يعتقد كثيرون من اليابانيين ان مسلمي اليابان هم فقط من المهاجرين الذين قدموا لكسب الرزق في ظل الطلب المتصاعد على اليد العاملة الرخيصة. بينما يظن الكثيرون من غير اليابانيين ان الاسلام غائب عن بلاد الشمس الساطعة. ولكن الحقيقة مغايرة لذلك. ففي اليابان أقلية اسلامية محدودة العدد لا تتجاوز عشرة آلاف نسمة، موزعة على جميع مناطق البلاد، تسكن غالبيتها في اوساكا مدينة الصناعة والتجارة وثاني المدن اليابانية من حيث عدد السكان، بعد طوكيو العاصمة التي يسكنها عدد قليل من المسلمين. ويلاحظ أي زائر للمكتبات اليابانية الكثيرة ودور النشر، تزايد الكتب التي تعالج المواضيع الاسلامية والعربية، بمختلف وجوهها، واهتمام اليابانيين باقتنائها. وحسب احصاءات وزارة الخارجية اليابانية فإن حوالي 140 يابانياً قاموا بأداء فريضة الحج الى الديار المقدسة هذا العام. وإذا كان الاهتمام الياباني الرسمي بالشؤون العربية امراً مفهوماً وطبيعياً نظراً الى العلاقات الاقتصادية الكبيرة التي تربط اليابان والعالم العربي، خصوصاً ان اليابان تعتمد على النفط العربي، وتلمح الى لعب دور اكبر على الساحة العالمية، الا ان المدهش هو اندفاع عامة اليابانيين ورغبتهم بالتعرف على العالم الاسلامي والعربي. وينعكس هذا ارتفاعاً لعدد السياح اليابانيين الى العالم العربي. ويطرح الكثير من العرب والمسلمين أسئلة كثيرة عن موقع الاسلام في بلاد الشمس الساطعة والتكنولوجيا المتقدمة، خصوصاً ان اليابان تحاول منافسة القوى الكبرى في منطقتي الشرق الأوسط والمغرب العربي. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مساهمة القوات اليابانية في قوة حفظ السلام على هضبة الجولان، وهي المرة الأولى التي يتم فيها ارسال قوات يابانية الى الخارج منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. وكذلك المساهمات المالية والتقنية الكبيرة التي تقدمها الحكومات اليابانية المتعاقبة لمناطق الحكم الذاتي في غزة والضفة الغربية، ودعمها لعملية السلام. وفي هذا الاطار جاء الاجتماع الذي تمّ اخيراً في فيينا عاصمة النمسا، وضمّ مسؤولين حكوميين ورجال أعمال وممثلي مجموعات وشركات صناعية وتجارية يابانية بهدف تقويم استراتيجية اليابان في منطقة الشرق الأوسط للسنوات المقبلة. ويربط عدد من الباحثين بداية العلاقات اليابانية - العربية بفترة ما بعد ازمة 1973 النفطية، التي اعقبت حرب اكتوبر، وظهور النفط كسلاح في يد العرب. وعلى رغم ان هذه المرحلة شهدت اهتماماً يابانياً رسمياً بالمسائل العربية والاسلامية رافقه نشر العديد من الدراسات العلمية، الا ان العلاقات اليابانية العربية هي في الواقع اقدم من ذلك بكثير. ويعود اهتمام اليابان ببلدان منطقة الشرق الأوسط الى بداية عهد الامبرطور مِيْجي الذي أخرج اليابان من عزلتها ونقلها من مجتمع اقطاعي زراعي الى مجتمع صناعي. وقد تسلم الامبرطور مِيْجي الحكم بعد حركة عامة أحدثت تغييراً في الحكم، تخلصت خلالها اليابان من حكم "شوغون"، وأعادت الاعتبار لدور الامبرطور. ويختلف الكثيرون على تسمية هذه الحركة، ففيما يطلق بعضهم عليها اسم "ثورة" يسميها بعضهم الآخر "حركة ميجي الاصلاحية"، لكن المعنى الممكن استخلاصه من الاسم الياباني لهذه الحركة "ميجي إيشين"، هو اعادة تجديد، وهو الاقرب الى الفكر الياباني ولما احدثته هذه الحركة من تغييرات في المجتمع الذي انتقل من دولة زراعية متخلفة اقتصادياً، منطوية على نفسها، مكبلة بمجموعة من المعاهدات التجارية والسياسية مع القوى الغربية، الى مجتمع متقدم ذي قوة صناعية وعسكرية يحسب لها حساب، وذلك في فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود. ومن اهم المطالب التي كانت وراء الحركة الثورية هذه كانت التخلص من "المعاهدات غير المتكافئة" التي أُجبرت اليابان على توقيعها منذ العام 1854 مع الاميركيين أولاً ومن ثم مع القوى الغربية الأخرى والتي فتحت بموجبها اسواقها للبضائع الاجنبية. وقبل ان تضطر اليابان لتوقيع سلسلة المعاهدات هذه، ومع بدء تقاطر السفن الحربية الأوروبية تطرق أبوابها حاملة مبعوثي شركات الملاحة والتجارة ممثلة لمصالح الدول الاستعمارية الكبرى، كانت السلطات اليابانية تتبع اخبار الدول الآسيوية والافريقية الاخرى الواقعة تحت نير الاستعمار في القرن التاسع عشر. وكانت اليابان كغيرها من الدول الآسيوية محط اطماع الدول التجارية الغربية، ومعرضة لخطر التحول الى مستعمرة، الا انها كانت تراقب كيف يتم تقاسم الصين بين مختلف القوى وكيف تمكنت الدول الأوروبية من انتزاع امتيازات لها فيها، خصوصاً بعد حرب الأفيون 1839 - 1842 التي ربحتها بريطانيا. ومنذ تلك الفترة بدأت طوكيو تدرس السياسة البريطانية الاستعمارية في الهند وفي مصر. ولكنها ركزت اهتمامها على مصر لأنها كانت دولة مستقلة قبل ان تخضع لسيطرة الانكليز، وفي شروط مشابهة لواقع اليابان في تلك الحقبة. ومن المفارقات التاريخية انه منذ منتصف القرن التاسع عشر اتبعت مصر الخدوية واليابان الاقطاعية نهجاً مماثلاً في محاولتهما قهر التخلف والدخول في عصر التصنيع. وقد اوصلهما هذا النهج الى نتائج مشابهة: ديون لكبرى شركات التمويل والمصارف الأوروبية، ومن ثم تبعية لمجموعة مصالح أوروبية ادت بالدولتين الى خضوع للضغوط السياسية، ومن ثم التنازل المتزايد عن سيادتهما. وإذا كانت مصر قد وقعت تحت الاحتلال المباشر فإن اليابان استطاعت التملص من حبائل القوى الاستعمارية، مستفيدة من مراقبة التجربة المصرية، خصوصاً ازدواجية النظام القضائي والنظام الجمركي المميز للبضائع البريطانية. في العام 1886 أوفدت طوكيو تقشي هَسِغوا الى مصر لدرس احوالها في ظل الاتفاقات التجارية والسياسية الموقعة مع بريطانيا. وعاد يرفع توصية تفيد بأن العمل بهذا النظام في اليابان سيقود لا محالة الى نظام احتلال مباشر، كما هو الحال في مصر، وانه من الضروري العمل على محاولة تفكيك نظام المعاهدات غير المتكافئة الموقعة مع القوى الغربية. وقد شهدت هذه الفترة صدور العديد من الكتب والدراسات التي تبرز اهتمام المثقفين اليابانيين بشعوب منطقة الشرق الأوسط الرازحة تحت الاستعمار، وأشهر هذه الكتب "حوار مع عرابي باشا" الذي الفه "سايجي نومورا" في العام 1887، وهو خلاصة لحوار اجراه مع الزعيم المصري في منفاه في جزيرة سيلان. وينتهي الكتاب بكلمة من عرابي باشا ل"الدولة الفتية: اليابان" ينصحها بضرورة "التعامل بحذر مع القوى الغربية الطامعة بثروات الشعوب الآسيوية والافريقية". وفي الفترة نفسها صدرت مجموعة من الكتب الشعبية التي اظهرت تفاعل الشعب الياباني مع الشعوب المقهورة. ومن ابرزها "تاريخ مصر الحديث" او "سجل حملة تونس". ولعل اشهرها مجموعة "مغامرات عالم الجمال" كتبها توقاي سانشي بين عامي 1885 و1897 وفيها اشادة بروح المقاومة للقوى الاستعمارية. غير ان مسيرة التاريخ، ونجاح اصلاحات لميجي نقلت اليابان من دولة على وشك الوقوع تحت سيطرة الاستعمار الى مصاف الدول المتقدمة صناعياً، لها مصالح اقتصادية خارج حدودها. فبدأت تتطلع نحو جارتها المنهكة الصين، وشاركت القوى الغربية بتقاسم "أشلاء" جارتها الكبرى. ونتيجة لتقدم مواقع اليابانيين في الأراضي الصينية، تضاربت مصالحهم مع مصالح روسيا القيصرية، ووصلت الأمور الى حد الحرب الشاملة. وقد ربحت اليابان الحرب وأجبرت روسيا على توقيع معاهدة سلام مُذلة، بعدما قضت على اسطولها البحري في معركة تسوشيما الشهيرة العام 1904. وكان لهذا التحول انعكاسات مختلفة لدى الدول المستعمرة. فقد صفق المثقفون العرب، وفي مقدمتهم مثقفو مصر، لانتصار دولة "آسيوية" للمرة الأولى على دولة "بيضاء" تنتمي الى القوى الغربية الحديثة. واتخذ كثيرون من مثقفي الدول الاسلامية الموقف نفسه، خصوصاً في تركيا وإيران. واعتُبرت اليابان مثالاً يُحتذى به للخروج من متاهات التخلف والاستعمار. ومن أبرز ما صدر في تلك الحقبة قصيدة مصطفى كامل الشهيرة بعنوان "الشمس المشرقة" 1904. غير ان موقف الأوساط المثقفة اليابانية، مثلها مثل موقف السلطات، تغير كذلك، فاليابان باتت حليفة لبريطانيا في آسيا، وساعدها ذلك على اعادة صياغة المعاهدات غير المتكافئة، وباتت تشكل نواة قوة امبريالية في جنوب غربي آسيا. وانقلب موقف المثقفين من مؤيدين لحقوق الشعوب بالاستقلال الى مناصرين للآلة الحربية اليابانية، وللايديولوجية الامبريالية التي تقف وراءها. وبعد احتلال اليابان لكوريا، اصبحت الكتب التي تصدر عن مصر ونظام الاحتلال البريطاني تركز على سبل ادارة المستعمرات، وتجري مقارنة بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، في محاولة للاستفادة من تجربتيهما في كوريا. ومن اشهر هذه الكتب: "بحث حول نظام الاستعمار الفرنسي لتونس" وكتاب "مصر الحديثة" وهي ترجمة عن الانكليزية قدّم لها رئيس الوزراء الياباني السابق شيغنوبو أووقوما ودعا فيها الى تطبيق النظام الاستعماري الانكليزي في المستعمرات اليابانية. وقد تنبه بعض المثقفين اليابانيين الى هذا التغيير في موقف بلادهم من الدول الاخرى بشكل عام والعالم العربي والاسلامي بشكل خاص. وأشهر هؤلاء الكاتب القصصي توقوتومي روقا الذي نشر كتاب "من اليابان الى اليابان" وهو يروي رحلته الى الشرق العام 1919، ولاقى الكتاب رواجاً كبيراً. وقد روى مشاهداته في المنطقة ونقل وقائع التظاهرات الشعبية في مصر، ونضال الشعب المصري الذي كان يطالب بحقوقه المدنية. ونبّه السلطات اليابانية الى ان كوريا بالنسبة الى اليابان هي مثل مصر بالنسبة الى بريطانيا، وان ما يحدث في مصر سيحصل ذات يوم في كوريا. وتحت وطأة الاحتلالات والاستعمار، وظروف الحرب العالمية الأولى ونتائجها، تراجع اهتمام الشعوب العربية والاسلامية بما يحدث في اليابان. غير ان السلطات اليابانية التي كانت تستعد لمستقبل استعماري متوسع، انشأت بعض المؤسسات المهتمة بالشؤون الاسلامية لدرس عادات الشعوب المسلمة. وساعدت هذه المراكز القوى العسكرية اليابانية التي غزت معظم دول آسيا الجنوبية على ادارة شؤونها. والجدير بالذكر ان اليابان احتلت اندونيسيا وماليزيا، وكانت لها مطامع في شمال الصين حيث حقول النفط التي كانت تتطلع اليها بشهية. ويقال ان وزارة الحرب اليابانية ارسلت مجموعة من الموظفين اليابانيين في مطلع القرن الحالي، الى بلاد الأيغور في شمال الصين، اي مقاطعة زينغ جيانغ المسلمة، وكازاخستان، بهدف التحضير لوصول الجيش الياباني. وخلال هذه المرحلة صدرت عن هذه المراكز العديد من الاصدارات اهمها: "سيرة محمد صلعم" لمؤلفه قنئيتشي سَقَموتو 1923، وهو كان قد ترجم معاني القرآن الكريم للمرة الأولى الى اليابانية العام 1920. وكذلك كتاب "الاسلام" لمؤلفه قَمِه سِغَوا وهو أول محاولة لتفسير العقيدة الاسلامية للقراء اليابانيين. وتكمن اهمية هذا الكتاب في كونه يطرح الموضوع الاسلامي عبر الفكر الياباني مباشرة من دون المرور بالطروحات الغربية. وتضمنت مقدمة الكتاب انتقاداً واضحاً لجهل الغرب آنذاك لعمق الفكر الاسلامي، ودعوة لأخذ آراء المستعربين الغربيين بكثير من الحذر. وتجدر الاشارة الى ان أول ياباني قام بأداء فريضة الحج الى مكةالمكرمة حسب السجلات اليابانية هو قوتَرو يَمَاأوقا العام 1912، وقد نشر قصة زيارته للأراضي المقدسة تحت عنوان "أسرار العالم: الرحلات العربية". وهناك أيضاً كتاب إبِّي تَنَقا الشهير بعنوان "اليابان واليابانيون" الذي وصف فيه مراسم الحج. الا ان أول مجموعة مسلمة اجنبية اقامت رسمياً في اليابان كانت من فلول التتار الذين حاربوا مع اليابانيين جيوش القيصر الروسي، واستقروا بعد الحرب في طوكيو، وكان يتزعمهم قربان علي. وقد سمحت لهم السلطات في حينها بالدعوة للاسلام وإنشاء أول مدرسة اسلامية في طوكيو 1927. وبعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان جرى حل مراكز الدراسات الاسلامية التي كانت تابعة لوزارة الحرب، لمعاقبتها على دورها في ادارة شؤون الدول المحتلة. وظل الأمر على حاله حتى العام 1956 وأزمة السويس التي اعادت مصر الى واجهة الاحداث، خصوصاً مع بروز الرئيس جمال عبدالناصر وتحالفه مع أحمد سوكارنو رئيس اندونيسيا المستعمرة اليابانية سابقاً، ودعوتهما الى قيام حركة دول عدم الانحياز، في وقت كان التململ من وطأة التحالف مع الولاياتالمتحدة المفروض على اليابان قد بدأ بالظهور. فعاد الاهتمام بالدول الاسلامية الى الأوساط الرسمية، نظراً الى اهمية قناة السويس في دعم تجارة اليابان الصاعدة. ولكن الأوساط المثقفة وحلقات الدراسات لم تتوقف خلال تلك المرحلة التي امتدت من الحرب العالمية الثانية وحتى عودة أمور الشرق الأوسط الى واجهة الاحداث. فقد نما جيلان من المستعربين في غياب اي مؤسسة تعليمية او مركز ابحاث او جامعة تدعم نشاطه. وفي السبعينيات قفز الاهتمام بالعالم العربي والاسلامي قفزة كبيرة بسبب النفط، فأنشئت في المدن اليابانية مراكز لتعليم اللغة العربية ودرس الأوضاع الاجتماعية في الدول العربية والاسلامية. وكان لتصاعد قوة الجيل الثاني من نمور آسيا، خصوصاً الدولتين الاسلاميتين اندونيسيا وماليزيا، ولمحاولة اليابان العودة الى منطقة آسيا الجنوبية، دور في نمو الاهتمام بالدراسات الاسلامية. وبطريقة مباشرة الى التشديد على اللغة العربية لغة القرآن الكريم. ولكن ما هو واقع دراسات اللغة العربية والدراسات الاسلامية حالياً في عهد الاتصال والتواصل هذا، ومرحلة انفتاح اليابان على العالم، ومحاولتها لعب دور على مستوى قوتها الاقتصادية؟ حملت هذه الاسئلة وتوجهت الى جامعة أوساكا للدراسات الاجنبية، حيث يوجد أحد أعرق مراكز دراسة اللغة العربية والدراسات الاسلامية في اليابان. ويرأس قسم اللغة العربية البروفسور شين تَقِدا وهو ممثل الجيل الرابع من المستعربين وقد تدرب على ايدي الأساتذة السابقين الذين أعادوا لدراسات اللغة العربية اشراقها في اليابان. ويمكن متابعة عمل هذه الاجيال السابقة عبر اعمال ترجمة معاني القرآن الكريم. فالرعيل الأول مثّله توشيهيقو إيزُتسو الذي قام بوضع أول ترجمة لمعاني القرآن العام 1957. وأنهى الترجمة قَتسوجي فُوجيموتو العام 1970. وساهم كل من أوسَمُو إيقدا وشينجي مَئِجيما في هذا العمل. ومن أعمال هذين المستعربين ترجمة كتاب "الف ليلة وليلة" وكتاب "ابن جبير". وتلامذة هذا الرعيل مسؤولة حالياً عن معظم مراكز دراسات اللغة العربية المنتشرة في اليابان.