محافظ القطيف يرعى انطلاق فعالية «منتجون» للأسر المنتجة    100 ألف وظيفة تستحدثها بوابة الاستثمار في المدن    152 رحلة عبر تطبيقات نقل الركاب في كل دقيقة    صندوق الفعاليات الاستثماري يعزز قطاعات الرياضة والثقافة والسياحة والترفيه في المملكة    المرور يستعرض أحدث التقنيات في إدارة الحركة المرورية بمؤتمر ومعرض الحج    كمبوديا وتايلاند تتبادلان الاتهامات بالتسبب بمواجهات حدودية جديدة    المملكة تشارك في وزاري «G7»    كريستيانو رونالدو: المونديال القادم هو الأخير لي    رئيس برشلونة ينفي تقارير عودة ميسي    الرياض تحتفي بانطلاق البطولة العربية للجولف للرجال والرواد    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء.. اليوم    «أفواج جازان» تقبض على مخالفَيْن لنظام أمن الحدود    ستة معايير سعودية تقود عملية تطوير مؤسسات التعليم العالي عربيًا    ذاكرة الحرمين    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    الصادرات السعودية في معرض جاكرتا    نوّه بدعم القيادة لتمكين الاستثمارات.. أمير الشرقية يدشن أكبر مصنع لأغشية تحلية المياه    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    في دور ال 32 لكأس العالم للناشئين.. مواجهات صعبة للمنتخبات العربية    في الميركاتو الشتوي المقبل.. الأهلي يخطط لضم الألماني«ساني»    تصفيات مونديال 2026.. فرنسا وإسبانيا والبرتغال لحسم التأهل.. ومهمة صعبة لإيطاليا    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    وسط جدل سياسي واسع.. الرئيس الإسرائيلي يرفض العفو عن نتنياهو    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    النويحل يحتفل بزواج عمر    أوروبا وكندا تدعوان لتنفيذ اتفاق غزة    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    الوكالة الذرية تفقد القدرة على التحقق من مخزون اليورانيوم الحساس    تجربة الأسلحة النووية مرة أخرى    نفذتها "أشرقت" بمؤتمر الحج.. وكيل وزارة الحج يدشن مبادرة تمكين العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الشرع: سورية اصبحت حليف جيوسياسي لواشنطن    القيادة تعزي الرئيس التركي    فرحة الإنجاز التي لا تخبو    البديوي: اعتماد المرحلة الأولى لنظام «النقطة الواحدة» بين دول الخليج    تعزيز التعاون الإعلامي بين كدانة وهيئة الصحفيين بمكة    فيصل بن فرحان ووزيرة خارجية كندا يستعرضان العلاقات وسبل تعزيزها    أمير جازان يشهد انطلاق أعمال ورشة الخطة التنفيذية لمنظومة الصحة 2026    "تنظيم الإعلام" تقدم مبادرة "التصريح الإعلامي المبكر" ضمن مشاركتها في مؤتمر ومعرض الحج    أمير تبوك يطلع على تقرير مؤشرات الأداء لمدارس الملك عبدالعزيز النموذجية بالمنطقة    جلسة حوارية حول "الاتصال الثقافي بين السعودية والصين" في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود    وزيرا الثقافة والتعليم يدشنان أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    خادم الحرمين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء بجميع أنحاء المملكة يوم غدٍ الخميس    وزير الصحة السعودي: الاستطاعة الصحية شرط الحصول على تأشيرة الحج    تحسين متوسط العمر في ضوء رؤية 2030    «محمية الإمام» تطلق تجربة المنطاد    المفتي يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء غداً    القيادة تعزي رئيسة سورينام في وفاة الرئيس الأسبق رونالد فينيتيان    دراسة: فيروس شائع يحفز سرطان الجلد مباشرة    بدء التسجيل لجائزة سلامة المرضى    أمير نجران يستعرض تقرير "التجارة"    المملكة تدعم جهود إرساء السلام في العالم    أمير المدينة يتفقد محافظة المهد    علاج جيني واحد يخفض الكوليسترول    أقراص تطيل العمر 150 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انحسار "الامبراطورية" الفرنسية في افريقيا لكن المربع الفرانكوفوني صامد أمام النفوذ الأميركي
نشر في الحياة يوم 25 - 08 - 1997

هل بدأ العد العكسي لانهيار "الامبراطورية" الفرنسية في افريقيا؟ وهل قررت الولايات المتحدة بسط نفوذها في هذه القارة على حساب النفوذ الفرنسي؟ هذه التساؤلات تبررها عناوين أحداث افريقية بارزة، منها أن فرنسا تدعم أنظمة معينة في القارة السوداء بينما الولايات المتحدة تدعو للخلاص منها. فباريس تتراجع في شمال افريقيا والكونغو زائير سابقاً ويواجه حلفاؤها في الكونغو برازافيل وافريقيا الوسطى وراوندا اضطرابات في حين تتقدم واشنطن في زائير سابقاً وافريقيا الناطقة بالانكليزية، ويشرف وزير خارجيتها السابق جيمس بيكر على مفاوضات الصحراء بين المغرب وبوليساريو.
وتتكرر هذه المقارنة بالحاح منذ اندلاع الحرب الأهلية في راوندا العام 1994 مروراً بسقوط موبوتو في زائير وانتهاء بما تشهده برازافيل وبانغي من أعمال عنف وشغب. ويتحدث معلقون في فرنسا والفضاء الفرنكوفوني عن صراع وتنافس حاد بين واشنطن وباريس هدفه طرد فرنسا من مواقعها الافريقية النافذة، لترثها الولايات المتحدة كما ورثت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الامبراطورية الاستعمارية البريطانية وجزءاً من الامبراطورية الفرنسية التي لم يبق منها سوى افريقيا. فهل ينطبق هذا الوصف على حقيقة ما يجري في افريقيا؟ وإذا صح ذلك ما هي المؤثرات التي تطال العالم العربي الذي يمتد بجزء منه على شمال افريقيا وجيبوتي والصومال ومصر والسودان وجزر القمر؟
تفترض الاجابة عن هذه الاسئلة وضع المسميات السابقة في اطارها وحجمها الفعلي، مثلما تفترض حصر الأحداث الافريقية الأخيرة في حدودها الطبيعية وبالتالي تجنب الوقوع في "فخ" المبالغات التي يرددها بعضهم عن "انهيار الامبراطورية" الفرنسية أو عن الحرب الأميركية - الفرنسية الصامتة في القارة السوداء، ذلك ان ما يجري في هذه القارة هو أقل بكثير من "الحرب" وأكثر قليلاً من التنافس العادي على مراكز النفوذ، بل هو يتعلق بانبثاق قطب افريقي حقيقي قاعدته في أوغندا وأطرافه في اريتريا واثيوبيا وراوندا وبورندي وجنوب السودان وأخيراً في الكونغو - كينشاسا.
من أصل 46 بلداً افريقياً لفرنسا نفوذ متفاوت القوة والحجم في 24 بلداً منها ومصالح كبيرة في افريقيا الناطقة بالانكليزية، خصوصاً في جنوب القارة وشرقها حيث تنتشر شركاتها الكبرى ويعيش عدد كبير من مواطنيها الأمر الذي يجعلها مؤثرة الى هذا الحد أو ذاك في مختلف أنحاء القارة.
وتحكم وزارة التعاون الفرنسية والشبكات التابعة لها بصورة غير مباشرة 15 بلداً تشكل ما يعرف باسم "منطقة الفرنك"، وفي هذه البلدان يتم تداول الفرنك الافريقي الذي تضمنه فرنسا لدى المؤسسات الدولية.
وتقع هذه البلدان في وسط القارة وغربها وهي من الوسط: الكونغو برازافيل وافريقيا الوسطى وتشاد والنيجر ومالي وبوركينافاسو. ومن الغرب الغابون وغينيا الاستوائية والكاميرون وبنين والتوغو وساحل العاج وغينيا بيساو والسنغال. أما البلد الخامس عشر فهو جزر القمر على السواحل الجنوبية للقارة التي تطالب احدى جزرها بالانضمام الى فرنسا.
ويمكن القول عموماً أن الحجم الأكبر من المصالح الاقتصادية الفرنسية يقع في هذه البلدان الغنية بمعظمها بموادها الأولية، خصوصاً النفط، لذا ترتبط مع فرنسا باتفاقات عسكرية موزعة الى قسمين: اتفاقات دفاعية مشتركة، واتفاقات عسكرية تقنية تساعد باريس بموجبها هذه الدول على تأهيل جيوشها وتزويدها بالأسلحة والمساعدات العسكرية المختلفة. وبناء على هذه الاتفاقات تحتفظ فرنسا بقواعد عسكرية ثابتة قادرة على التدخل في وسط القارة وغربها وفي المناطق الاستراتيجية المحيطة بها، وهذه القواعد تنتشر في الغابون وافريقيا الوسطى والكاميرون وساحل العاج والتوغو والسنغال وتحتفظ باريس أيضاً بقاعدة استراتيجية ضخمة في جيبوتي شرق القارة وبوجود عسكري مهم في جزر القمر.
وتنتشر المصالح الفرنسية المباشرة، الاقتصادية أو الاستراتيجية أو السياسية، في بلدان افريقية أخرى محيطة بوسط القارة وغربها، وتتركز هذه المصالح أساساً في البلدان الفرنكوفونية في شمال افريقيا تونس - الجزائر - المغرب - موريتانيا وفي مدغشقر وجزر موريس وجزر القمر وسيشل على السواحل الشرقية - الجنوبية للقارة وجيبوتي شرقاً وغينيا غرباً وتحتفظ كل هذه البلدان بمعاهدات تعاون عسكري مع فرنسا.
وقد سبق لفرنسا أن تدخلت عسكرياً في عدد من البلدان الافريقية المهددة بموجب الاتفاقيات العسكرية المذكورة، وأحياناً بصورة دورية، وذلك باستخدام قواتها العسكرية المتمركزة في البلد نفسه أو الاستعانة بقواعدها العسكرية الثابتة خصوصاً في افريقيا الوسطى التي لا تكتسب أهمية اقتصادية أو ثقافية بالنسبة الى فرنسا فهي ليست سوى قاعدة عسكرية استراتيجية تدفع فرنسا في مقابلها مساعدات سنوية للسلطات المحلية تصل الى 150 مليون فرنك فرنسي هي تقريباً مجمل موازنة الدولة.
ويؤكد ميشال روسان وزير التعاون الفرنسي السابق أن الشركات الفرنسية الكبرى تعمل منذ سنوات خارج افريقيا الفرنكوفونية خصوصاً في ما يعرف بافريقيا الاسترالية وجمهورية جنوب افريقيا وهي الشريك الاقتصادي الأول لأوغندا التي تتصدر هذه الأيام حملة طرد فرنسا من القارة السوداء. وقد أدى المركز الفرنسي الطويل خارج المنطقة الفرنكوفونية الى توثيق العلاقات مع دول افريقية عملاقة مثل نيجيريا التي اتخذت أخيراً قراراً مهماً يقضي باعتبار اللغة الفرنسية لغة رسمية في البلاد.
150 ألف فرنسي
ويتضح حجم "الامبراطورية الفرنسية" في هذه القارة من خلال مظاهر مدنية حيث يعيش ويعمل فيها 150 ألف فرنسي، ومظاهر اقتصادية حيث تعتبر فرنسا الشريك الدولي الأول في أسواق القارة بنسبة 21 في المئة، ويميل الميزان التجاري لمصلحتها بفائض 30 مليار فرنك سنوياً، ومن خلال مظاهر تنظيمية تنم عن خبرة طويلة في الشؤون الافريقية. وتنتشر الشبكات الفرنسية في قصور الرؤساء والجيوش وأجهزة المستشارين ويصل الأمر ببعض الرؤساء الأفارقة الى الاستعانة الدائمة بضابط فرنسي ليس فقط في الشؤون السياسية أو العسكرية وانما ايضاً في الشؤون الشخصية والطبية.
وتنشر الصحف الفرنسية أحياناً "الغسيل" الفرنسي في افريقيا حيث يتبين أن قصر الاليزيه يضيق ذرعاً باتصالات بعض الرؤساء الأفارقة المتكررة التي تتناول شؤوناً تفصيلية تتحول الى موضوع للتندر والسخرية في أوساط القصر، وقد سبق لوسائل الاعلام نفسها أن نشرت تفاصيل مذهلة عن الدور الخطير الذي تلعبه شركة "ألف اكيتان" النفطية الفرنسية قبل خصخصتها حيث كان مدير الشركة يعين احياناً وفقاً لماضيه وخبرته في مجال الأمن والاستخبارات. وجرى التأكيد مراراً أن هذه الشركة كانت محوراً يرتقي في كنفه رؤساء ووزراء المستقبل في عدد من الدول الافريقية.
وتدير فرنسا مصالحها في افريقيا عبر قنوات مختلفة بحسب أهمية الدولة المعنية وحجمها، فالقناة الأولى والأساسية تتمثل بالشبكات العاملة على الأرض وهي في معظمها تكونت خلال الفترة الديغولية وكان يديرها الديغولي جاك فوكار حتى وفاته عن 83 عاماً في أوائل العام الحالي، والقناة الثانية تتمثل بوزارة التعاون التي تشرف على العلاقة مع دول "منطقة الفرنك" وموريتانيا التي لا تقع ضمن هذه المنطقة لكنها تعامل كجزء منها، ثم وزارة الخارجية الفرنسية التي تضم جهازاً ادارياً هو الأكثر خبرة في الشؤون الافريقية قياساً الى الأجهزة الغربية الأخرى، وهناك ايضاً قناة وزارة الدفاع الفرنسية التي تشرف على العلاقات العسكرية مع دول القارة، وأخيراً "خلية الاليزيه" الافريقية التي تعتبر أهم هذه القنوات لأنها تمتلك سلطة تقرير مركزية. غير أن تعدد هذه القنوات وتداخل صلاحياتها يؤثر أحياناً في الأداء الفرنسي في الأزمات كما هي الحال في الأزمة الزائيرية أو في الحرب الراوندية.
المؤشرات الأولى ظهرت غداة انتهاء الحرب الباردة التي جرفت معها نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا وأدت الى ولادة قطب جديد في المنطقة الانكلوفونية يحتفظ بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة ويطمح للعب دور اقليمي يتجاوز حدود المنطقة المحيطة به وقد ارتسمت ملامح هذا الدور في الاسابيع الأخيرة التي شهدتها الحرب الزائرية حيث أشرف رئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا على مفاوضات بين لوران ديزيريه كابيلا زعيم الثوار يومها والرئيس الزائيري موبوتو، ولم يسمح خلالها للسفير الفرنسي بالمشاركة في المفاوضات فكان عليه أن ينتظر نهايتها في مقهى السفينة التي استضافت الأطراف المعنية، ويعتبر هذا الموقف سابقة خطيرة بالنسبة الى فرنسا التي لم يسبق لها أن استبعدت على هذا النحو في أي من الأزمات الافريقية السابقة.
السد الاوغندي
التطور الثاني المهم في هذا المجال وقع في اوغندا حيث تسلم الحكم 1986 يوري موسوفيني وهو ماركسي سابق، من دون أي دعم خارجي من الولايات المتحدة أو فرنسا، وتمكن من تثبيت اقدامه بسرعة ومن تشكيل فريق عمل متماسك حوله، ثم باشر اعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في بلاده والتصدي للفساد واعتمد نمط حياة شعبوي حيث تخلى عن السكن في القصور وأقام في مزرعة. وبما أن أوغندا تحتل موقعاً أساسياً في محيطها فسرعان ما أثار اهتمام الولايات المتحدة التي تنظر الى هذا البلد بوصفه سداً ضرورياً أمام النظام الاسلامي السوداني المتحالف مع ايران.
وحاول موسوفيني، مستنداً الى التأييد الأميركي ومدركاً حاجة واشنطن الى بلاده في مواجهتها مع قادة الخرطوم، أن يلعب دوراً اقليمياً يستجيب من جهة لحاجة الولايات المتحدة ويفيض عن حاجتها في الآن معاً. فمن جهة قدم دعماً مهماً للغاية لزميله في الدراسة ورفيقه في الماركسية جون قرنق الذي استعاد زمام المبادرة في جنوب السودان، وشكل محوراً كبيراً في مواجهة قادة الخرطوم بالتنسيق مع رفاق ماركسيين سابقين مثله وبالتحديد ملس زيناوي في اثيوبيا وآسياس أفورقي في أسمرة، وهم يتأثرون جميعاً ب "استاذهم" يوليوس نيريري الذي كان يدعو للتعاون والتضامن الافريقي.
ومن جهة ثانية بدأ موسوفيني التدخل في المنطقة الفرنكوفونية مستفيداً الى أقصى الحدود من الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا خصوصاً في راوندا. ففي نيسان ابريل العام 1994 أسقطت طائرة الرئيس الراوندي جوفينال هابياريمانا بصاروخ أرض - جو قبل لحظات من هبوطها في مطار العاصمة ونسب الحادث الى المعارضة التوتسية، خصوصاً "جبهة التحرير الوطني" العاملة انطلاقاً من الأراضي الأوغندية، وسرعان ما هب أنصار الرئيس الضحية، وقاموا بتصفيات واسعة ضد أثنية التوتسي أدت الى سقوط أكثر من 500 ألف قتيل، وبما أن فرنسا كانت تدعم نظام هابياريمانا وتقدم السلاح لانصاره، فانها لم توجه الادانة للمجازر واعتبرت ما يجري أحداثاً داخلية. في هذا الوقت تدخلت اوغندا بالتنسيق مع بوروندي المجاورة التي تحكمها اثنية التوتسي أيضاً وأثمر التدخل عن سقوط أنصار هابياريمانا واصابة فرنسا بفشل كبير هو الأول من نوعه في القارة. وقد اعتبر هذا الفشل نجاحاً للولايات المتحدة التي تدعم موسوفيني لكنها أكدت مراراً أن تغطيتها له تشمل السودان أساساً بدليل ان واشنطن وافقت على عملية "توركواز" الفرنسية التي هدفت الى وضع حد للاحداث الرواندية وحصرها في حدود هذا البلد.
والتطور الثالث والأهم تمثل في انبثاق تحالف أوغندي - بوروندي - راوندي لقلب الأوضاع في زائير سابقاً التي فر اليها مئات الآلاف من اللاجئين الهوتو والتي كانت أقلية التوتسي الزائرية تعاني فيها من اضطهاد تاريخي، وكانت عصابات الهوتو الرواندية تشكل ضغطاً حقيقياً على الحكومة في كيغالي، واستعان التحالف الجديد، بماركسي زائيري سابق امتهن المعارضة المسلحة منذ أيام تشي غيفارا وبدأت الأطراف الثلاثة تحركاً واسعاً واجهته العلنية كابيلا وقوته الفعلية مقاتلو التوتسي، وقد تمكن هذا التحالف من تصفية نظام موبوتو المدعوم من فرنسا، خلال أشهر قليلة، ومع سقوط موبوتو خسرت فرنسا حليفاً استراتيجياً، وربحت الولايات المتحدة حليفاً جديداً هو كابيلا رجل الكونغو كينشاسا القوي الذي يشكل امتداداً وعمقاً كبيراً للقطب الافريقي الجديد الذي يتخذ من اوغندا قاعدة له.
غالي وأنان
والتطور الرابع يكمن في بروز خلاف، وربما للمرة الأولى بين واشنطن وباريس حول اختيار أمين عام افريقي للأمم المتحدة، خلفاً للفرنكوفوني بطرس غالي، فقد أصرّت باريس على اختيار افريقي من منطقة نفوذها وهددت باستخدام "الفيتو" ما لم تتم الاستجابة لطلبها، لكن واشنطن لم تعبأ بهذا التهديد وأصرّت على خوض معركة الأمين العام بالمرشح الغاني كوفي أنان الذي ينتمي الى بلد ناطق بالانكليزية ومحاط في غرب افريقيا، معقل النفوذ الفرنسي، بمجموعة من الدول الواقعة في دائرة الفرنك. ومعروف ان غانا هي الدولة الوحيدة في غرب افريقيا التي ظلت عصية على الفرنكوفونية حتى الآن.
ويكمن التطور الخامس في ابداء الولايات المتحدة المزيد من الاهتمام بشؤون افريقيا الغنية بالمعادن وذات الموقع الاستراتيجي، خصوصاً القرن الافريقي القريب من الخليج. لذا تسامحت واشنطن طويلاً مع نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا ولم تتدخل عسكرياً إلا مرة واحدة في الصومال في العام 1993. لكن هذا التدخل مني بفشل ذريع.
والتطور السادس تمثل في زيارة شهيرة قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق وارن كريستوفر لعدد من الدول الافريقية بينها تنزانيا وانغولا وزيمبابوي وجنوب افريقيا ومقر منظمة الوحدة الافريقية وقد أضيفت مالي وهي الدولة الفرنكوفونية الوحيدة الى هذه الجولة في آخر لحظة، وإذا كانت هذه الجولة خريف 1996 من الجولات النادرة في التحرك الخارجي الأميركي، فإن ادراج مالي فيها واطلاق تصريحات شهيرة من باماكو عن عدم تسليم الولايات المتحدة بوجود منطقة نفوذ حكراً على دولة واحدة، حمل المراقبين على القول ان واشنطن راغبة بالتصدي للنفوذ الفرنسي في افريقيا.
والتطور السابع يتمثل في انفجار نزاع مسلح في الكونغو برازفيل وعلى مرمى حجر من كينشاسا وغداة سقوط موبوتو وانتصار كابيلا.
ثم انفجار الموقف في بانغي عاصمة افريقيا الوسطى الأمر الذي حمل الكثيرين على التسرع في الاستنتاج بأن لهيب زائير يمتد الى الدول المحاذية لها، فضلاً عن أن ليسوبا الرئيس الشرعي في برازافيل متهم بميوله الأميركية، وهو اتهام عززته فرنسا بامتناعها عن التدخل العسكري لحمايته من خصمه داني نغسو.
خفض الفرنك الأفريقي
بيد أن اهتزاز "الامبراطورية الفرنسية" ليس ناجماً كله عن تطورات خارجة عن الارادة الفرنسية، فباريس نفسها اتخذت قرارات أدت الى ضعضعة وجودها في القارة، ومن بينها قرارها الشهير في العام 1994 بخفض قيمة الفرنك الافريقي الى النصف، وذلك للمرة الأولى منذ استقلال الدول الفرنكوفونية، الأمر الذي أدى الى انخفاض القدرة الشرائية في "منطقة الفرنك" الى النصف، وترافق ذلك مع اضطرابات وانتقادات عنيفة لباريس. وفي السياق نفسه شددت السلطات الفرنسية اجراءاتها الداخلية تجاه الهجرة والمهاجرين الأجانب ومن ضمنهم الأفارقة، وعمدت الى ترحيل كثيرين منهم وألغت وزارة الداخلية الفرنسية كل امتيازات الحصول على تأشيرات الدخول التي كانت تستفيد منها دول افريقية معينة كالسنغال التي صارت تعامل مثل الدول التي لا تحتفظ بعلاقات خاصة وتاريخية مع فرنسا.
ولعل الأزمة الاقتصادية الفرنسية وما يرافقها من ارتفاع نسب البطالة وتراجع فرص العمل الجديدة في السوق الفرنسية، واندفاع فرنسا نحو الاندماج الأوروبي الذي أثار مخاوف كبيرة في افريقيا أدى الى اهتزاز الأرض.
لكن على رغم خطورة هذه التطورات بالنسبة الى فرنسا فانها لا تؤذن بغياب الشمس الفرنسية عن امبراطوريتها ولا تبشر بظهور المنقذ الأميركي، للاعتبارات الآتية:
1- ما زال المربع الفرنكوفوني القوي المؤلف من 15 دولة تحت السيطرة الفرنسية المباشرة، وما زالت باريس قادرة على فرض نفوذها فيه بالطريقة التي تناسب مصالحها، لا بل أنها حققت تقدماً كبيراً في مد نفوذها إلى أرض "العملاق" النيجيري 70 مليون نسمة الانكلوفوني، أما احداث بانغي وبرازافيل فهي تتم بين أطراف متنافسة لكسب ود فرنسا وليست موجهة ضدها.
2- صحيح أن فرنسا خسرت راوندا وزائير، لكن الأولى لم تكن يوماً تشكل رهاناً اقتصادياً أو استراتيجياً من الدرجة الأولى بالنسبة الى فرنسا التي كانت تعتبر وجودها في راوندا بمثابة موقع متقدم على حدود المنطقة الانكلوفونية، في المقابل خسرت فرنسا في زائير موقعاً استراتيجياً مهماً نظراً الى ضخامة هذا البلد وغناه بالمواد الأولية، وموقعه الاستراتيجي في قلب القارة الافريقية، لكن على رغم ذلك فإن هذه الخسارة محدودة بنظر الخبراء الفرنسيين في الشؤون الافريقية، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي ذلك ان فرنسا تأتي في المرتبة الرابعة بين شركاء الكونغو الديموقراطي زائير سابقاً الاقتصاديين ويعيش فيها 600 فرنسي قرر معظمهم البقاء في أماكنهم للمقارنة يعيش 22 ألف فرنسي في ساحل العاج و21 ألفاً في مدغشقر، يبقى أن زائير لم تكن يوماً مستعمرة فرنسية فهي كانت خاضعة لبلجيكا ومعروفة بالكونغو البلجيكي أما السلطة فيها فهي نشأت بتوافق أميركي - فرنسي في الستينات، وموبوتو نفسه كان عميلاً سابقاً للاستخبارات الأميركية ولعب دوراً مهماً في وقف المد الشيوعي خصوصاً في أنغولا المجاورة، خلال الحرب الباردة وتلقى دعماً اميركياً لقاء هذا الدور، إلا أن سلطته فقدت أهميتها بالنسبة الى واشنطن بعد انهيار جدار برلين.
أما القول ان انهيار موبوتو هو بمثابة انتصار للولايات المتحدة فهو قول صحيح لأن واشنطن راهنت على كابيلا ووفرت التغطية للقطب الافريقي المتمحور حول أوغندا، وقد استفادت على الفور من هذا الدعم عندما اندفعت شركاتها نحو المناجم الأوغندية لاستثمارها ولعقد صفقات مع الحكم المنتصر، وهنا تجدر الاشارة الى أن فرنسا ليست بين الدول الأهم في استخراج المعادن وليست لديها سياسة استثمار معدنية واسعة كما هي الحال مع الولايات المتحدة، ما يعني أن الفرص كانت متاحة أمام الشركات الأميركية أكثر بكثير من نظيرتها الفرنسية.
خلفيات تجارية
3- لا يمكن لفرنسا ان تقفل افريقيا في وجه النفوذ الاميركي ولم ترفع يوماً مثل هذا الشعار، فيما كانت واشنطن تنظر الى هذه القارة بإهمال كبير، ما عدا جنوب افريقيا والقرن الافريقي ونجد مظاهر هذه الأهمال في ضآلة المساعدات التي تقدمها للقارة وفي شكاويها المستمرة من استنزاف الدول الافريقية لصناديق المساعدات الدولية، ومن خلال غياب هذه القارة لسنوات طويلة عن محاور الاهتمام الاميركية المنصبة على الشرق الأوسط واميركا اللاتينية وأوروبا، والراجح ان الاهتمام الاميركي المستجد بهذه القارة محكومة بخلفيات "مركنتيلية" أي منافع تجارية واقتصادية بحتة.
4- تتفق فرنسا والولايات المتحدة على ضرورة دعم افريقيا من خلال مشروع مارشال، وعلى حل النزاعات الافريقية من خلال تشكيل قوة ردع محلية تفصل بين الاطراف المتنازعة، غير انهما تختلفان على آليات تشكيل هذه القوة، ففرنسا تريد لها أن تستند الى البنية التحتية الفرنسية في افريقيا في حين ترى الولايات المتحدة ان هذه القوة يجب ان تستند الى مرتكزات افريقية وان تتلقى دعماً دولياً.
وعلى رغم الاختلاف المهم بين الطرفين على هذه المسألة فهو لا يصل الى حد التصادم، خصوصاً ان فرنسا تبحث الآن في اعادة صياغة كل مظاهر علاقتها بافريقيا وترغب في ان تلعب أوروبا دوراً أكبر في مساعدة الأفارقة، وكان رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان قد طالب خلال الحملة الانتخابية الرئاسية 1995 بإلغاء وزارة التعاون وبناء علاقات بلاده مع افريقيا على اسس جديدة. وقد اعلن وزير التعاون الاشتراكي الجديد شارل جوسلان عن عزم الاشتراكيين على اعادة النظر بالشبكات الديغولية العاملة في أفريقيا، خصوصاً بعد وفاة مؤسسها الديغولي جاك فوكار، وثمة حديث عن انسحاب فرنسي عسكري من هذه القارة.
5- تختلف فرنسا واميركا على طريقة التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية الافريقية، وفي حين ترى واشنطن انه لا بد من اشاعة الديموقراطية وتحرير اسواق القارة والتصدي للأنظمة الفاسدة التي تمتص القسم الأكبر من المساعدات الدولية، تعتبر باريس ان صحة المبادئ العامة لا تبرر إحداث هزات تحت الأرض التي تقف عليها بعض الأنظمة الموالية لها، خصوصاً ان مثل هذه السياسة تتضمن مخاطر كبيرة من ضمنها اندلاع حروب أهلية وقبلية وطائفية تطيح فرص اصلاح الأوضاع في الدول المعنية، وبما أن باريس تدرك أنها غير قادرة على الدفاع طويلاً عن انظمة غير ديموقراطية، فهي تعد لخطط ولسياسات جديدة وقائية واصلاحية في افريقيا، تسمح لها بالدفاع عن نفوذها ومصالحها على ضوء المتغيرات الدولية والاقليمية.
6- ان الذين يتحدثون عن "انهيار الامبراطورية" الفرنسية في افريقيا وعن حلول الولايات المتحدة مكانها وعن حرب فرنسية - اميركية على القارة يهملون وقائع ثابتة في علاقات الدول العظمى، فهذه الدول تنظم مصالحها الاقتصادية المشتركة وتحترم هذه المصالح من خلال أطر ومنظمات شأن "مجموعة الثمانية" الأكثر تصنيعاً في العالم أو من خلال أحلاف عسكرية مثل الحلف الاطلسي الذي تدور مفاوضات ومساع لعودة فرنسا الى كنفه، أو من خلال المنظمات الدولية التي لم تشهد حتى الآن قطيعة بين دولتين عظميين وتعرف صراعاً مكشوفاً بين فرنسا واميركا اللتين تحترمان احجام بعضهما البعض وموازين القوى المحيطة بمصالحهما وتعملان بنجاح على التوصل الى اتفاقات ومساومات في كل مرة يستجد فيها خلاف أو تتناقض فيها مصالحهما.
7- أما الحديث عن القطب الافريقي الجديد بزعامة موسوفيني والحديث عن انبثاق قطب اقليمي في جنوب القارة بزعامة نيلسون مانديلا، فهو حديث يفرض نفسه ليس فقط على فرنسا وانما ايضاً على الولايات المتحدة وعلى الدول الاخرى المؤثرة في هذه القارة، ما يعني انه من الصعب الحديث عن اصطفاف قوى بين طرفين وقطيعة في المصالح بينهما، ولو صح ذلك لما بقيت فرنسا الشريك الاقتصادي الأول لأوغندا على رغم مرور 10 سنوات على تسلم موسوفيني الحكم في بلاده. ولو صح ذلك أيضاً لما أصرت الولايات المتحدة على عدم التدخل في الأزمة الجزائرية لأن فرنسا كانت ولا تزال تضع فيتو صريحاً على مثل هذا التدخل.
يبقى القول ان ما يحدث في افريقيا لا يحمل بشائر الخير للعالم العربي، فمصر التي كانت تعتبر لاعباً اساسياً في افريقيا مشدودة الى نزاعها مع السودان أكثر من أي شيء آخر، واذا كانت الخرطوم قد خرجت من تحت العباءة المصرية فإنها وجدت نفسها في مجابهة رهيبة مع القطب الافريقي الناشيء حول حدودها، لا سيما في اوغندا واثيوبيا واريتريا. ولا يخفى دور القطب الافريقي نفسه في توفير قوة معنوية واستراتيجية لاريتريا في نزاعها مع اليمن حول أرخبيل حنيش، وليس من المستبعد ان تتسرب اسرائيل بقوة الى هذا القطب، وان تتحول الى لاعب أساسي في افريقيا، يهدد العرب في البحر الأحمر.
أما في شمال افريقيا فالحرب الاهلية الجزائرية استنزفت هذا البلد الذي كان يعد نفسه ذات يوم ليكون "يابان افريقيا" والذي كان نافذاً في هذه القارة الى الحد الذي استطاع معه ان يفرض "جمهورية بوليساريو" الموجودة على الورق في "منظمة الوحدة الافريقية" وحمل 30 دولة افريقية على الاعتراف بها.
نعم لقد اهتزت "الامبراطورية - الفرنسية" فعلاً في افريقيا، وهو اهتزاز أدى الى خسائر محدودة، لكن لا يؤذن بغياب فرنسا وببزوغ الشمس الاميركية على القارة السوداء، ذلك ان ما شهدته هذه القارة هو أقل بكثير من الحرب بين واشنطن وباريس وأكثر قليلاً من التنافس العادي على المصالح والأسواق .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.