في الأيّام الأخيرة من العام الماضي وقف المئات من المثقفين والفنانين المصريين ليوجهوا "رسالة من طيبة إلى العالم" في ساحة الدير البحري أمام معبد حتشبسوت في وادي الملكات في البر الغربي في مدينة الاقصر، حيث ارتكبت المذبحة البشعة التي ذهب ضحيتَها 58 سائحاً أجنبياً وأربعة مواطنين مصريين. وهذه المذبحة سيصعب تفادي تأثيرها على الحياة الثقافية في مصر لفترة طويلة. إنها جعلت العام 1997 يمضي أكثر شحوباً ولا يترك إلا خوفاًَ متزايداً على المستقبل. وتحرّك المثقّفين المصريين تأخّر بعض الشيء، فجاء يسلّط الضوء على الفراغ الذي تركه رحيل مبدع ومناضل طغى حضوره على الساحة المصريّة والعربيّّة، ولعب دوراً أساسياً في قيادة حملات الاحتجاج في صفوف المثقفين. إنّه سعد الدين وهبة رئيس اتحاد كتاب مصر الذي تغلّب عليه المرض في 11 تشرين الثاني نوفمبر وهو في الثانية والسبعين، ويصعب أن نجد من يملك مقدرته نفسها على جمع المثقفين لخوض المواجهات. وبغياب وهبة الكاتب المسرحي وأمين عام اتحاد الفنانين العرب، اتشح افتتاح الدورة الحادية والعشرين ل "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". أغلقت المحاكم المصرية طوال العام أبوابها بوجه دعاوى الحسبة، فلم تعد قضايا الفن والثقافة تناقش داخل أسوار العدالة، بل على الساحة العامة. هذا ما فعله مثلاً أستاذ الفلسفة الدكتور عاطف العراقي حين هاجم "المصير"، فيلم يوسف شاهين الأخير، من خلال المنابر الاعلاميّة المختلفة. فقد وجّه العراقي اتهامات خطيرة للسينمائي المصري الذي حاز الجائزة الخاصة بالدورة الخمسين لمهرجان "كان" السينمائي الدولي في 18 ايار مايو، معتبراً أن الفيلم "لا علاقة له بابن رشد"، بسبب المغالطات التاريخيّة والتعميمات والتجاوزات العلميّة. لم ترفع أيّة دعوة قضائيّة ضد يوسف شاهين 71 عاماً إذاً، كما حدث عند تقديم "المهاجر"، مع أن الجمهور انقسم بحدّة حول "المصير". مصحّات عقليّة للمتطرّفين كما فضل فتحي فضل أن يخوض معركته ضدّ صنع الله ابراهيم على الساحة العامة أيضاً. اتهم فضل صاحب "اللجنة" بسرقة مقاطع من مذكراته الصادرة سنة 1993 بعنوان "الزنزانة"، واستعمالها كاملة في روايته الأخيرة "شرف" الصادرة في سلسلة "روايات الهلال". وانتهى الجدل الذي ألهب الحياة الثقافية المصرية أشهراً عدّة، باقتناع شبه عام بأن صنع الله ابراهيم استفاد من "الزنزانة"، وذكرها في قائمة مراجعه، لكنه لم يسرق. وأصدرت جبهة علماء الأزهر بياناً ضد "مشروع الدكتور حسن حنفي التدميري"، يذهب إلى حدّ اتهام المفكّر المصري "بالإساءة إلى الاسلام". لكن القضيّة لم تصل إلى القضاء، وتفادى مثقفو مصر استعادة التجربة المريرة التي مر بها نصر حامد أبو زيد وزوجته، وهما لا يزالان مبعدين عن مصر. ودافع شيخ الازهر محمد سيد طنطاوي في لندن عن اسلام الدكتور حسن حنفي، كما دان مفتي الديار المصرية الدكتور نصر فريد واصل جبهة علماء الازهر واتهمها بالاساءة إلى الاسلام. ولعلّ قانون تنظيم رفع دعاوى الحسبة الذي صدر في العام 1996، هو صاحب الفضل الأوّل في الحد من هوس اللجوء إلى المحاكم الذي كاد لفترة يصبح شكلاً غير مباشر من أشكال الرقابة على الابداع. واضافة إلى الانخفاض الملحوظ في قضايا الفن والثقافة أمام المحاكم، سجل القضاء المصري نقاطاً في الدفاع عن حرية الفكر. فالمحكمة الدستورية العليا أكّدت في 3 شباط فبراير أن مسؤولية رئيس التحرير عما ينشر في صحيفته مدنية وليست جنائية، ما أبعد سيف التهديد بالسجن عن رقاب رؤساء التحرير بسبب آراء نشرت في صحفهم. وحصل كلّ من معالي زايد وممدوح وافي على البراءة في محكمة الاستئناف في 18 ايار مايو، بعد أن قضت محكمة جنح الازبكية في 12 آذار مارس بحبسهما سنة مع الشغل، وكفالة 500 جنيه لكل منهما، لأدائهما مشاهد تخدش الحياء في فيلم "أبو الدهب". كما قضت بحبس المنتج سمير عبد العظيم شهراً مع الشغل وكفالة 100 جنيه لاضافته المشاهد الفاضحة على النسخة الأصلية للفيلم بعد عرضها على الرقابة. وبعد الحكم الأوّل قامت في مصر حركة تضامن واسعة مع الفنّانين. وفي 7 حزيران يونيو أسقطت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة دعوى المحامي عبد الحليم رمضان لمنع عرض "المهاجر" ليوسف شاهين، ثم أصدرت نفس المحكمة حكماً نهائياً في 31 تموز يوليو، برفض كل الدعاوى التي اقيمت ضد "المهاجر" خلال العامين الماضيين "لرفعها من غير ذي صفة" مع السماح بعرض الفيلم في أي مكان. وفي حزيران يونيو أيضاً أنهت محكمة استئناف شمال القاهرة مشاكل فيلم "طيور الظلام" لشريف عرفة مع القضايا التي استمرت في المحاكم اربع سنوات. وفي 5 آب أغسطس، قررت احدى المحاكم وقف تنفيذ الحكم الصادر ضد علاء حامد سنة مع الشغل بسبب روايته الفاضحة "الفراش". كما رفضت محكمة استئناف القاهرة دعوى لورثة عبد الوهاب وعبد الحليم لتصفية "صوت الفن"، احدى المؤسسات الفنية العريقة في الشرق. ويبقى حكمان مهمان يشيران إلى رغبة القضاة في تخفيف البت في القضايا الفكرية التي تعني المجتمع المدني، والتي تجد حلّها في النقد والحوار. ففي 30 حزيران يونيو رفضت محكمة جنوبالقاهرة دعوى الشيخ يوسف البدري ضد مجلة "روز اليوسف"، وناشدت المحكمة الدولة وضع المتطرفين في مصحات نفسية لعلاجهم من داء الوصاية على الآخرين. وفي 15 أيلول سبتمبر ألغى سلامة سليم، قاضي الأمور الوقتية في محكمة شمال القاهرة الابتدائية، قرار مصادرة كتاب "رب الزمان" لسيد القمني الصادر في 13 آب أغسطس، بناء على تقرير مجمع البحوث الاسلامية في الأزهر. وجاء قرار المحكمة انتصاراً لحرية الاجتهاد، بعد صدور بيانات تنديد بمصادرة الفكر. أزمة السينما إلى انفراج؟ واستغرب المراقبون أن يوافق مجمع البحوث الاسلامية على تحويل رواية مصطفى محمود "زيارة للجنة والنار" إلى عمل مسرحي. ففي أول شباط فبراير رخصت لجنة التظلمات العليا في الرقابة، برئاسة المستشار عادل الشربيني، بعرض المسرحية وحذفت ثلاث عبارات فقط. لكن العمل لم يرَ النور لاعتذار المخرج جلال الشرقاوي. أما أشهر فضائح الوسط الفني لعام 1997، وعرفت بشبكة الآداب التي ضمت حنان ترك ووفاء عامر وعنبر وغيرهن، وكانت أذهلت الرأي العام وتوسعت الصحف الشعبية في نشر تفاصيلها المثيرة، فوجدت حلّها أيضاً بعيداً عن القضاء، بعد نشر دفاع الفنانات عن أنفسهن ورفع النائب العام قراره بحظر النشر في القضية. وما زال التحقيق مستمراً في التقرير الذي قدمه نبيل فاروق رمضان في تشرين الثاني نوفمبر ضد مؤلف فيلم عادل إمام الجديد "رسالة إلى الوالي". يدّعي فاروق أن العمل مأخوذ عن قصّته المنشورة سنة 1992 تحت عنوان "المهمة"، وهو ما ينفيه مؤلف رواية "رسالة إلى الوالي" الاديب الشاب بسام اسماعيل. وشهدت وزارة الثقافة المصرية تغيرات خلال العام المنصرم، إذ تمّ تغيير أربعة مناصب قيادية من أصل عشرة بحكم انتهاء فترة التكليف أو الخدمة أو بسبب الاستقالة. فقد انتهى انتداب علي حسن في الآثار وحل محله جاب الله، وانتهت خدمة حسين مهران الرزاز. واستقال محمود فهمي حجازي من رئاسة "دار الكتب"، فتولى المهمة بصورة موقّتة جابر عصفور، الامين العام ل "المجلس الأعلى للثقافة". كما استقال ناصر الأنصاري من رئاسة "دار الاوبرا" فحل محله مصطفى ناجي. وشهدت وزارة الثقافة عموماً حركة عزيرة من الانتدابات والتغييرات، من دون أن يعلن بوضوح عن خلفية تلك الحركة؟ وحققت وزارة الثقافة انجازات مهمة، أهمّها ترسيخ التظاهرات الخاصة بالفن والثقافة. وأصبحت المهرجانات الابداعيّة مؤسسات لها كيانها وتقاليدها واشعاعها: معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يديره سمير سرحان، مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الذي يديره فوزي فهمي، مهرجان الموسيقى العربية في دار الاوبرا باشراف رتيبة الحفني، مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي صاغ ملامحه الراحل سعد الدين وهبة حتى دورته الاخيرة. ولا بدّ من الاشارة إلى مؤتمرات وانشطة واصدارات "المجلس الأعلى للثقافة" الذي يديره جابر عصفور، وإلى انجازات "صندوق التنمية الثقافية" الذي دعم، باشراف سمير غريب، نشاطات متعددة اصدارات، جمعيات أدبية، بيوت ثقافية، أعمال مسرحية للشباب.... ونشير أيضاً إلى سياسة المتاحف والمعارض الجديدة التي ينفذها أحمد نوار. انحسار المسرح التجاري وهناك مهرجانات أخرى أثارت ضجّة وانتقادات، مثل مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي، ومهرجان الاسماعيلية الدولي للفنون الشعبية، والمهرجان القومي للسينما المصرية الذي اثار غضب وزير الثقافة بسبب تجاهل الفنانين لنشاطاته فهدد بالغائه، ثم أدخل تعديلات على نظامه الأساسي. وبدأت أزمة السينما تشهد بعض الانفراج، فانتاج العام الماضي وصل إلى 26 فيلماً، وهو حجم معقول اذا قورن بانتاج التسعينات الضئيل. لكنّ السينمائيين ثاروا ضد قرار مجلس الوزراء المصري الذي يشترط لمنح التسهيلات ألا يقلّ رأسمال شركة الانتاج عن 200 مليون جنيه. وهدد يوسف شاهين بالاضراب عن الطعام. إلا أن الضجة هدأت بعد تأسيس شركة "نهضة مصر" التي أطلقها رجل الأعمال نجيب ساويرس، وأشترى أسهماً فيها بعض الفنانين مثل نبيلة عبيد ومحمد حسن رمزي... وهناك شركتان يجري تأسيسهما حالياً، وتستوفيان الشروط المفروضة للاستفادة من مساعدة الدولة رأسمال 200 مليون جنيه. لكنّّ الشركات الثلاث لن تبدأ بالانتاج، بل ستعمل في مجال التوزيع أولاً. وبشكل عام أقبل الجمهور هذا العام على السينما بشكل مرض، وحققت الأفلام المصريّة ايرادات عالية. ففيلم عادل إمام "الكنكة والجردل" الجزء الثاني من "بخيت وعديلة"، حقق أربعة ملايين جنيه. ونجحت أفلام جادة ك "المصير" تجارياً، كما حقّق فيلم "اسماعيلية رايح جاي" أعلى الايرادات في تاريخ السينما المصرية 8 ملايين جنيه. وردّ النقّاد هذا النجاح إلى نجم الكوميديا الشاب محمد هنيدي الذي أزعج عادل امام ومحمد صبحي وسمير غانم وغيرهم. فالعرضان الأولان من مسرحيّة امام الزعيم في بداية الموسم الشتوي حققا 60 ألف جنيه، بينما بدأ هنيدي ب "ألابندا" وحقق في الليلتين نفسهما 130 ألف جنيه. أما محمد صبحي فتوقّف عن العرض، وفشل في اقناع عادل إمام بتقديم عمل مسرحي مشترك. لكن ربّما استطاع اقناع لطيفة للموسم القادم. وشهد المسرح التجاري خلال العام حركة انحسار، فهناك أعمال حققت خسائر، وأعمال أخرى لم تتمكّن من تغطية مصاريفها إلا بصعوبة. ولم ينجح سوى "ألابندا" و"باللو" لاعتمادهما على النجوم الشباب والمطربين منى عبد الغني - حسن الاسمر. كما نجحت "الزعيم" في عامها السادس. واذا كانت الدولة حاولت مساعدة السينما من بعيد، فانها لم تسحب يدها من المسرح، ومع ذلك فهو غارق في الازمات. وشهد مطلع العام اجتماعين عاصفين لرجال المسرح مع وزير الثقافة، ثم عقد المؤتمر القومي للمسرح المصري في شهر تموز يوليو وأصدر عدداً خرافياً من التوصيات يوازي عدد مشاكل المسرح في مصر. ومن بين التظاهرات التي تزداد أهمية مع الاعوام، لا بدّ من الاشارة إلى مهرجان "القراءة للجميع" اشراف سمير سرحان الذي قدّم هذا العام 150 عنواناً وزّعت ثمانية ملايين نسخة. ويسعى المهرجان الذي ينهض على دعم وتبرعات هيئات مصرية متعددة، والذي قرّرت منظمة اليونسكو أن تدعمه بمبلغ 200 ألف دولار سنوياً، إلى توفير الكتب الفكريّة والأدبيّة والعلميّّة القيّمة بأسعار مخفّضة جداً. لكن مشروعاً بهذا الحجم ينطوي على متاهات كثيرة، ويتطلّب جهوداً كبيرة، ويقع أحياناً في فخّ المجاملات لجهة اختيار المؤلفات. كما شكا بعض المؤلّّفين الذين نشروا ضمن هذا الاطار، من عدم استناد عقودهم إلى معايير دقيقة، ما يجعل الحقوق ترتفع أو تنخفض لاعتبارات غير ثقافيّّة بالضرورة. وخارج مهرجان "القراءة للجميع"، شهدت حركة النشر في مصر نشاطاً ملحوظاً، وكثرت الاصدارات خلال العام ولعلّ أبرزها وأكثرها رواجاً "المقالات اليابانية" لمحمد حسنين هيكل. مشاكل مؤجلة تراجع ملف "التطبيع الثقافي" مع اسرائيل، وعلى حد تعبير نجيب محفوظ الذي أكمل عامه السادس والثمانين في كانون الأول ديسمبر الماضي: "من يجرؤ على الحديث عن التطبيع الآن؟". فاتحاد الكتاب طلب من اعضائه "المطبّعين" مراجعة مواقفهم خطيّاً حتى يقفل هذا الموضوع بصفة نهائية، واتحاد النقابات المهنية يقوم باجراءات فصل المخرج حسام الدين مصطفى. وقد استقال لطفي الخولي من حزب التجمع بعد "اعلان كوبنهاغن"، ووجهت نقابة الصحافيين لفت نظر إلى عدد من أعضائها الذين توجّهوا إلى جبل ابو غنيم للاشتراك في مسيرة لحركة "السلام الآن". الذين غابوا... بين الفنانين المصريين الذين غابوا خلال العام 1997، نشير إلى مديحة كامل ومحمد عوض وشكري سرحان وأنور محمد وسيد مكاوي وهنري بركات... اضافة إلى مخرجي التلفزيون: محمد عبد المجيد وعبد الله الشيخ ومحي الدين مصطفى وفايق اسماعيل، والمخرج المسرحي حافظ احمد حافظ، والمخرج التسجيلي صلاح التهامي. كما غاب عازف الكونترباص عباس فؤاد "عظمة"، والاذاعي جلال معوض، وشيخ الخطاطين محمد عبد القادر عبد الله، والفنان المتحفي علي كامل الديب، والاذاعي ايهاب الازهري ومدير عام الاوبرا سمير زكي. وفي مجال الأدب والصحافة نشير إلى مصطفى أمين وسعد الدين وهبة والدكتورة سهير القلماوي وعبد الرحمن شوقي، والقانوي أحمد سلامة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية أحمد القصبي، والروائي الشاب وائل رجب. كما انتحرت أروى صالح صاحبة "المبتسرون" ورحل المفكر محمد احمد خلف الله، وعالم الذرة كمال الدين عفت.