الأرصاد: استمرار ارتفاع درجات الحرارة العظمى في 5 مناطق    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    «الراجحي» في الأمم المتحدة يستعرض منجزات السلامة والصحة المهنية    20 عاماً على موقع «فيسبوك».. ماذا تغير ؟    رقابة مشددة.. أغلى بقرة سعرها 4.1 مليون دولار    «خارطة بايدن» تخنق نتنياهو    احسمها يا الأخضر    يا اتحاد افرح بأبطالك.. دامت لك الفرحة    الثقفي ل«عكاظ»: «ناظر» الرئيس المناسب للاتحاد    إنشاء صندوق للاستثمار في شركات أشباه الموصلات بأكثر من مليار ريال    وكيل «الأوقاف» اليمني ل«عكاظ»: لمسنا خدمات متطورة في المشاعر المقدسة    5 أطعمة تزيد التعرّق في الصيف    المملكة تدين اقتحام عدد من المسؤولين في حكومة الاحتلال الإسرائيلي وأعضاء الكنيست ومستوطنين متطرفين للمسجد الأقصى    رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني يستقبل سمو وزير الدفاع    تقنية لتصنيع الماس في 15 دقيقة    مراكز معالجة وتدوير نفايات السفن    الرئيس جيله استقبل وفد اتحاد الغرف.. المملكة وجيبوتي تعززان العلاقات الاقتصادية والاستثمار    تطوير التعاون اللوجستي مع المغرب    وزير الدفاع يجري اتصالًا هاتفيًا بالرئيس المنتخب وزير الدفاع الإندونيسي    بتوصية من مانشيني.. الأخضر الأولمبي يقترب من مدرب إيطالي    السعودية تستضيف بطولة غرب آسيا الثالثة للشباب    نائب رئيس جامبيا يزور المسجد النبوي    الضليمي والمطيري يزفون محمد لعش الزوجية    القصبي أجاب على استفسارات الأعضاء.. "الشورى" يطلع على إنجازات ومبادرات" التجارة"    الحجيلي يحصد جائزة "المعلم المتميز"    سروري مقدما ل " ثلوثية بامحسون "    إعادة كتاب بعد 84 عاماً على استعارته    ترحيب وهدايا    رئيس الشؤون الدينية يدشن دورة "هدي النبي في المناسك"    استعرضتها ديوانية الراجحي الثقافية.. المملكة ..خدمات متميزة لضيوف الرحمن    ماء زمزم المبارك يطفئ عطش زوار المسجد النبوي    مبادرة السعودية الخضراء تُطلق شخصية «نمّور» بهدف إلهام الشباب والأطفال    حذّروا من إضاعتها خلف الأجهزة الإلكترونية.. مختصون ينصحون الطلاب باستثمار الإجازة    أدوية الأمراض المزمنة ضرورية في حقيبة الحاج    اكتشاف علاج واعد لسرطان العظام    عبدالعزيز بن سعود يرعى حفل تخريج الدورة (65) من طلبة بكالوريوس العلوم الأمنية والدورة التأهيلية (53) للضباط الجامعيين وطلبة البرنامج الأكاديمي الأمني للابتعاث الخارجي    المصريون ينثرون إبداعهم في «ليالٍ عربية» ب «أدبي الطائف»    اختبارات أيام زمان !    الفصول الدراسية: فصلان أم ثلاثة.. أيهما الأفضل؟    جمجوم وشعبان يحتفلان بعقد قران عبدالرحمن وليان    خالد بن سلمان يجري اتصالاً هاتفياً بالرئيس المنتخب وزير الدفاع الإندونيسي    «موارد مكة» ينفذ مبادرة «نسك» لاستقبال ضيوف الرحمن بمطار جدة    إيجارات خارجة عن السيطرة !    قائد النصر "رونالدو" يفوز بجائزة الأفضل لشهر مايو في دوري روشن    هند بنت خثيلة والتاريخ!    «ليلةٌ في جاردن سيتي»    الوزير الجلاجل وقفزات التحول الصحي !    المملكة ترحب باعتراف سلوفينيا بدولة فلسطين    حماية حقوق المؤلف    أمير المدينة المنورة يستقبل رئيس بعثة الحج العُمانية    مانشيني: هدفنا الفوز.. الليلة    وزير التجارة: الأنظمة تمنع الاحتكار.. وهناك مؤشرات ستكون معلنة على وكالات السيارات    أمير تبوك يرعى حفل جائزة فهد بن سلطان للتفوق العلمي    السديري يدفع ب93 خريجة من «تقنية بنات المجمعة» لسوق العمل    المملكة تدين اقتحام عدد من المسؤولين في حكومة الاحتلال وأعضاء الكنيست ومستوطنين متطرفين للمسجد الأقصى    ضبط 9 مخالفين لأنظمة الحج لنقلهم 49 مخالفا ليس لديهم تصريح    النسخة5 من برنامج "جسور" لتأهيل المبتعثين بالولايات المتحدة    تخصيص منزل لأبناء متوفية بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميلوشيفيتش في "أم المعارك" اليوغسلافية . الأطلسي يحارب أشباح البلقان
نشر في الحياة يوم 29 - 03 - 1999

إذا كانت الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، فإن هذه القاعدة لم تظهر بوضوح ما قدر الوضوح الذي شهدناه أخيراً في البلقان. فمنذ مفاوضات رامبوييه الأولى بين الصرب والالبان، حول أزمة كوسوفو، مروراً بمفاوضات باريس، ومن بعد امتناع الصرب عن توقيع اتفاق السلام الذي وقّعه جيش تحرير كوسوفو، خلال كل هذه المراحل، كان الملف الأطلسي يتبع استراتيجية معلنة على الملأ تنطوي على احتمالين: الحرب بالقوة العسكرية أو السلام باتفاق سياسي.
لم يعبأ الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش بهذا الكلام، فعلى رغم حضور مفاوضيه الى رامبوييه وباريس، كان يُفضّل خوض السياسة بشروطه، والحفاظ على كل مطالبه في اقليم كوسوفو وعدم التراجع عنها "بوصة واحدة"، وكان هذا الاصرار ينطوي على استعداده لخوض الحرب بكبرياء صربية، تتحطم اليوم على وقع القنابل والصواريخ الأطلسية التي تنهمر على بلغراد ومدن الاتحاد اليوغوسلافي.
بعد السياسة، أي بعد المفاوضات الديبلوماسية العسيرة، اندلعت الحرب من دون مؤامرة ولا مفاجأة وفي الموعد المحدد وبعلم الجميع، وهي حرب محددة الأهداف سلفاً، ومن المفترض ان يعرف أطرافها الحسابات العامة لبعضهم بعضاً، ومن المفترض ان تكون لكل منهم رهاناته وتقديراته لموازيين القوى، خصوصاً ان الطرفين يعرفان جيداً سيناريو حرب الخليج الثانية، ويعرفان اللاعبين في هذه الحرب والأسلحة المستخدمة والنتائج، وكلها مسائل تكاد أن تكون مشابهة بما في ذلك كبرياء الرئيس العراقي صدام حسين بمواجهة القوة العسكرية الوحيدة في هذا العالم. ومن المفترض ان الطرفين يعرفان أيضاً، وبداهة، لمن سيكون النصر ولمن ستكون الهزيمة في حرب البلقان، طالما أنهما يعرفان معرفة لا لبس فيها عناوين الانتصار والهزيمة في حرب الخليج.
وإذا كان من المفترض أيضاً أن يعرف الرئيس ميلوشيفيتش نتائج حرب الخليج، فكيف لا يعرف كذلك أن الولايات المتحدة كانت تخوض في البلقان منذ البداية حرباً اعلامية، على الأقل، من دون المعوقات والضوابط التي تفرضها آليات العمل من خلال الأمم المتحدة، وانها حددت منذ اللحظات الأولى التي استدرجت فيها المفاوضات الى رامبوييه أن حلف الأطلسي وحده سيكون معنياً بضمان اتفاق السلام إذا وقع، وباشعال الحرب إذا لم يوقع. وما يدهش في موقف الرئيس اليوغوسلافي انه على رغم معرفته بذلك كله، قاد بلاده الى الحرب، فإلى ماذا استند في حساباته والى أي حد يمكن ان يذهب في رهاناته؟ للاجابة عن هذا السؤال لا بد من الانطلاق من مجموعة من الفرضيات الآتية:
1- في الحسابات، يقول الخبراء ان تخلي الصرب عن كوسوفو سلماً من شأنه ان يلحق أذى كبيراً بسلطة ميلوشيفيتش الذي بدأ نجمه يصعد منذ الغاء الحكم الذاتي في كوسوفو العام 1989، فمنذ ذلك التاريخ اندفعت القومية الصربية الى الأمام وجرب الصرب ضبط يوغوسلافيا "تيتو" في اطار الهيمنة القومية الصربية المباشرة فخسروا سلوفينيا ثم كرواتيا وكادوا يخسرون البوسنة والهرسك كلية لولا التردد الأوروبي والانكفاء الأميركي بعد حرب الخليج الثانية وتجربتهم الفاشلة في الصومال، فجاءت اتفاقات دايتون تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 لتنقذ ميلوشيفيتش وتمنحه نصراً أكيداً. لكن في كوسوفو، مهد القومية الصربية، ومهد الأساطير والرموز والفخر الصربي التاريخي، في هذه المقاطعة كان كل تنازل يعني المس بجوهر الايديولوجيا التي يستند اليها ميلوشيفيتش في سلطته وشعبيته، ما يعني ان التنازل عنها سلماً يضرب أسس "الشرعية" التي يحكم ضمناً باسمها، والراجح أن ذلك كان سيؤدي الى انهيار حكمه. في حين ان التنازل عن كوسوفو بعد خوض الحرب من أجلها يمكن أن يوفر له فرصة للمستقبل على طريقة أمرئ القيس "نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا".
2- في الحسابات أيضاً كان ميلوشيفيتش غير قادر على ضبط جيشه المعبأ ايديولوجياً والمصمم على خوض الحرب حتى الانتحار، والمشبَّع بالكبرياء، إذا ما تنازل سلماً عن كوسوفو، في حين ان الضربات العسكرية والخسائر التي يمكن أن تنجم عنها ستجعله يواجه جيشه بالحقائق الملموسة وبالتالي القول: لا يمكننا أن ندمر صربيا القائمة من أجل مهدها الأسطوري. لقد واجهنا أكبر قوة في العالم ولم يعد أمامنا سوى الرضوخ للأمر الواقع. فيكون بذلك قد خسر الحرب من دون أن يخسر كبرياء الصرب القومية تماماً.
3- وفي السياق نفسه، كان يعتقد بأن روسيا التي ترتبط اثنياً مع الصرب في العرق السلافي، وترتبط معها دينياً بالمذهب الاورثوذكسي، وتقع على مقربة من حدودها وتدخل في اطار نفوذها المتضائل يوماً بعد يوم، كان يعتقد ان موسكو لا تسمح للأطلسي باهانة الروس في عقر دارهم، لكنه أخطأ في هذا الحساب كما اخطأ من قبل الرئيس صدام حسين، مع فارق أن خطأ الأول تم في نهاية العهد السوفياتي، في حين أن الخطأ الثاني ارتكب في عهد يلتسن المريض والذي يحكم بلاداً معتلة اقتصادياً وتحتاج الى مليارات صندوق النقد الدولي للبقاء على قيد الحياة. وهي بالتالي لا تملك وسائل خوض الحرب حتى لو كانت راغبة بذلك، لا بل انها ربما ساومت على انقاض نظام ميلوشيفيتش بطريقة أفضل بعد الحرب، للحصول على مساعدات أكبر وشروط اقراض افضل. أما القول بأن لروسيا مشاكلها مع الشيشان وهي شبيهة بمشكلة كوسوفو وانها تخشى ان يتكرر المثال عندها فهو قول ساذج، لأن حسابات الأطلسي مع الروس حسابات مختلفة تماماً وتقع في سياق علاقات من نوع آخر.
وربما اعتقد ميلوشيفيتش بأن الصين أيضاً لن تسمح بالتعرض لنظامه لأنها تخشى من التمدد الأطلسي الذي وصل الى مقربة من حدودها عندما أجرى مناورات في كازاخستان أي على بعد مئات الكيلومترات من حدودها مع قرقيزيا. وأن الشراكة الأطلسية مع آسيا الوسطى، والمجلس التشاوري الروسي الأطلسي واحتفاظ موسكو بعضوية المراقب الخاص في الحلف، كل ذلك يثير حفيظة الصينيين وغيظهم، وان هؤلاء سيقفون بصلابة ضد التدخل الأطلسي في كوسوفو، لكن مثل هذا الاعتقاد، ربما أهمل مسألة في غاية الأهمية وهي أن الصين لن تخوض حرباً كي تبقى كوسوفو في النطاق الصربي، وأن مصالحها المباشرة غير مهددة، ناهيك عن أن الحرب تتم في اطار الأطلسي وليس في اطار الأمم المتحدة وبالتالي لا سلطة سياسية لبكين في هذه الحرب. اما دول العالم الأخرى فلن تسمح ربما بخروج تظاهرة واحدة دفاعاً عن نظام لا يتورع عن قتل المدنيين أمام كاميرات التلفزيون ومن دون ان يتحمل عناء تبرير أفعاله.
4- وفي الاطار نفسه ربما اعتقد الرئيس اليوغوسلافي بأن الأطلسي سيتصرف تجاه نظامه كما تصرف من قبل في البوسنة. فخلال حرب البوسنة، ظل ميلوشيفيتش أربع سنوات يمارس التطهير الأثني ويتلقى التهديدات تلو التهديدات من الأطلسي ومن الأمم المتحدة من دون ان تنفَّذ هذه التهديدات على الأرض، خوفاً من تفجير برميل بارود البلقان. وربما كان يعتقد ان الغرب لم يتدخل في البوسنة خلال 4 سنوات على رغم كونها بلداً يتمتع بسيادة وطلب التدخل في مناسبات عدة، في حين أن كوسوفو جزء لا يتجزأ من يوغوسلافيا. وهنا أيضاً ارتكب خطأ فادحاً. فالظروف وموازين القوى الدولية وفي البلقان نفسه اختلفت تماماً عما كانت عليه قبل أربع سنوات. فقد وصل الحلف الأطلسي الى البلقان والى دول الاتحاد السوفياتي السابق وصارت موسكو بحاجة الى الشراكة مع الأطلسي أكثر مما يحتاج هو اليها. كما أصبحت بحاجة الى السوق الدولية ومركز القرار فيها بعدما حملها يلتسن بيديه الى هذه السوق، ما يعني أن تكرار مثال البوسنة في كوسوفو لم يعد وارداً وأن الأطلسي وتحديداً الولايات المتحدة، قادرة ان شاءت على اجتياز كل الشرعيات وكل العقبات للدفاع عن ديبلوماسيتها عندما يكون الخصم مجرداً من وسائل المجابهة الفعلية.
5- وفي حساباته ربما اعتقد ميلوشيفيتش بأنه قادر على التهديد بتفجير البلقان، خصوصاً الدول الخمس المجاورة التي تتأثر بالحرب في كوسوفو شأن مقدونيا التي تسكنها أقلية البانية تعادل ثلث السكان، فإذا ما جاءها لاجئون من كوسوفو هرباً من الحرب سيحدث ذلك خللاً في التركيبة السكانية بين السلاف والالبان، لكن الأطلسي متمركز في هذا البلد ولن يسمح بحدوث خلل فيه، أما بلغاريا وسلوفينيا والبانيا ورومانيا فهي مرتبطة باتفاق شراكة مع الحلف الأطلسي ينص على تعاون عسكري واجراء مناورات مشتركة وتأهيل القوات المسلحة في هذه البلدان، ناهيك عن انها تلقت قبل اعلان الحرب رسائل تطمين خطية من سولونا تتعهد بضمان أمنها الأمر الذي يقلل هامش المناورة أمام توسيع الحرب نحو هذه الدول بمبادرة صربية.
6- وربما اعتقد ميلوشيفيتش - وهنا مكمن الخطر الفعلي - ان انهيار نظامه أمام الحلف الأطلسي من شأنه أن يحدث خللاً خطيراً في ميزان القوى في البلقان. ذلك أن تدمير جيشه يعزز مراكز دول أخرى لها تطلعات بلقانية مثل تركيا والبانيا ومقدونيا، وأن ذلك قد يؤثر على اليونان وعلى مجمل ميزان القوى في البلقان وربما في أوروبا. لكن الأطلسي ربما وضع حسابات لهذا الاحتمال كما وضع التحالف الدولي حسابات مماثلة لحالة العراق قبل حرب الخليج الثانية وقد تكون هذه الفرضية الأقوى في حسابات ميلوشيفيتش.
7- ربما اعتقد ميلوشيفيتش ان شن الحرب على بلاده، يعرض اتفاق دايتون للخطر في البوسنة، ويجعل القوات الأطلسية المتمركزة هناك بلا تغطية وعرضة للخطر، لأنها ليست مجهزة لخوض حرب وانما لحماية السلام وفي هذه الحالة قد يشكل ذلك رادعاً لشن حرب أطلسية ضده. وهنا أيضاً ربما يكون الأطلسي قد أجرى حسابات مضادة من ضمنها ان تورط الصرب في حرب جديدة في البوسنة يضيق الخناق عليهم ويعزلهم أكثر على الصعيد الدولي.
8- ان مجمل هذه الحسابات تنصب في تحقيق هدف واحد فقط ورهان واحد ضئيل لا يقاس برهانات الحلف الأطلسي وأهدافه المتعددة، والرهان يقضي بالحفاظ على كوسوفو وان كان الثمن مواجهة أكبر قوة في العالم. ولعل انعقاد هذا الرهان يوحي بأن الرئيس اليوغوسلافي فقد تماماً الاحساس بمعطيات الواقع وخلاصتها ان الصراع يدور أصلاً على رهان حاسم: ان ينتصر هو أو تنتصر أكبر قوة في العالم، وان أحداً في العالم لا يراهن بفلس واحد على انتصاره.
في المقابل يبدو أن الولايات المتحدة ومعها 18 دولة في الحلف الأطلسي، رسمت منذ أواخر العام الماضي سيناريو محدداً لحرب البلقان، وربما عبر تنسيق خارج الأضواء مع فرنسا وبريطانيا. وهذا السيناريو تفصح عنه عملية "عين النسر" التي كشف النقاب عنها أخيراً وتتركز هذه العملية على استخدام الأقمار الصناعية وكل وسائل الاستطلاع لرسم تصور كامل وتحديد دقيق للقدرات العسكرية الصربية في مجمل أراضي الاتحاد اليوغوسلافي وإذا كانت العملية قد بدأت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي وبعد شهر فقط من اتفاق ريتشارد هولبروك مع ميلوشيفيتش على نشر مراقبين دوليين في كوسوفو وعلى سحب القوات الصربية من الاقليم وخوض مفاوضات سياسية مع الالبان، فإن انطلاق "عين النسر" تم بعد ان تنكر الرئيس اليوغوسلافي لنقطتين في الاتفاق، والسماح فقط للمراقبين المدنيين التابعين لمنظمة التعاون والأمن الأوروبي بالعمل في الاقليم.
بعد "عين النسر" بدا ان الجميع ينتظر ذريعة للمباشرة بتطبيق سيناريو حاسم. وجاءت الذريعة في كانون الثاني يناير الماضي عندما ارتكب الصرب مجذرة راتشاك في كوسوفو. ساعتئذ اجتمع الرئيس الفرنسي جاك شيراك مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير وأعلنا عزمهما على ارسال قوات عسكرية الى كوسوفو، وهي المرة الأولى التي يترجم فيها الطرفان تصميمهما على التعاون العسكري الملموس في أوروبا. وقد جلبا الصرب والألبان الى رامبوييه بضغط مباشر من الولايات المتحدة ووضعا الطرفين امام معادلة السلام والحرب، وبعدما نجحت مجموعة الاتصال بضم البان كوسوفو الى خطة السلام والتوقيع عليها، صار واضحاً ان الصرب الذين وافقوا في رامبوييه وبرسالة خطية على الشق السياسي من الاتفاق، تنكروا لتوقيعهم وعادوا الى نقطة الصفر، الأمر الذي اثار حفيظة الجميع بما في ذلك اصدقاؤهم الروس الذين أقروا الوثيقة من دون ان يقروا وسائل تطبيقها بالحرب الاطلسية.
لكن ما الذي يريده الاطلسي من هذه الحرب وما هي الحسابات التي اجراها وبالتالي رهاناته القريبة والبعيدة حولها؟
مما لا ريب فيه ان مجرد اندلاع الحرب ادى الى نشوء سوابق غير معهودة من قبل. فللمرة الأولى يخوض الحلف الاطلسي حرباً منذ انشائه في نيسان ابريل 1949. وللمرة الأولى تشن حرب على بلد لم يعتد على بلد عضو في الاطلسي، وعلى بلد يتمتع بسيادة على أراضيه. وللمرة الأولى، ظاهرياً على الأقل، تشن حرب من اجل هدف انساني، ما يعزز مقولة التدخل في شؤون الآخرين لأسباب انسانية. وللمرة الأولى تشارك المانيا في الحرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وللمرة الأولى تشارك فرنسا في حرب اطلسية كاملة. وللمرة الأولى تعلن حرب هي الثالثة في البلقان وفي أوروبا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولعل كل هذه السوابق سيكون لها ما بعدها، غداة انتهاء الحرب، لكن كيف ومتى تنتهي الحرب؟
مرة اخرى لا بد من العودة الى الاهداف المرسومة لها والنتائج المتوخاة.
- في خانة الاهداف يجدر التمييز بين المعلن منها والمضمر. وفي المعلن من الاهداف هناك حصيلة تحدث عنها الأمين العام للحلف الاطلسي خافيير سولونا والرئيس بيل كلينتون والرئيس جاك شيراك ونائب الأمين العام للحلف الاطلسي بيتر كليبير، ويمكن تلخيصها في ان الحلف يريد منع نظام متسلط من تدمير وقمع شعبه، ما يعني ان الاطلسي يعترف بأن البان كوسوفو جزء من الشعب اليوغوسلافي ولا يقر باستقلال الاقليم. وفي الاهداف ايضاً "خفض قدرة ميلوشيفيتش على تحقيق انتصار عسكري، وخفض قدرته على التطهير العرقي وقتل الابرياء. واجباره على الاعلان شخصياً عن وقف النار في كوسوفو والقبول باتفاق رامبوييه" ومن ثم "تفادي كارثة انسانية في كوسوفو".
ولتحقيق هذه الاهداف يعمد الاطلسي الى ضرب المحاور الاساسية في الجيش الصربي، وبصورة خاصة مراكز الاتصال والقيادة والتموين. فالجيش الذي يفقد الاتصال بقياداته، يصبح مشلولاً لأنه لا يتلقى تعليمات ولا أوامر ولا تمويناً منتظماً. ويتسع نطاق العمليات العسكرية ليشمل الرادارات والبنية التحتية لسلاح الطيران ووسائل الدفاع الجوي وهي الأهم في الجيش الصربي، ومن ثم الثكنات ومراكز حشود القوات.
- اما الاهداف غير المعلنة فهي كثيرة، وربما تتضح تدريجياً اذا ما استمرت الحرب، ومن ضمنها، عدا حل مشكلة كوسوفو، انهاء آخر نظام ديكتاتوري في أوروبا المقبلة اكثر فأكثر على تنظيم فضاء اتحادي ديموقراطي واسع، وعلى تجميع مصالح عالمية لا يرضى احد بأن تبقى عرضة للخطر الكامن والوافد من البلقان ومن النظام الصربي تحديداً. ومن ضمنها ايضاً حسم الخلاف على قيادة الحلف الاطلسي في أوروبا للولايات المتحدة وتخلي فرنسا عن مطلب تعيين أوروبي في هذه القيادة، وخفض دور الأمم المتحدة في النزاعات الدولية اذا كان هذا الدور لا يتناسب مع تطلعات الاطلسي ومصالحه، او على الأقل ايجاد وسيلة ضغط عالمية موازية لوسيلة الضغط الأممية، وبالتالي تعطيل فعالية الفيتوات الفرنسية والروسية والصينية في القضايا الدولية، واضعا حق الفيتو نفسه وعدم جعله جذاباً لدول متدافعة للمطالبة به، مثل المانيا واليابان والهند ومصر وغيرها. وتكريس دور الاطلسي في المناطق العالمية التي تهمه. وإذا ما استمرت الحرب وانتهت الى النتائج المرجوة فإنها ستلحق ضربة خاصة بمفهوم الدولة الامة وسيادتها على أراضيها، وبعبارة اخرى يمكن لهذه الحرب ان تفتح الباب امام اعادة نظر شاملة في الشؤون العالمية، وربما يذكر التاريخ ان قائداً ساذجاً كالرئيس ميلوشيفيتش سهّل ذلك كله. لكن الأمور لم تصل بعد الى هذا الحد ولم يعلن الحلف الاطلسي الانتصار في الحرب وبالتالي من السابق لأوانه "بيع جلد الدب قبل قتله"، الأمر الذي يقود الى الحديث عن الشكوك والمصاعب والاسئلة الغامضة التي تطرحها هذه الحرب.
في هذا الجانب يعتقد خبراء ومحللون اوروبيون ان مساحة مبهمة ما زالت مرتسمة بين اهداف الحرب ووسائلها. فإذا كانت الاهداف تركز على دفع ميلوشيفيتش الى طاولة المفاوضات والاذعان لمطالب الاطلسي، فإن الوسائل الحالية القاصرة على توجيه ضربات جوية قد لا تكفي وحدها، الامر الذي من شأنه ان يستدعي تدخل قوات برية، فهل تريد الدول الاعضاء في الحلف تشكيل جيش بري وتحمّل خسائر وتضحيات بشرية باهظة في بلد ذي جغرافية معقدة؟ هذا السؤال ما زال بلا اجابة واضحة حتى الآن، فبعضهم يعتقد بأن الضربات تكفي وحدها وان النتائج ستظهر سريعاً، وبعضهم الآخر يرى ان الاطلسي غير مستعد للمغامرة بسمعته وبالتالي التخلي عن الحرب في بدايتها، خصوصاً انه قرر بشكل حاسم ان "لا تفاوض مع النظام الصربي". وإذا ما ربطنا الرهانات الهائلة وغير المباشرة لهذه الحرب وهي كلها تخدم مصالح اوروبا والولايات المتحدة في العمق، فإن حديث الحرب البرية يمكن ان يكون جدياً وبالتالي ان تستكمل الحرب حتى نهايتها، اي انتصار الاطلسي على الصرب.
ويعتقد الخبراء انفسهم بأنه اذا كانت الحرب لحماية المدنيين فإن احداً لن يحميهم غير القوات البرية، خصوصاً اذا قرر الصرب الهرب الى أمام وبالتالي ارتكاب مجازر انتقامية وجرّ دول مجاورة الى الحرب.
ويرى خبراء آخرون ان الصرب يتمتعون بقدرة كبيرة في الدفاع الجوي وانهم اسقطوا في السابق طائرات حربية بريطانية وفرنسية وأميركية، فهل تؤدي الخسائر الاطلسية الى تضعضع الوئام المرتسم داخل الحلف؟ وهل يؤثر ذلك على تصميم اعضائه على اكمال الحرب حتى تحقيق اهدافها المعلنة وغير المعلنة؟ هنا ايضاً يصعب تقديم جواب حاسم لأن الجواب يتوقف على طول الحرب وعلى مدى المقاومة الصربية وعلى تصميم الولايات المتحدة نفسها على الزج بقوات برية ضخمة، وهو امر لم ترتسم مؤشرات حوله حتى الآن. لكن في كل الحالات لن تكون الحرب في البلقان مجرد نزهة، لكنها لن تتضمن مبالغات خرقاء كتلك التي سادت خلال حرب الخليج الثانية والتي كانت تؤكد ان الجيش العراقي هو رابع قوة في العالم.
ويجمع الخبراء على ضرورة الحفاظ على التوازن في البلقان، اي عدم ايصال المواجهة مع النظام الصربي الى حد تحطيم كامل قدرته العسكرية، لئلا يخلق ذلك فراغاً تستفيد منه دول اخرى ويؤدي الى نشوء مشاكل شبيهة بالمشكلة الصربية - الألبانية، ذلك ان كل دول البلقان تحتفظ بأقليات وأكثريات متداخلة. ويرد بعضهم على هذا الاحتمال بالحديث عن مؤتمر عام بعد الحرب لحل كل مشاكل البلقان. لكن هنا ايضاً من الصعب الحديث عن هذا الاحتمال في ضوء المعطيات الراهنة. ويطرح محللون فرنسيون فرضية تقسيم كوسوفو كحل للمشكلة، لكن هذا الحل، على اهميته، قد يستخدم كمخرج للمأزق الذي ينتج عن احتمال الحرب البرية، والصمود الصربي، غير ان هذا الامر قد يبدو ضئيلاً أمام الرهانات الكامنة والمعلنة وإذا ما اعتمد لن يخرج معه الاطلسي كبيراً.
ويعتقد خبراء في شؤون البلقان ان روسيا قد تتخلى عن تحفظها النسبي وقد تجد نفسها مضطرة للانسياق وراء القوميين الروس اذا ما نجح ميلوشيفيتش في اثارة دول البلقان، وان اعلان بيلوروسيا وأوكرانيا عن عزمهما على التحول مجدداً الى دولتين نوويتين ربما تم بالتنسيق مع روسيا التي ستكون قادرة على نشر صواريخ نووية في هاتين الدولتين. ذلك ان تطور الحرب وامتدادها من شأنه ان يضع المصير الروسي نفسه على المحك، وبالتالي ان يتعدى الحسابات الاقتصادية وحدها وضآلة الرهان القائل بأن "الروس لن يموتوا من اجل كوسوفو". لكن هنا أيضاً من الصعب الانسياق وراء هذا الاحتمال الكوارثي الذي يبدو انه يصب الماء في طاحونة ميلوشيفيتش اكثر من اي طرف آخر.
قصارى القول ان حرب البلقان اندلعت ولن تتوقف قبل تحقيق الاهداف المرسومة لها. انها حرب نهاية القرن العالمية وكما حروب بداية القرن في البلقان نفسها، كان تنظيم العالم يبدأ من هذه المنطقة وخطر تدميره يأتي منها. لكن الفارق بين حروب مطلع القرن وحرب نهايته ان الاخيرة مفتوحة بالفعل على افق يتسم بالغموض، لكنها في الوقت نفسه تتم وسط خلل هائل في ميزان القوى وفي ظل رهانات عالمية مختلفة وفي حضرة مركز وحيد للقوة في العالم، وذلك كله لا يمكن ان يسمح بانتصار ميلوشيفيتش وهزيمة الاطلسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.