لا يمكن رصد علامات فارقة في المشهد الثقافي المصري خلال العام 1996، باستثناء انجاز "تشريعي" يعد مكسباً نسبياً ويتمثل في تنظيم اجراءات رفع دعاوى الحسبة، وإلغاء قانون يحدّد "جرائم النشر الصحافي". وهناك استثناء ثالث هو نجاح القاهرة في اقامة مهرجانها الشعري أخيراً على الرغم من بعض السلبيات التنظيمية. فضل هذا الانجاز يعود إلى المجلس الأعلى للثقافة الذي يديره مثقّف بارز هو جابر عصفور نجح في تحويله من مجلس روتيني لا يتذكره المثقفون سوى مرة واحدة في العام، وقت اعلان جوائز الدولة إلى سند للثقافة والمثقفين في مصر، وذلك على رغم ضعف امكاناته المادية والادارية. قانون تنظيم اجراءات رفع دعاوى الحسبة الذي وافق عليه مجلس الشعب بالاجماع - ورفضه بعض التيارات المطالبة بالغاء الحسبة كلية - ليس له مفعول رجعي، ما جعل محكمة النقض في الخامس من آب أغسطس تؤيد حكم الاستئناف الصادر بالتفريق بين الباحث نصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس. والأمر نفسه جعل أيضاً محكمة استئناف عابدين تؤيد في أيار مايو 1996 حكم وقف عرض فيلم "المهاجر" نهائياً ومنع تصديره إلى الخارج. لكن القانون الجديد منع على الأقل دعوى كانت تهدد نجيب محفوظ وكادت ترفع للتفريق بينه وبين زوجته بسبب رواية "أولاد حارتنا". وسببت أخبار صحافية عن هذه الدعوى ألماً للروائي الكبير. وقال إن روايته "ليست كافرة ولا أنا بكافر، ويزعجني أن أنهي حياتي في هذه السن في ساحات المحاكم. أنا الذي لم أدخل محكمة في حياتي". وسهّل القانون الجديد رفض دعوى أقامها محام ضد أحمد عبد المعطي حجازي أمام محكمة المنصورة، في شهر أيار مايو. ورفضت دعوات ضد أفيشات فيلم "النوم في العسل" لشريف عرفه وضد الفنانة يسرا، ودعوى ضد فيلم "طيور الظلام" لأنها "رفعت من غير ذي صفة أو مصلحة مباشرة". مخاوف المثقّفين وإذا كان التشريعان السابقان حققا توازناً في أوساط الابداع والنشر الصحافي أقيمت قبل القانون 196 دعوى ضد صحافيين في الفترة من آذار/ مارس 95 إلى آذار/ مارس 1996، فإن مخاوف تجددت لدى المثقفين اثر اجتماع عقده وزير الداخلية حسن الالفي مع ممثلي اتحاد الكتاب واتحاد الناشرين بهدف منع "الكتب الاباحية". وعدم نشر محضر الاجتماع شجّع الاجتهادات والتأويلات، بعد تصريحات أدلى بها مثقفون شاركوا في الاجتماع. وجاء على لسان بعضهم أن أفكاراً طرحت لوضع نوع من الرقابة على الكتب الاباحيّة، قد تنسحب فيما بعد على التأليف والنشر في كل المجالات. وكانت الرقابة الغيت بالكامل في عام 1977. طمأن وزير الداخلية المثقفين لاحقاً، وأكد أن هدف الاجتماع مع ممثلي الكتاب والناشرين، كان التداول بشأن "الكتب العنواء ومطبوعات الارهابيين"، مطمئناً أنّه "لا يوجد مشروع قانون جديد للمطبوعات". أما مواقف المثقفين المصريين من التطبيع مع اسرائيل، فاستمرت على حدّتها، كما شهدت تصعيداً هائلاً اثر تولي الليكود مقاليد الحكم في اسرائيل. وقبل الانتخابات الاسرائيليّة الأخيرة، كان المخرج السينمائي حسام الدين مصطفى دعا المثقّفين المصريّين إلى التخلّي عن مقاطعة اسرائيل، وشارك في مهرجان حيفا السينمائي في حزيران يونيو. ورفض النجم الكوميدي عادل إمام الانتقادات القاسية الموجّهة إلى فنانين زاروا اسرائيل. وهذا الموقف أعلن عنه ضمن ندوة شهدت اقبالاً كبيراً، ضمن اطار "معرض القاهرة الدولي للكتاب" في شباط فبراير، من دون أن يدعو إلى التطبيع. وبعد أن أثارت تصريحاته زوبعة في مصر، عاد إمام فأكّد أنّه لن يزور اسرائيل أبداً. وازداد موقف الفنانين تشدداً بعد وصول الليكود إلى الحكم، إذ أصدرت الجمعية العمومية للنقابات الفنية، في تشرين الاول أكتوبر ، قراراً يقضي بفصل أي فنان يزور اسرائيل. كما عقدت الحركة المصرية لمقاومة الصهيونية ومقاطعة اسرائيل 1000 عضو مؤتمرها التأسيسي. ولكنّ الحدث الأهمّ على هذه الجبهة، يبقى تراجع كتّاب بارزين دافعوا طويلاً عن التطبيع، عن مواقفهم السابقة. لعلّ أبرز هؤلاء أنيس منصور الذي كتب في "الأهرام"، خلال تشرين الثاني نوفمبر، "أن نتانياهو رجل لا يستحي، ويبدو أن هذا قراره النهائي ... يا سيد نتانياهو، أنت أشقى من ولدت الأمهات في إسرائىل". ولخص الرئيس مبارك الموقف في الشهر نفسه قائلاً: "لا يمكننا أن نأمر المصريين بالتطبيع". أما نجيب محفوظ وهو من دعاة السلام، فاعتبر في شهر تشرين الاول اكتوبر أن السلام توقف تماماً بمجيء نتانياهو. غارودي والهولوكوست وعلى هامش الرفض الهادر للتطبيع، جرى استقبال المفكر الفرنسي روجيه غارودي في القاهرة بالترحاب، بعد صدور الترجمة العربيّة لكتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية". ينطلق صاحب "واقعيّة بلا ضفاف" من مواقف تضامنيّة مع القضايا العربيّة قضيّة فلسطين تحديداً ومن العداء لاسرائيل، ليدخل منطقة فكريّة مشبوهة تقلّل من أهميّة "الهولوكوست" وتكاد تنكر وجوده، ما جعله يواجه هجوماً شرساً في فرنسا. لكنّ المثقّفين العرب في معظمهم، وقعوا في الفخّ ولم يفرّقوا بين المعركتين: الدفاع عن قضية العرب العادلة في وجه الغرب المنحاز غالباً لاسرائيل، والتورّط في معركة غربيّة - غربيّة صرفة لا تعنيهم، وقد تلوّث نصاعة قضيّتهم... ورفضت أجهزة الأمن تصوير فيلم اسرائيلي عن حرب تشرين الأوّل أكتوبر، كما رفضت الرقابة التي تولاها الناقد علي أبو شادي خلفاً لدرية شرف الدين سيناريو "الوداع والرعب" عن قصة حب بين مصري واسرائيلية. وأدّى مسلسل تساقط الجواسيس الذين يعملون لصالح الموساد إلى تكريس رفض التطبيع على الصعيدين الثقافي والشعبي. ولم ينتبه الجمهور إلى اختيار القاهرة "عاصمةً ثقافية اقليمية عربية للعام 1996"، إلا في الأسابيع الأخيرة من العام. ولعلّ أحد الأسباب أن "منظمة اليونسكو" لم تعلن قرارها إلا في تموز/ يوليو، لكنّ وزارة الثقافة - "المجلس الأعلى للثقافة تحديداً - بذلت قصارى جهدها لاعطاء الاحتفال بعض رونقه وبريقه. وكتب نجيب محفوظ في أيلول سبتمبر إلى فاروق حسني وزير الثقافة: "القاهرة قادرة على مواجهة التطرف". واحتفل المجلس الاعلى للثقافة بمرور 35 عاماً على رحيل بيرم التونسي. وتم افتتاح متحف أمير الشعراء أحمد شوقي "كرمة ابن هانئ" وقادت المصريّة الأولى سوزان مبارك حملة جمع تبرعات لتطوير "دار الكتب" في باب الخلق، فإذا على رأس المتبرعين السلطان قابوس 10 ملايين جنيه مصري. وافتتح مركزان للابداع، هما منزل زينب خاتون، ومنزل عبد الرحمن الراوي. وأقيم مؤتمر حول الرواية المصرية في الدار البيضاء بالتعاون مع "اتحاد كتاب المغرب"، وملتقى ثقافي مصري - مغربي في مدينة سلا بالتعاون مع جمعية أبي رتواق. واحتضنت القاهرة ندوة "كتاب الطفل"، والاحتفالات بمئوية السينما المصرية، ومهرجان القاهرة للابداع الشعري. وعقد المؤتمر الثقافي العربي الثالث في القاهرة، بالتنسيق بين "المجمع الثقافي العربي" في بيروت و"المجلس الأعلى للثقافة". وكرّم أحمد عبد المعطي حجازي في "موسم أصيلة الثقافي" المغرب حيث فاز بجائزة تشيكايا أوتامسي للشعر الافريقي. فضيحة توت عنخ آمون واستأثرت الأخبار والنقاشات حول الآثار المصرية اهتمام الجمهور العريض. فالعام الماضي حقّقت خلاله عمليّات ضبط الآثار المسروقة "أثناء عرضها للبيع"، أرقاماً قياسيّة. وتمحورت أبرز الانتقادات الموجّهة إلى وزارة الثقافة حول قطاع الآثار الذي تصر الحكومة على عدم فصله عن الثقافة. وتمّت تنحية رئيس هيئة الآثار عبد الحليم نور الدين، بعد فضيحة توت عنخ آمون. وتفصيل الحكاية التي تداولتها الصحف طويلاً، أن شاباً نجح في الاختباء داخل المتحف بعد اغلاقه ليلاً، وقام بسرقة أجزاء من قاعة توت عنخ آمون، ولم تكتشف فعلته إلا بفعل المصادفة. ثم جاءت قصة المحتال الذي ادّعى العثور على كنز في أسوان، ونجح في اقناع وزير الثقافة وشرطة السياحة والآثار بمقلبه، ليزيد من حدّة الانتقادات. واحتضنت القاهرة عدداً لا بأس به من التظاهرات والمهرجانات العربيّة والدوليّة، نذكر منها: معرض الكتاب، مهرجان المسرح التجريبي، ومهرجان السينما الدولي، ومهرجان الاسكندرية السينمائي الضعيف، مهرجان الاسماعيلية للفنون الشعبية، ومهرجان السينما القومية، ومهرجان السكندريات الفاشل، ومهرجان الأغنية. أما أزمة السينما فمستمرة. فقد انخفض الانتاج هذا العام أيضاً، ولم يتجاوز العشرين فيلماً، ولعلّ أضعف حصيلة عرفتها السينما المصرية! ما اضطر رئيس الحكومة كمال الجنزوري إلى الاجتماع بالسينمائيين، ومطالبة رجال الأعمال بانقاذ صناعة السينما. إلا أن الافلام المنتجة، سجّلت ارتفاعاً في المستوى الفني، ومنها: "يادنيا يا غرامي"، "عفاريت الاسفلت" الذي حقق جوائز محلية ودولية، "النوم في العسل" الذي حقق ايرادات قياسية... إضافة إلى الفيلم التلفزيوني "ناصر 56" الذي حقق ايرادات غير مسبوقة. وفي المسرح لا جديد باستثناء الانتاج التجاري المرتبط بالموسم الصيفي والسياح العرب. فمسرح الدولة لم يقدم جديداً يذكر، إذا استثنينا أعمال وليد عوني الراقصة وآخرها "المقابلة الأخيرة" عن تجربة الفنّانة الرائدة تحيّة حليم ومسرحيّة مأخوذة عن رواية يحيى الطاهر عبدالله "الطوق والأسورة"، قدّمها المخرج ناصر عبدالمنعم. يد واحدة لا تكفي! وبقي الكاتب الشامخ نجيب محفوظ على عاداته، يلتقي أصدقاءه في مواعيد مضبوطة، ويستقبل الضيوف الشغوفين به من شتى أنحاء العالم، وينال جوائز وأوسمة وتصدر عنه الكتب والأفلام. صدر كتابه "أصداء السيرة الذاتية" مع ألبوم صور وذكريات. مع أنّه لم يعد يكتب "لأن يداً واحدة لا تكفي، ولأنه لم يعد يستطيع اعادة قراءة ما يكتبه". وغاب خلال العام المنصرم عدد من المبدعين والمفكّرين والمثقّفين بينهم: الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد، الفنانة فاطمة رشدي، الفنان التشكيلي عبد المنعم القصاص، المفكر خالد محمد خالد، الاذاعية آيات الحمصاني، الناقد فؤاد دوارة، مهندس السد العالي محمد صدقي سليمان، المخرج صلاح أبو سيف، الكاتب أحمد بهاء الدين، الكاتبة لطيفة الزيات، شيخ المترجمين عبد العزيز توفيق جاويد، رائد الرسم على النسيج خميس شحاته، الصحافي حسين فهمي، رائدة علم النفس الدكتورة سميحة فهمي، أستاذ العود جورج ميشيل، والفنان كرم مطاوع