ما الهدف الذي تقاتل في سبيل تحقيقه جماعات التطرف والعنف "الاسلامية" التي نسفت السفارة المصرية في باكستان وقتلت وأصابت مدنيين مصريين وأجانب؟ ولماذا في باكستان؟ وما مغزى التوقيت ودلالته؟ وما معنى ان تتبنى مسؤولية الانفجار ثلاث جماعات إسلامية متطرفة، كل على حدة؟ وما علاقة ذلك بكل من عملية جنيفوكرواتيا، واديس ابابا من قبلهما، خارج مصر، والعودة الى محاولات ضرب قطارات السياحة في الداخل أخيرا؟ وما هي التداعيات المحتملة داخليا وخارجيا؟ وما هي ردود فعل المواطنين والحكم والاحزاب السياسية؟ وما المأزق الحرج الذي يواجه جماعة الاخوان المسلمين وحزب العمل وحزب الاحرار أطراف التحالف الاسلامي السابق وانعكاساته على الانتخابات النيابية؟ كل هذه الاسئلة وغيرها، طرحت نفسها مباشرة بعد وقوع أول حادث من نوعه على سفارة مصرية في الخارج، وهو أيضا أول حادث في تاريخ التطرف والعنف في العالم تنسف فيه جماعة عنف سفارة البلد الذي تنتمي إليه. في العام 1987 أصدرت جماعة "الجهاد" إحدى الجماعات التي تبنت مسؤولية الحادث كتيباً بقلم "ابو الفداء" يغني عن تفسير أي هدف آخر. فهو يقول في الفصل الثالث تحت عنوان "جغرافية المواجهة": "إن الناظر إلى واقع العالم اليوم، بغرض تحديد موقع يمكن أن يتخذ منه منطلقاً للتغيير الاسلامي، ومحوراً لمواجهة اليوم، ومركزاً لانطلاقة الغد لن يجد أفضل من مصر". وعلى ذلك فإن "التغيير الاسلامي في مصر يجب أن يكون هدفا ... والتي تجعل منها بحق من أهم المواقع والمواضع لإقامة دولة الاسلام النواة. وهذه مسألة لا ينبغي أن يغفلها المخططون ... ان مصر ينبغي ان تصبح هدفا لكل رجال الحركة الاسلامية في العالم ... لإسقاط النظام العلماني في مصر ... إن اكتمال مثلث مصر - ايران - افغانستان في حالة وجود تنسيق جيد بينها كفيل بخلخلة الاوضاع والنظم على مستوى المنطقة ... فإن سقطت مصر سقط العالم العربي، واذا فتحت فتح ... إننا نعتبر أن قدوم الشيخ صالح سرية - رحمه الله - الى مصر لمحاولة التغيير فيها لهو دليل على عمق وعي الرجل ... لأن مصر هي حجر الزاوية وبيت القصيد اذا أردنا تحرير المنطقة كلها ... أما ايران فيمكن أن نذكر أنها محاطة بسياج من مجموعة من الدول القوية ... يجعل امكانات توسيعها متعذرة" نقلا عن النص الوثائقي المنشور في كتاب "النبي المسلح" - ص 293- دكتور رفعت سيد احمد. الحاصل اذن أن مصر هي الحلقة القوية في حائط صد هدف جماعات التطرف والعنف، واستمرارها كحلقة قوية، يصلب عود البلدان العربية الاخرى التي تتعرض للمواجهة نفسها. ولكن الوجه الآخر لهذه الحقيقة يعني أن مصر أيضا هي الحلقة الضعيفة، نظراً إلى أن تحقيق هدف جماعات التطرف فيها، سيدفع بسلسلة من التغييرات المماثلة في المنطقة وفق نظرية "الدومينو" الشهيرة. بيئة وتوقيت يقول مصدر أمني رفيع المستوى في مكافحة الارهاب ان البيئة الامنية والسياسية في باكستان تعد مسرحاً نموذجياً لمثل الانفجار الذي ضرب السفارة المصرية. وتفيد معلومات أن 600 مصري على الأقل مع ألف عربي من الجزائر وليبيا وغيرها من الدول العربية لا يزالون يخضعون للتدريب العسكري في قواعد لهذه الجماعات تحيطها تضاريس وعرة في منطقة بيشاورالباكستانية. ومعروف أن أكبر عدد من العرب الذين عملوا مع ميليشيات قلب الدين حكمتيار وأحمد شاه مسعود في افغانستان، كان من المصريين الذين بلغوا آلافاً عدة في اوائل الثمانينات. ويدرس في "الجامعة الاسلامية" في اسلام أباد حاليا مئات من الطلبة العرب الذين يبدون تعاطفا مع هذه الجماعات. فضلا عن بعض الاتجاهات والجماعات الاسلامية الباكستانية والاحزاب الدينية وهيئات الاغاثة التي تقدم للجماعات المصرية والعربية مساعدات لوجستية تمكنها من التحرك والتسلح. ومن الناحية الأمنية فليس للحكومة المركزية سيطرة على كثير من مناطق القبائل ومنها بيشاور. حيث أمكن للجماعات الدينية المتطرفة الباكستانية تحقيق اختراقات أمنية في الجيش والاستخبارات والشرطة. ومن أهم الدوافع المباشرة، حسب المصدر نفسه، أن جماعات العنف المصرية كانت تعتقد استناداً الى معاونيها الباكستانيين بأن السفارة هي مركز نشاط أمني مكثف يتابع نشاطاتهم وإعداد الملفات الخاصة بهم. وأشار المصدر الى "تدني الاحتياطات الامنية" الباكستانية، لافتا إلى اعتراف وزير الداخلية الباكستاني نصرالله بابار بالمسؤولية عن قصور الترتيبات الامنية حول السفارة. وكشف المصدر لپ"الوسط" عن معلومات تفيد بوجود بعض قياديين بارزين في باكستان انشقوا على قيادة أيمن الظواهري لتنظيم "الجهاد". وتجدر الاشارة الى أن باكستان وقعت العام الماضي اتفاقا أمنيا مع مصر تسلمت الأخيرة بمقتضاه، حسب المصدر الأمني، 12 متطرفا كان آخرهم قبل ثلاثة شهور. وفي تقديره أن الملفات الامنية التي جرى تجهيزها في شأن عدد من المطلوبين الجدد، والتي كانت السلطات الباكستانية على وشك تسلمها، هي من الأسباب المهمة لاختيار المسرح الباكستاني مكانا للتفجير. أيا كان الأمر، فإن المراقبين يجمعون على الربط بين انفجار السفارة والضربات الجسيمة التي وجهتها أجهزة الامن الى المتطرفين منذ 1994 على وجه الخصوص، من حيث تجفيف منابع التمويل والوجود وضرب بنيتها التنظيمية والعسكرية وقيادتها الكبرى في الداخل، مثل طلعت ياسين همام المسؤول العسكري لپ"الجماعة الاسلامية" وعادل عوض صيام القائد العسكري لتنظيم "الجهاد" وجمال الدواليبي أمير جناح عسكري فار منذ اغتيال السادات، إضافة الى الحملة الدولية التي بدأها الرئيس حسني مبارك، خصوصاً في رحلاته الخارجية الاخيرة، ضد الارهاب والتطرف وتشديده على ضرورة تعاون الدول التي تمنح حق اللجوء السياسي لاعضاء وقيادات من جماعات العنف، والحصار الذي واجهها في الآونة الاخيرة في دول عربية عدة كان آخرها نجاح اليمين زروال في انتخابات الرئاسة الجزائرية، وهو النجاح الذي اعتبر هزيمة لتيار "الاسلام السياسي" وجماعات التطرف والعنف. وليس سرا أن القاهرة كانت معنية بشكل مباشر بالتطورات الجزائرية. ويربط المراقبون بين التوقيت والهجوم المضاد الذي بدأه المتطرفون بمحاولة اغتيال الرئيس مبارك في اديس ابابا وتفجير سيارة مفخخة قرب مبنى أمني في مدينة ربيكا الكرواتية في تشرين الاول اكتوبر الماضي، واغتيال الملحق التجاري المصري في جنيف في الشهر الجاري. والعمليتان الاخيرتان تتعلقان بموضوع تسليم قيادات العنف في الخارج، حيث تتصل أولاهما بالقبض على الناطق بلسان "الجماعة الاسلامية" طلعت فؤاد قاسم ثم اختفائه. وتتصل الاخرى بملفات طلب رفع اللجوء السياسي وتسليم ايمن الظواهري زعيم "الجهاد" المقيم في سويسرا. وعلى صعيد آخر، في الداخل، تمتد ثلاث عمليات منفصلة ومحدودة ضد ثلاثة قطارات سياحية في الصعيد، مع اغتيال عدد من الاقباط في مدينة ملوي قبل شهر. وتشير هذه العمليات الى ان "الجماعات" ارادت تأكيد أنها لم تُسحق في الداخل، وأن ذراعها طويلة وقادرة على نقل المواجهة الى الخارج بتهديد مصالح مصر في الدول الاخرى خصوصاً الدول التي تخشى اتخاذ اجراءات ضد الجماعات وتحاول التوصل معها الى صيغة "ابقوا.. لكن من دون مشاكل". بهدف إنهاك قوى الدولة في مصر والتأثير على الموارد القومية بتكلفة حراسات أمنية ضخمة واشاعة مناخ من التوتر والقلق. ولفت الانتباه اعلان ثلاث جهات بعد ساعات من الحادث مسؤوليتها عنه، وهي حسب التوالي الزمني: "الجماعة الاسلامية" التي تميزت جميع عملياتها داخل مصر بأسلوب الاغتيالات واستخدام الرشاشات والمسدسات، باستثناء عملية تفجير السيارة المفخخة في كرواتيا اخيرا. وتنظيم "الجهاد" الذي تميزت عملياته بطابع التفجيرات والنسف الانتحارية، ثم جماعة "العدالة العالمية" التي أعلنت عن نفسها للمرة الاولى بمسؤوليتها عن حادث اغتيال الملحق التجاري المصري في جنيف اخيرا. وبإعلان الجهات الثلاث مسؤوليتها عن انفجار السفارة، يسقط البحث عن تمايز عملياتها السابقة، بل لم يعد لتباين اسمائها دلالة، واصبح البحث عن جوانب الاختلاف او الاتفاق بينها، يدخل في عنوان "الاهتمام الاكاديمي". فمن المحتمل انها باتت تستخدم اكثر من اسم للتمويه السياسي ولإنهاك اي "عدو" في الانشغال بتتبع نشأة وتطور وانشقاقات كل جماعة وما اذا كانت منفصلة حقيقة ام انها اجنحة بمسميات مختلفة لجماعة واحدة. بينما ترجح بعض المعلومات ان تكون جماعة "العدالة العالمية" هي الاسم الاممي لتحالف او تنسيق او حتى اندماج الجماعات الدينية المتطرفة. وكانت ترددت معلومات عن اتصالات بين قيادات "الجهاد" و"الجماعة الاسلامية" المقيمة في اوروبا لوقف الحملات الاعلامية المتبادلة واجراء تنسيق وبحث امكان اعادة توحيد التنظيمين. واكثر الجهات "براغماتية" في هذا المجال هي الحكومة المصرية التي تتعامل مع الجماعات ككيان واحد، وتذهب الى القول بأن جماعة "الاخوان المسلمين" المحظورة متحالفة سراً مع هذه الجماعات، وليس سرا ان الرئيس مبارك لم يخف في كثير من لقاءاته - المغلقة او المفتوحة - مع المثقفين المصريين، قناعته بهذا الرأي، وكان يرد على القائلين بضرورة التفرقة، بأن حكومته تتعامل مع الجماعات المتطرفة "وكل من يشجعهم" في مواجهة واحدة، وانه يترك للمثقفين مهمة البحث "الاكاديمي". وعلى رغم ان كلا من "الاخوان المسلمين" وحزبي "العمل" و"الاحرار" أطراف التحالف الاسلامي السابق دان تفجير السفارة المصرية في اسلام اباد، الا انهم - حسب المراقبين - اكتفوا ب "الإدانة السياسية" في حين كان من المنتظر منهم باعتبارهم "مدافعين عن الاسلام" ويعلنون انتماءهم الى "الاسلام السياسي" ويطالبون بتطبيق الشريعة ويستدعون الفقهاء لتقديم الحيثيات الفقهية الدالة على "ردة" و"كفر" بعض الكتاب والصحافيين والفنانين، كان من المنتظر ابداء رأيهم الفقهي في الذين قاموا بالتفجير وموقف الفقه والشرع منهم: هل هم ضد الشرع وأصول الدين؟ وهل يقام عليهم حد الحرابة أو غيره من الحدود الشرعية.. ام لا؟ وفي حين ان الاحزاب والقوى السياسية والثقافية الاخرى تصف عمليات العنف لجماعات التطرف بپ"الارهاب" تُحجم جماعة الاخوان وحزب العمل عن استخدام صفة "الارهاب" ضمن ادبيات مواقفها حيال ما جرى ويجري من مواجهة بين الحكومة وتلك الجماعات، ورغم كل ما هو معروف عن وجود خلافات في بعض التوجهات وفي مناهج العمل بين "الاخوان" و"العمل" من جهة وبين جماعات العنف من جهة اخرى، فان وجود تدرج في مواقف قيادات الاخوان والعمل يسمح دائما بظهور تقاطع وتماس بينهما وبين هذه الجماعات. ويضاعف حساسية مأزق أطراف التحالف الاسلامي السابق، وجود توترات للعنف اجمعت الاحزاب على ضرورة معالجة جذورها وتجنب تداعياتها الخطرة. لقد اصبح من المرجح، ان المتفجرات التي نسفت السفارة المصرية في اسلام اباد، والاحكام التي اصدرتها المحكمة العسكرية بسجن عدد من قيادات الاخوان، بينهم عصام العريان، دمرت معها الفرص الانتخابية للاخوان الذين رشحوا انفسهم كمستقلين او المرشحين منهم تحت اسم حزب العمل الذي طالت شظايا المتفجرات فرصته الانتخابية.