في بيروت حالياً، ما يشبه الانقلاب المالي والنقدي. اذ في خلال اسبوعين، دارت سوق القطع دورة كاملة، من طلب كثيف على الدولار، يقابله ارتفاع قياسي على فوائد سندات الخزينة، الى طلب اكثر كثافة على الليرة، وعودة مستويات الفوائد الى التراجع. المصرفيون وخبراء المال في سوق بيروت يجزمون بعدم وجود تطورات مالية ونقدية جديدة تبرر ما يحصل، او تفسر الهجمة التي تتعرض لها سوق القطع من قبل مراكز مالية كبيرة، في الداخل ومن الخليج، لشراء الليرة والاكتتاب بسندات الخزينة التي تصدرها الحكومة بفوائد يمكن ان تصل الى 37 في المئة في سنة، ما ساعد على تحقيق أرقام قياسية لم يسبق للاكتتاب بالسندات ان حققها على امتداد الاشهر الماضية وتذكر ب "الحمى" التي ضربت سوق القطع، أواخر العام 1992، عندما تم تكليف السيد رفيق الحريري تأليف الحكومة. وقد ساهمت "الهجمة" على السندات في فتح الباب امام مصرف لبنان لاعادة تكوين احتياطه من العملات الاجنبية، عن طريق التدخل في سوق القطع شارياً تحت عنوان المحافظة على استقرار السوق، ومنع حصول تقلبات حادة، او حتى منع الدولار من تجاوز عتبات معينة هبوطاً قد يصعب الدفاع عنها مستقبلاً. ووفق التقديرات المصرفية، استطاع المصرف المركزي في الاسابيع الاولى من الشهر الماضي أن يستعيد حوالي 300 مليون دولار من حصيلة تدخله في سوق القطع لشراء فائض الدولار فيها، في ظل توقعات بأن ينجح البنك في استعادة كامل ما خسره في حرب الاستنزاف التي تعرض لها طوال الاشهر السبعة الماضية، وتجاوزت 5،1 مليار دولار. ويقول الخبراء أن التطور الاقتصادي والمالي الوحيد الذي تحقق في الاشهر الثلاثة الماضية تمثل في مشروع الموازنة العامة للسنة المالية المقبلة، الذي لحظ خفض العجز الى مستوى 6،37 في المئة، وهو أدنى مستوى له منذ العام 1975، فيما لحظ المشروع اكبر حجم للايرادات العامة الى 4022 مليار ليرة. ومع ذلك جاء تأثير هذا التطور محدوداً بدليل استمرار الطلب على العملات الاجنبية ونتيجة شعور المتعاملين بأن حماية العجز عند المستوى الذي قدرته الموازنة المقبلة قد لا تكون مسألة مضمونة، فماذا حصل، او يحصل في سوق بيروت؟ ويفسر المصرفيون يفسرون الهجمة على الليرة بالملابسات نفسها التي احاطت بعملية الهروب منها قبل أشهر، وفي اشارة غير مباشرة الى أن الذين يقبلون عليها في الوقت الحاضر هم انفسهم كانوا تحولوا عنها في السابق، فإن الاعتقاد المتزايد حالياً في سوق بيروت هو ان التحسن المالي والنقدي الاخير يرتبط بمجموعة اعتبارات موضوعية، ابرزها ان حسم موضوع الاستحقاق الرئاسي بغض النظر عن شخصية الرئيس الجديد، يمكن ان يكون مؤشراً الى وجود قرار يقفل الباب أمام عودة الوضع الى ما كان عليه أواخر الثمانينات، عندما نشأت حكومتان في البلد، وتعذر انتخاب رئيس للجمهورية، مع ما اشتمل عليه الوضع في حينه، من عودة خطوط التماس، وتوقف النشاط الاقتصادي في البلاد. الى ذلك، فإن ثمة شعوراً قوياً في السوق بأن التمديد للرئيس الهراوي سيؤدي في احدى نتائجه الاساسية الى التمديد للرئيس رفيق الحريري، سواء على رأس الحكومة الحالية، أم على رأس حكومة جديدة، ما يمكن ان يكون مؤشراً الى استمرار السياسة المالية القائمة حالياً، والى استمرار سياسة الانفتاح على الاستثمارات الخارجية، واطلاق عشرات المشاريع الاعمارية. ومع ذلك فإن مصرفيين يحذرون من تكرار ما حصل قبل 3 سنوات، عندما تركزت الاستثمارات المتدفقة من الخارج في قطاعين غير منتجين: الاول القطاع العقاري الذي اجتذب ما يزيد على 3 مليارات دولار، ساهم توظيفها في قطاع محدود للاستيعاب في نشوء مضاربات قوية وفي وجود آلاف المساكن التي لم تجد من يشتريها. الثاني قطاع سندات الخزينة التي تجاوزات التوظيفات فيها 5،6 مليار دولار، معظمها سعى الى الافادة من الفوائد المرتفعة التي تمنحها الدولة على السندات لدعم مواقع العملة الوطنية. ويقول هؤلاء المصرفيون ان ما يحصل حالياً قد لا يكون الاّ تكراراً لما حصل قبل 3 سنوات، مع كل المخاطر التي يمكن ان تنشأ عن "تدويل الليرة" وتراجع قدرة السلطات النقدية على استيعاب الكتلة النقدية الكبيرة الموجودة في الاسواق الخارجية، الى مخاطر ارتفاع ارقام الدين العام، والاعباء التي ستترتب على الخزينة العامة للدولة. ووفق هؤلاء المصرفيين فإن استمرار محدودية الاستثمار في قطاعات انتاجية يعني ان الرساميل التي دخلت سوق بيروت هي رساميل تسعى الى أرباح سريعة تخرج بعدها من البلاد بأقل مخاطر ممكنة، وهو ما لا يمكن للاقتصاد اللبناني ان يتكل عليه على المدى البعيد، اللهم الاّ اذا كانت الغاية المباشرة تتمثل في زيادة ارقام احتياط العملات، وفي الابقاء على سعر مدعوم الليرة، وهو ما لا يمكن ضمان استمراره في مواجهة الاهتزازات التي قد تنشأ مستقبلاً.