عالمان، واحد للمرأة وآخر للحرف، يستحضرهما معرض عبدالجبّار غضبان وعبّاس يوسف الذي استضافه أخيراً ديوان الكوفة في العاصمة البريطانيّة. يبدو الفنّانان الآتيان من البحرين، للوهلة الأولى، وكأنّ واحدهما يقتفي خطوات الآخر... ثم يفترقان في النهاية عند عتبة الاحتمالات المفتوحة لفنّ الغرافيك. فكلاهما يوظّف رهافة الخط وشفافية اللون لكشف المكامن الجماليّة للموضوع: غضبان مولع بحالات المرأة ويوسف بسرّ الحرف العربي. أربعون لوحة ضمّها معرضهما اللندني الذي زاره ل "الوسط" الزميل فيصل عبدالله، تندرج ضمن سياق سعيهما إلى ترك المشاهد في منطقة ما بين التشخيص والتجريد: منطقة يتقابل فيها، بكل احتمالات التوتّر والتماهي، وجها الحقيقة والرمز. ولعل العلاقة الحميمة بين عبدالجبّار غضبان وعبّاس يوسف، وتقاربهما الفكري والفنّي معرض لندن هو الثامن في اطار تجربتهما المشتركة، من العناصر التي مهّدت لمثل هذا التداخل والتصعيد في الدلالة الشكليّة والموضوعيّة لأعمالهما... فكأنّهما فنّان واحد ينظر من زاويتين مختلفتين، أو فنّانان مختلفان ينظران من زاوية واحدة. عبدالجبّار غضبان مواليد 1953، خريج كلية الفنون التشكيليّة في جامعة دمشق، ينهل من المصادر الأصليّة لفنّ الغرافيك، أي من تلك المصادر التي أرساها التعبيريون الالمان في انجذابهم، عبر أسلوب الحفر والطبع إضافة إلى الرسم، إلى سبر العوالم الداخلية المفجّرة للانسان. إلا أن الميل إلى التعبيرية التشخيصيّة عنده ينأى به بعيداً عن التقليد والمحاكاة. فهو قادر بحسّه الصادق وبتقنيّته العالية على ابتداع عوالم شديدة التميّز، مثلما هي شديدة الخصوصيّة. فالمرأة التي نراها تتكرّر في أعماله بوضعيّات مختلفة، وأحياناً مباغتة، لا تظهر إلا موشّاة بمفردات محليّة، تحمل ملامح نساء الخليج. ويلفت النظر لدى غضبان اعتماده أسلوب "الرليف" الذي يسمح لبعض تفاصيل العمل بالبروز عن مستوى السطح، سعياً إلى تجسيد البعد الثالث للمشهد. أما عبّاس يوسف مواليد 1960 فاختار الاقامة في البعد الواحد، أو المجرّد للحرف العربي. ولعل اهتمامه بجماليّة الحرف يرجع إلى معرفته بأسرار اللغة العربيّة التي درسها في جامعة قطر، قبل أن يدخل عالم الفنّ. وتجربته في تطويع الحرف بصرياً، واستكشاف مكنوناته وممكناته الجماليّة، تندرج باعترافه ضمن سياق تجارب من سبقه في هذا المضمار من فنانين عرب بارزين كمديحة عمر، وضياء العزاوي... ويتحوّل الحرف عنده عنصراً مثيراً للتأمل والدهشة، بسبب ما يختزن في تضاعيفه من حزن كربلائي ومن معان صوفيّة يرى الفنّان فيها أفقاً رحباً ولانهائياً للوجود. وهذه تفصح عنه استعاراته من ابن عربي وصولاً إلى شعراء معاصرين مثل قاسم حداد وأمين صالح...