أمير حائل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    استعراض تقرير الميزة التنافسية أمام أمير الشمالية    توصيات شورية لإنشاء المرادم الهندسية لحماية البيئة    خسائر بقيمة 1.6 مليار يورو في إسبانيا بسبب انقطاع الكهرباء    165 عقدا صناعيا واستثماريا بصناعيتي الأحساء    250% تفاوتا في أسعار الإيجارات بجازان    أمانة القصيم تحقق التميز في كفاءة الطاقة لثلاثة أعوام متتالية    أول تعليق من رونالدو بعد ضياع الحلم الآسيوي    برشلونة وإنتر ميلان يتعادلان 3/3 في مباراة مثيرة    سعود بن بندر يطلع على المبادرات الإصلاحية والتأهيلية لنزلاء السجون    أضواء بنت فهد: «جمعية خيرات» رائدة في العمل الخيري    جمعية الزهايمر تستقبل خبيرة أممية لبحث جودة الحياة لكبار السن    فيصل بن مشعل: اللغة العربية مصدر للفخر والاعتزاز    المتحدث الأمني للداخلية: الإعلام الرقمي يعزز الوعي المجتمعي    العلا تستقبل 286 ألف سائح خلال عام    جامعة الملك سعود تسجل براءة اختراع طبية عالمية    مؤتمر عالمي لأمراض الدم ينطلق في القطيف    اعتماد برنامج طب الأمراض المعدية للكبار بتجمع القصيم الصحي    قطاع ومستشفى محايل يُفعّل مبادرة "إمش 30"    الأمير سعود بن نهار يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    محافظ سراة عبيدة يرعى حفل تكريم الطلاب والطالبات المتفوقين    أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    خسارة يانصر    أمير جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    واشنطن تبرر الحصار الإسرائيلي وتغض الطرف عن انهيار غزة    أوكرانيا وأمريكا تقتربان من اتفاقية إستراتيجية للمعادن    حينما يكون حاضرنا هو المستقبل في ضوء إنجازات رؤية 2030    جاهزية خطة إرشاد حافلات حجاج الخارج    الرئيس اللبناني يؤكد سيطرة الجيش على معظم جنوب لبنان و«تنظيفه»    المملكة: نرحب بتوقيع إعلان المبادئ بين حكومتي الكونغو ورواندا    المتحدث الأمني بوزارة الداخلية يؤكد دور الإعلام الرقمي في تعزيز الوعي والتوعية الأمنية    وزير الخارجية يستقبل نظيره الأردني ويستعرضان العلاقات وسبل تنميتها    ميرينو: سنفوز على باريس سان جيرمان في ملعبه    بمشاركة أكثر من 46 متسابقاً ومتسابقة .. ختام بطولة المملكة للتجديف الساحلي الشاطئي السريع    وزير الخارجية يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير خارجية الأردن    رسمياً نادي نيوم بطلًا لدوري يلو    "مبادرة طريق مكة" تنطلق رحلتها الأولى من كراتشي    أمانة الشرقية تطلق أنشطة وبرامج لدعم مبادرة "السعودية الخضراء"    تدشين الهوية الجديدة لعيادة الأطفال لذوي الاحتياجات الخاصة وأطفال التوحد بجامعة الإمام عبد الرحمن    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    العمليات العقلية    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    حوار في ممرات الجامعة    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    أسباب الشعور بالرمل في العين    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ناصر عبدالمنعم ، لينا صانع ، محمد إدريس ، رجاء بن عمار : أقاليم مجهولة تضيق بها اللغة وخربة هائلة مطلة على العدم
نشر في الحياة يوم 07 - 10 - 1996

بين العروض البارزة في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، نتوقّف عند أربع مسرحيّات من مصر ولبنان وتونس، تختصر وضع الخشبة العربيّة وتطرح عدداً من الأسئلة والرهانات والمفارقات.
ليست القطيعة علنيّة مع النموذج السائد في مسرحيّة "المعبد" المصريّة التي أخرجها ناصر عبدالمنعم - وهنا تكمن قوّتها. فكلّ عناصر الفرجة في هذا العرض الفائز ب "جائزة الاخراج" في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، مستقاة من التربة المحليّة. والبنية الدرامية تستند إلى موضوع مصري صرف، بصراعاته وشخصيّاته، واحالاته إلى الواقع.
لكن هذا الانسجام الظاهري مع النمط السائد يخفي، من دون شكّ، نزعة جماليّة أكيدة للتجاوز والابتكار. فالقطيعة تكمن في التحدّي الذي طرحه المخرج المصري على نفسه: كيف يمكن التعامل مع عناصر الفرجة الشعبيّة، وفي الآن نفسه تفادي الوقوع في مطبّات "الفولكلور" البليد؟ كيف يمكن الانطلاق من قصّة واقعية من دون أن يثقل ذلك العمل أو يحدّ من قدرته على التكثيف والحلم والتجريد والغرابة؟
يكفي أن نرفع ركناً من الستارة السوداء الرقيقة التي تغلّف المكان وناسه في تلك القرية الصعيديّة التي تدور فيها أحداث المسرحيّة، كي ندخل عالماً تراجيديّاً، ونعاين كتابة مشهديّة متمكّنة، جريئة، غير مدّعية، تصوغ طقساً شعبي الملامح، واحتفالاً مأسوياً يغرف من معين التراجيديا الاغريقيّة، كما يعتمد تقنيّات السرد الملحمي اعتماده على فلسفة "مسرح القسوة".
المسرحيّة مقتبسة عن قصّة شهيرة ليحيى الطاهر عبدالله، هي "الطوق والأسورة" التي سبق أن نقلها خيري بشارة إلى الشاشة يحمل النصّ توقيع الكاتب والناقد سامح مهران. في تلك البيئة الريفيّة الشرسة، يبدأ العرض على مشهد الأم الضريرة حزينة عبير فوزي تطحن على حجر الرحى، وسط أب مريض وابن غائب مهاجر، وفهيمة داليا ابراهيم الابنة التي يمزّقها انتظار ما لا يأتي. وفي هذا الديكور الذي يزنّره الماضي الفراعنة، ويخنقه الفقر، وتتحكّم فيه العادات والتقاليد البالية... نلمس شظف العيش، وانسحاق الأفراد، وانسداد الأفق، وصعوبة الحبّ، واستحالة المستقبل. ومن الطبيعي أن تكون الضحيّة المثلى هي المرأة، في مجتمع ذكوري يشدّ خيوطه الخفيّة الشيخ الفاضل، ويلقي فيه الحدّاد تبعات عقمه وعجزه على زوجته فهيمة، قبل أن ينهار ويرتدّ على نفسه مشهد ليلة الحبّ الأولى الذي يزيد من وطأته صوت الطرقات المعدنيّة خلف الجمهور، يختصر شعريّة عبدالمنعم خير اختصار.
يقحم المخرج جمهوره من اللحظات الأولى في عالم آخر، يفوح منه البخور وتتحرّك في ظلمته أطياف نساء متّشحات بالسواد على بصيص قناديل ومشاعل، فيما نسمع وقع الدفوف ولا نفطن إلى أنفسنا إلا وقد صرنا في قلب "الاحتفال". ويلجأ إلى الموسيقى، والمواويل غناء كرم مراد لافت، والندّابات، والمحطّبين رقصة العصا، ليقحمنا تارةً في هذا الطقس الجنوبي الشعبي، وليصدمنا ويحرّضنا طوراً ويعيدنا إلى الراهن الذي يدينه ويعرّيه. هكذا ينتقل الأسلوب بين أنطونان آرتو وبرتولت بريخت برشاقة ممتعة.
السينوغرافيا حجر الأساس
خلافاً لكثير من مخرجي "المسرح الجاد" في مصر، لم يتعامل عبدالمنعم مع الخشبة تعاملاً سطحيّاً، ميكانيكيّاً. فهو يولي السينوغرافيا اهتماماً أساسيّاً في البنية العامة، ويستعمل الفضاء بطريقة عضويّة نابعة من الحركة الداخليّة للعرض. والسينوغرافيا هي حجر الأساس الذي تستمدّ منه الرؤية الاخراجيّة ديناميّتها وزخمها، انطلاقاً من العلاقة بين الخشبة والجمهور. تتوزّع الأحداث والمشاهد على مسرحين متوازيين، يتقاطعان مع منصّة ثالثة هي معبر وجسر يصل بين عالمين متناقضين. وهذا الحيّز الوسيط الذي يتوزّع المشاهدون على جانبيه، يحتضن بعض المشاهد الانتقاليّة، أو السرديّة التي تدفع بالحدث نحو ذروته المفجعة.
من جهة هناك منزل العائلة "الملعونة"، ومن الأخرى فضاء الحلم... منزل فهيمة في مواجهة منزل زوجها الحدّاد العاجز، وهي تنطلق من سجن إلى آخر فتعبر الجسر في عرس أشبه بجنازة. كأن الجهة الأولى هي المكان الواقعي، والجهة المواجهة أرض الغرابة والمَجاز ومسرح الرؤى والذكريات واللقاءات الوهميّة أو الممنوعة، وقاعة المعبد الفرعوني التي تدخلها فهيمة طلباً للخصوبة. فالجمهور معتقل في هذا الديكور الفرعوني، يتلصّص على الأحداث. يحكم عليه المخرج الخناق في قفص التاريخ... يثيره ويستفزّه ويحرّضه من خلال لعبة قاتمة سوداء دامية، لا بدّ أن تلوّثه وتجرحه.
وخلف الجمهور من الجهتين، منصّات ومعابر يقف فوقها "كورس" الفلاحين أو الفلاحات الذي ينقل لنا بعض الوقائع أو يعلّق على الأحداث، أو يعكس الحكمة الشعبية... كما يجلس فوقها موسيقيون تقليديّون يرافقون العرض ويعطونه بعده الاحتفالي والتراجيدي. وناصر عبدالمنعم الذي يسعى إلى "التحرّر من الكليشيه الاجتماعي/ اللغوي" يولي الايقاع اهتماماً خاصاً، فاذا بالمَشاهد تتقاطع وتتوازى وتترادف بعيداً عن السرد الخطّي، تبعاً لفلاشات تذكّر بالتقطيع السينمائي. "المعبد" مسرحيّة تجريبيّة بامتياز. والنهاية المفجعة تبدأ بموت ابنة فهيمة، وصولاً إلى هذيانها المحموم الذي سيودي بها بحجّة التخلّص من "الدم الفاسد"، تنضح بالاختزال والحياء. فهذا العالم محكم الاقفال، لا مجال للافلات منه... عالم أزلي ترمز إليه حزينة في عباءتها السوداء، تتربّع على الأرض وتدير حجر الرحى ببطء، بالرتابة نفسها، كأنها طاحونة القدر.
لينا صانع: ولادة مخرجة
مسرحيّة "الكراسي" اللبنانيّة، كانت هي الأخرى من مفاجآت المهرجان القاهري، إذ أعلنت عن ولادة مخرجة شابة سيتردّد اسمها مستقبلاً في المحافل المسرحيّة. إنّها لينا صانع التي خاضت رهاناً جريئاً، هو تقديم مسرحيّة لأوجين يونيسكو من كلاسيكيات مسرح اللامعقول الموسومة بعلامات دامغة، يصعب التغاضي عنها. إن نصّ "الكراسي" تسبقه مجموعة مسلّمات تملي طريقة التعامل معه، وتفرض لغة مشهديّة جاهزة على أي مخرج يطرق بابه. فكيف بالأحرى حين يتعلّق الأمر بمخرجة شابة، قد لا تملك بالضرورة مجالاً للمناورة والاختيار؟
لكنّ لينا صانع، عرفت كيف تتفادى كليشيهات مسرح العبث ومنزلقاته... ولم تكتفِ بالمؤثرات الظاهريّة الهادفة إلى الادهاش السهل، والتي تحوّل العمل إلى تمرين رياضي، خارجي. بل قرأت النصّ من وجهة نظر خاصة، وطبّقته على الواقع اللبناني العبثي، المتصدّع. بحر يونيسكو تحوّل لديها إلى صحراء، رمال تحاصر الزوجين المنسيّين في خربة، كأنّهما آخر الناجين من حرب كونيّة. وفي عزلة الداخل يفقد الزمن معناه، وتشحّ الذاكرة، وتتواتر مشاعر الحقد والحنان، يشلّ الضعف مفاصل الرجل الذي خانته قواه ربيع مروّه، وتتأرجح الزوجة بين الشفقة والقسوة عبلة خوري، فإذا هي الحبيبة و"الخاصية"، الضحيّة والجلاد.
وفي جدار العمق فُتحة مستطيلة زرقاء، لا نعرف إن كانت نافذة، أم ثغرة تطلّ على الفضاء الخارجي. لكنّها وجع الانتظار ومرارة الأمل على الأرجح. فحين يقف الرجل وزوجته على كرسي، كأنّهما على حصان، أو فوق مركب أو قطار، ظهرهما للجمهور يحاولان استطلاع ما يجري في الأفق، تبدو حركاتهما مريبة، مزيّفة، لاواقعيّة. كأنهما يخدعان نفسيهما بقدر ما يخدعاننا.
نحن خارج الزمن، أي حكماً في بيروت هذه الخربة الهائلة المطلّة على العدم، ذاك الجرح الفاغر فاه في وجداننا. رجل وامرأة خارج الأعمار، محاصران داخل دائرة من الرمل، معلّقان بين الوهم والحقيقة. قائد الحرّاس النواطير يملك أفكاراً عظيمة ومواهب، لكنّه يفتقر إلى الطموح. يحاول أن يستعيد لحظات غامضة من الزمن السعيد، لكنّ الأشياء لم تعد كما كانت، يلعب وزوجته لعبة التذكّر والنسيان. إنّه "قائد وزعيم الحرّاس" يعدّ لحفلة مهيبة ستحضرها شخصيّات مهمّة، وسيأتي إليها الامبراطور. وسيلقي هو خطاباً يعلن فيه الرسالة التي يودّ ايصالها إلى العالم انقاذ البشريّة. حتّى أنّه استأجر خطيباً لهذه الغاية.
المدعوون ليسوا سوى أشباح، طبعاً، لا يصلون شيئاً فشيئاً فيستقبلهم الزوجان في حركة توتّر تصاعديّة. ويجدا نفسيهما في النهاية وسط غابة من الكراسي الفارغة. وعندما يصل الخطيب ريمون حصني بعد تأخير، ويخرج الأوراق من جعبته بعناية، ويفتح فمه... نكتشف أنّه أخرس ! لا شيء يمكن أن يقال، لا شيء يستحقّ أصلاً عناء القول. ليس إلا الغياب، والوهم، العجز والاخفاق واللاجدوى، استحالة التواصل بين البشر. هذا هو عالم يونيسكو، يتقاطع مع رؤية المخرجة الشابة التي عمرها وعمر ممثليها من عمر الحرب الأهليّة.
تحكم لينا صانع السيطرة على الفضاء، انطلاقاً من ديكور بسيط وعملي. كما تعتمد على الاضاءة اعتمادها على اداء الممثلين. كنّا نتمنّى لو أن الشيخوخة بدت فعلاً على الزوجين، ولو أنّ اداءهما كان أكثر "ميكانيكيّة"، بدل الاسراف في اللجوء إلى المشاعر والانفعالات. لكن اختيار صانع لم يخلُ من التماسك والمقدرة على الاقناع. وتجدر الاشارة إلى أن ممثليها مروّه وخوري برزا أيضاً كمخرجين في السنوات الأخيرة، وأن الثلاثي نما في رعاية "مسرح بيروت" منتج العمل الذي اختار الابحار عكس التيار... حتّى بات آخر جيوب المقاومة الثقافيّة في العاصمة اللبنانيّة.
إدريس: كوميديا شعبيّة مترفة؟
"راجل ومرا" هو عنوان عرض الفنّان التونسي محمّد إدريس المستقى من ثلاثة نصوص لزيامي، تنتمي إلى تقاليد ال "نو" اليابانية العريقة. وصاحب "اسماعيل باشا" منشغل منذ سنوات بالغرف من جماليات وتقنيات مسرح الشرق الأقصى الذي وجد فيه امتداداً لشاعريّته المرهفة، ولميله إلى صياغة الاحتفال المزركش الحافل بالحركة واللون والاداء المؤسلب. "راجل ومرا" ترفيه مسرحي بسيط لا يدّعي أكثر من اكتماله التقني جائزة أفضل تقنيّة، وحرفيّة مخرجه في نحت المشاهد ورسمها، وضبط الايقاع والاداء تمثيل صلاح الدين مصدّق، بشير الغرياني، جمال مداني والنبرة الكوميدية. فمدير "المسرح الوطني التونسي" يراهن على ارساء تقاليد الفرجة الشعبيّة والمترفة في آن، وعمله يصبّ في مشروع "مدرسة المشاهد"، كي نستعير عنوان مؤلّف مرجعي للناقدة آن أوبرسفيلد.
ما يطمح إليه إدريس، هو تقديم كوميديا شعبية على طريقة ال "كيوغان"، تعتمد الحوارات المسجّعة والمقالب والمواقف المضحكة والتضخيم في التمثيل والبهرجة. ويؤدّي ممثل ذكر دور المرأة على طريقة ال "أوناغاتا" اليابانية أيضاً. المسرحيّة قائمة على مغامرات ودسائس ومقالب مضحكة من وحي الصراع الأبدي بين الجنسين: رجل وامرأة تتحوّل علاقتهما صراعاً ومكائد وسباقاً للسيطرة على الآخر.
تقرّر الزوجة هجر رجلها السكّير، فيعلم الأخير بخطّة هروبها ويقيم لها كميناً بعد أن يتنكّر في زيّ قاطع طريق، ويجرّدها من ممتلكاتها الثمينة. ثمّ تتمكّن المرأة من قلب الموقف وتستردّ ممتلكاتها. عندها يقصد الرجل المغلوب على أمره عرّافاً ليعيد له امرأته. لكن الوسيط الذي تعهد إليه مهمّة مصالحتهما هو الذي سيظفر بالمرأة ويترك الزوج في وحدته الهاذية. نجد هنا بصمات إدريس الشاعرية، ملامح من رؤياه المزخرفة الملوّنة وأسلوبه، تتحوّل الخشبة معه إلى صندوق فرجة يتحرّك الاخراج ضمن بعدين ويهمل البعد الثالث وندخل في مناخات غرائبية تساهم في تحديدها الملابس والألوان وعناصر الفرجة الأخرى. يرفع إدريس راية "المسرحة"، فنستعيد مذاق أعماله السابقة من "اسماعيل باشا" إلى "ونّاس القلوب". طموح محمد ادريس هو تقديم أحد نصوص سعدالله ونّوس الأخيرة في بيروت، فهل يلقى لدى "مسرح المدينة"، ونضال الأشقر التي تملك حقوق النصّ المذكور، أذناً مصغية؟
مع "بيّاع الهوى" تواصل بن عمّار المعركة التي ترفع لواءها مع المنصف الصايم، ضدّ المسرح السائد، ضد الكلام الزائد والثرثرة. في مكان ما بين المسرح التعبيري والرقص، تؤسس بن عمّار لاستعراض تشرك فيه، إضافة إلى إيمان السماوي، ناديا زويتن، ناديا بوعلاق، مجموعة من الشبّان والشابات هشام الهذيلي، قيس الزياتي، رندة الدبّاغ، خولة الهادف، محمد علي المداني، نجيب خلف الله الذين تولّت اعدادهم وادارتهم. والعرض الذي شاهدناه قبل أشهر في تونس اكتسب الكثير من النضج والمرونة والديناميّة والسلاسة والتماسك منذ ذلك الحين.
بين الانتقادات التي وجّهت إلى بن عمّار وإلى إدريس أيضاً في القاهرة، ايلاء التقنيّات أهميّة أساسيّة على حساب النصّ، وهذه قراءة مغلوطة ومتسرّعة طبعاً. ولعلّ ما يزعج الثقافة التقليديّة المحافظة لديها، هو هويّة أخرى تعبّر عنها مادة بصريّة مكتملة، صورة "حديثة"، وعلاقة أخرى بالجسد، وبالحكاية. فالجسد هو الموضوع، والمفردة، وأداة العصيان لدى ثنائي "مسرح فو" الصايم / بن عمّار. والجوهر يبدأ من الانقلاب على أشكال الخطاب السائد.
تروي بن عمّار بالحركة، والمناخات والحالات والاحالات السينما، الأدب...، كما تروي مارغوريت دوراس بالكلمات. تعتمد الغزل والنسج والتكرار والاعادة، تقدّم المشهد نفسه من وجهات نظر مختلفة. تغرف مادة وحيها من جراح سريّة دفينة، وتعتمد على الطاقة الحيّة لممثليها، تكتب بهم كوريغرافياها وتغيّرها كلّ مرّة، ناثرةً رؤاها وتهويماتها على الخشبة. وتقف هي بأعصاب مشدودة وجسد ممزّق. تومئ بأحزانها، تنسج أمامنا خيوط الحكاية ثمّ تقطّعها.
رجاء بن عمار: هوية أخرى
هواجس "بياع الهوى" امتداد لعرض سابق اشتهر به "مسرح فو" بعنوان "ساكن في حيّ السيدة" ولعلّه معبر وورشة عمل يمهّدان لعمل مقبل من وحي "فاوست". والعرض يستدرج المشاهد/الناقد إلى مطبّات أوتوبيوغرافية أكيدة، تضيع معها الحدود بين الشخصيّة ومؤلّفها ومؤديها. المرأة التي تشتهي، تحلم، تكره الرجال لفرط الحبّ، تهجس بالسفر... بالرحيل... بالأماكن الأخرى... يصاحبها في تسكّعها الداخلي، في نوبات الهستيريا، نثار أغنيات وصور وأفلام وروايات ولوحات. لكن المسرح الراقص هنا حسم أمره وبات أكثر نضجاً وتبلوراً. فيما الجسد يواصل السير على جلجلة عذابه.
"بياع الهوى" عرض تدور أحداثه في قاعة سينما قدّم العمل أساساً في قاعة سينما قرطاج التي حوّلاها مسرحاً اسمه "مدار، حيث تتسكّع أشباح القصص والمغامرات وقصص الحب والمآسي المثيرة فتاة أغواها جندي وفرّ وتركها وراحت تبحث عن ولدها الذي سُرق منها، ولا نعود نعرف إذا كانت بطلتنا تخرج من الشاشة، أم تتماهى مع أبطالها فتلتحق بهم وراء الشاشة. هكذا تتداخل الأزمنة والأمكنة في مناخ أقرب إلى "الباروك"... هل عاشت المرأة فعلاً قصّتها؟ أم أنّها مضيفة استقبال في قاعة السينما المتخيّلة؟ هل عاشت حقّاً قصّتها مع ذلك الجندي الطالع من أوبرا بيزيه، أم شاهدتها على الشاشة؟ هل تسعى حقّاً إلى طفلها الضائع المستحيل، أم أنها تعيش هذا الحرمان في الواقع؟ أليست كلّ المشاهد من الرؤى الكثيرة التي تعتمل في رأس بطلتنا، وينضح بها جسدها، فتفيض على خشبة المسرح؟...
مجموعة الممثلين/ الراقصين، توقّع محطات الاستعراض، تؤطر الحدث، تشكّل الحكايات والمشاهد السينمائية التي يزيدها الشريط الصوتي وضوحاً. الأجساد ترقص، تتشكّل، شخصيات لا تحصى، في حكايات لا تنتهي... وهذا الديكور الحيّ تفلت منه ممثلة واحدة هي رجاء بن عمّار. وحدها تمسك بخيوط المأساة وتملك مفاتيحها الخفيّة. إنّه الحنين إلى عوالم خفيّة، أقاليم مجهولة، تضيق بها اللغة، وتعجز عن قولها الكلمات.
من المقرّر أن يحمل "مسرح فو" التونسي عملاً أو أكثر، ويمضي إلى لبنان خلال الأشهر المقبلة بدعوة من "مسرح بيروت". ونتمنّى أن يتمكّن الجمهور اللبناني من مشاهدة "بيّاع الهوى"، إلى جانب "الأمل"، أحد أجمل عروض المسرح العربي منذ مطلع الثمانينات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.