح الجديدة. وخير برهان هو لجوء البيض الى احاطة بيوتهم بأسوار عالية، وأبواب محصنة أمنياً، وبجدران ملفوفة بالأسلاك الشائكة، من أجل حماية أنفسهم في عالم متغير. وما يثير الدهشة أن الروايتين هاتين ما اثارتا جدلاً كبيراً في الصحافة المحلية مما يعطي الانطباع بأن مخاوف البيض قد اعتبرت من المسلمات. ففي كتاب السيدة غورديمير مؤشر واضح للغاية على أن العنف المستشري في البلاد أثّر حتى على تفكير المتحررين البيض، وهو يتمثل في واقعة معينة هي التالية: عندما اتُهم ابن زوجين هما هارالد وكلوديا، بالقتل، فوجئ الزوجان بأن محامي الدفاع عن ابنهما من السود، وهما اللذان لم يعتمدا طيلة حياتهما على أسود... وتحول ذلك الى مصدر قلق وخوف لديهما إذ كيف يدافع عن ولدهما اسود يصير مصيره بين يديه؟ ومن الواضح ان القصتين خرجتا ضمن روايات وكتب أخرى منذ وأد التمييز العنصري في دولة جنوب افريقيا، وتركزت محتوياتها، سواء تلك التي كتبها سود أو بيض، حول الماضي للتمهيد لحقائق الوضع الجديد. وفي هذا المعنى يلاحظ ديفيد أتويل، بروفيسور اللغة الانكليزية في جامعة ناتال بجنوب افريقيا ان الروايتين المذكورتين رسمتا صورة للثمن الفادح الذي كان على شخصيات قصتيهما دفعه في سبيل السلام في المجتمع الجديد. لكن السيدة غورديمير بدت أكثر تفاؤلاً نظراً الى كونها من أنصار التحول الديموقراطي في بلادها مع اعترافها بوجود مشاكل. فشخصيات قصتها من البيض يعترفون على الأقل بمسؤولية عدم الاكتراث أو السلبية حيال العنف في ظل التمييز العنصري. وبالتالي فهي وفقت بين الماضي والحاضر، وهو موقف يخالف رؤية مؤلف رواية "الخزي". والبروفسير أتويل الذي أصدر مؤلفا حول الكتاب المذكور، لم يتعاطف مع رؤية صاحبه للتجديد، لأنه كأكاديمي اعتبر العملية الجارية في دولة جنوب افريقيا عملية عدالة تاريخية أو تصحيح لا يمكن إعاقته، وانها ربما كانت عملية ضرورية: "نعم العملية قد تكون غير مريحة، ومن الطبيعي أن يتولد عنها بعض عدم الانسانية التي يستحيل أن نغفلها". لكنه يرى ايضاً ان تفاؤل الكتاب السود عندما يتناولون الحياة الراهنة في جنوب افريقيا له ما يبرره، بدليل أن كاتباً أسود مثل زاكيس مادا ذكر في قصته "كيفية الموت" ان زوجين من السود الفقراء وجدا الأمل والحب برغم عنف السود حيال السود الذي ساد البلاد قبل إقبال الديموقراطية. وهذا ما ادلى به السيد مادا في تحقيق صحافي معه، اذ قال بكلمات لا تحتمل التأويل: "لماذا أكون متشائماً؟ فأنا هنا في منزلي من حيث أحادثك بالهاتف. وأنا أعمل كاتباً متفرغاً أجني من عملي ما كان يستحيل أن أحصل عليه من قبل... فأنا انظر من النافذة المطلة على الحديقة، وعلى حوض السباحة وميدان التنس حيث يلعب أطفالي وهم سعداء. في السابق حتى لو كنت قادراً على امتلاك ما عندي الآن، فان سكني كان ليكون في منطقة بائسة لا يمكن لي أن أتفاءل وأنا فيها!". ويختلف كيلوين سول، الأستاذ المساعد للغة الانكليزية في جامعة رأس الرجاء الصالح كيب تاون مع زميله لأنه حذر من التعميم في ما يختص بالبعد العنصري. فهو درس أشعار مجموعة من صغار السود واكتشف أن رؤيتهم لدولة جنوب افريقيا الحديثة كئيبة، لأنهم يرون الخيانة بديلاً عن الاخوة في تصرفات الصفوة السوداء، كما يرون فوارق تفصل بين رفاق النضال في الماضي، آخذين على الساسة اهمالهم الناخبين الا لحظة الحاجة لأصواتهم. ويفسر الأستاذ ما توصل اليه بأنه برهان ساطع على أن الكتّاب البيض المتحررين ليسوا وحدهم من يناضل ضد التواءات المجتمع الجديد! والخلاصة أن مجتمع جنوب افريقيا، أو أمة قوس القزح، لا تزال في مرحلة مخاض سياسي واجتماعي. والظواهر الاخطر بدأت تعثر على مراياها في أدب الخوف الذي طفا على السطح، وهو خوف يتعدى متحرري البيض الى شبيبة السود المثقفة أيضاً!