* اهمية أوبك ستتراجع لكن دور السعودية مستمر * النفط العراقي في الأسواق قبل نهاية 1995 اذا سئل تشارلي دي بونا رئيس معهد البترول الاميركي سؤالاً صعباً فستكون اجابته على الارجح: "معرفتي تنحصر فقط بالنفط الاميركي وليس العالمي، الرجل الذي ينبغي توجيه السؤال اليه هو جون ليكتبلاو، اهم خبير اميركي في شؤون النفط، وهو يقيم في نيويورك". اما اذا سئل لوشيو نوتو رئيس شركة "موبيل" السؤال نفسه فسيجيب: "لقد توليت رئاسة الشركة للتو، واستاذنا جميعاً هو جون ليكتبلاو". من يكون ليكتبلاو، هذا المهاجر من فيينا ذو الاعوام السبعين الذي لا يزال يتحدث بلكنة المانية ولا يكاد 99 في المئة من الأميركيين يعرفون شيئاً عنه؟ انه رئيس مؤسسة أبحاث صناعة النفط ورئيس منظمة أبحاث صناعة النفط. التقته "الوسط" في مكتبه القريب من مبنى الأممالمتحدة في نيويورك، وحاورته في شأن وضع السلعة الاكثر أهمية في العالم. هل سيبقى النفط المستخرج من باطن الأرض المصدر الرئيسي للطاقة؟ - نعم، على الأقل طوال السنوات الثلاثين المقبلة. لأنه لن يحدث نمو كبير يذكر في الطاقة النووية. والواقع ان الاعتماد على الطاقة النووية في الولاياتالمتحدة آخذٌ في التضاؤل، اذ يغلق بعض المرافق النووية بسبب تقادُمه وعدم جدوى اصلاحه. وطبعاً اذا حدث انفراج غير عادي في التكنولوجيا النووية فمن شأنه ان يغيّر الوضع بدرجة ما. والوضع نفسه ينطبق على أوروبا، خصوصاً فرنسا التي كرست استثمارات ضخمة في مجال الطاقة النووية. اما في الاتحاد السوفياتي السابق حيث وقعت حوادث نووية عدة، فثمة مخاوف جمّة من تشغيل محطات الطاقة النووية. وماذا عن الطاقة الشمسية؟ - ستنمو بمعدل متواضع من الآن وحتى العام 2025، وربما بعد ذلك. وبالطبع فإن ذلك يتوقف على الوضع الجغرافي. سيحدث نمو في الطاقة الشمسية في افريقيا اكبر منه في اسكندينافيا. غير ان النمو الاجمالي للطاقة ينحصر بقدر أكبر في وقود النقل والصناعة، ويعني ذلك الاعتماد على الوقود المستخرج من الرواسب. من المؤكد ان السيارات الكهربائية ستقوم بدور، غير ان السيارات يزداد عددها بسرعة إلى درجة ان عددها الاجمالي الذي يعمل بالبنزين او الديزل سيكون أكبر بكثير عما هو اليوم، حتى اذا حدث توسع كبير في انتاج السيارات التي تعمل بالكهرباء. هل تبقى الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان اشد اعتماداً على واردات النفط؟ - ذلك مؤكد. اليابان ستبقى كذلك بنسبة 100 في المئة، وهي قد تتجه أكثر الى تطوير الغاز ليستخدم وقوداً للسيارات، لكنه ايضاً يأتي من المصدر نفسه الذي يستخرج منه البنزين. سيبدأ نفط بحر الشمال بالتضاؤل، وإن كان سيحافظ على مستوياته الحالية بضع سنوات مقبلة. وبالطبع سيزيد الطلب، ولن يكون نفط بحر الشمال قادراً على تلبيته. غير ان أوروبا تنمو بمعدل بطيء ولذلك ستبقى السوق مشبعة ومتخمة تقريباً، مع ان النمو الاقتصادي سينتعش قبيل حلول العام 2025. وينطبق الشيء نفسه على الولاياتالمتحدة، فالانتاج آخذ في الاضمحلال أصلاً. ويمكن التقنيات الجديدة ان توقف ذلك الاضمحلال في النمو في وقت ما من القرن المقبل، ولكن ليس قبل العام 2010. وتكمن امكانات المستقبل في الانتاج بعيداً عن السواحل. نحن حالياً لا نستخرج في أميركا الا حوالي ثلث ما نكتشفه من نفط. اما اميركا اللاتينية فستزيد انتاجها، خصوصاً كولومبيا وبيرو، والمكسيك طبعاً. وستصبح الاخيرة دولة مصدّرة للنفط. ولا تزال فنزويلا تملك امكانات تتيح لها قدرة على النمو. حتى الاكوادور لا تزال تصدر بعض انواع الوقود وتستورد أنواعاً اخرى. لكن البلدان الكبرى كالأرجنتين والبرازيل ستحتاج الى مزيد من الواردات. وستصبح أميركا اللاتينية مصدّراً للنفط، على الأرجح بحلول العام 2025. وسائل جديدة للتنقيب عندما يخرج المصدّرون الصغار، كالجزائر وليبيا وبحر الشمال، من سوق التصدير، كيف سيكون الوضع النفطي العالمي؟ وماذا سيكون انتاج منظمة "أوبك"؟ - سيبقى انتاج الجزائر من النفط عند مستواه، لكنها ستشهد نمواً في انتاج الغاز الطبيعي. اما ليبيا فلا تزال تملك الامكانات، ومشكلاتها سياسية في الغالب بسبب العقوبات المفروضة عليها، وستبقى امكانات التصدير هناك مرتفعة بمرور الوقت. اما انتاج بحر الشمال فسيتضاءل بمرور الزمن لكن ابتداع تقنيات جديدة قد يوقف ذلك التضاؤل الذي سيبدأ نحو العام 2000. وثمة طرق عدة جديدة للعثور على النفط وتحليل ما في باطن الأرض. سيبلغ الانتاج النفطي بحلول العام 2000 نحو 78 مليون برميل يومياً، سينتج الشرق الأوسط نحو 27 مليون برميل منها. ولا أميل إلى التكهن بما سيحدث بعيداً حتى العام 2025 لأن المتغيرات عدة. ومع تحفظي هذا، أقول أيضاً انني اعتقد بأن انتاج العالم سيبلغ بحلول ذلك العام نحو 90 مليون برميل يومياً أو 100 مليون. وسيكون نصيب الشرق الأوسط في ذلك الوقت نحو 40 في المئة من الانتاج العالمي بدلاً من الپ30 في المئة التي ينتجها حالياً. لو نظرنا الى اسعار النفط بالقيمة الثابتة للدولار فسنجدها اليوم مثلما كانت عام 1973. هل سترتفع تلك الاسعار حقاً ام انها ستواكب التضخم فحسب؟ - أنت محقّ، فقد انخفضت الاسعار ثم انتعشت قبل فترة لتصل الى ما كانت قبل عشرين عاماً. وأعتقد بأنها ستواكب التضخم فحسب خلال السنوات الخمس المقبلة. ثم ترتفع ارتفاعاً عشوائياً وسيعود النفط النيجيري قريباً الى الأسواق وسيؤثر تنازلياً بدرجة طفيفة في الاسعار. كما ستؤثر فيها سلبياً عودة النفط العراقي. غير ان من عين الصواب ان يتوقع المرء زيادة في السعر على مدى السنوات الست المقبلة بما يواكب القوة الشرائية. ويقال كلام فارغ كثير عن الاسعار. وتبقى الحقيقة ان اكبر احتياطات نفطية توجد في المملكة العربية السعودية: 260 بليون برميل، يليها العراق 100 بليون برميل، فالكويت 93 بليوناً، ثم ايران 83 بليونا، وقد خرج اثنان من هؤلاء المنتجين الكبار من السوق - وهما العراق والكويت - العام 1990، وبقيت الكويت بعيدة عن سوق النفط عامين، ولم يعد اليها العراق منذ ذلك الوقت. وكان لزاماً على "اوبك" ان تغطّي ذلك الفرق، وقد فعلت. عودة العراق سؤال قد يبدو ذا صبغة سياسية، لكني على ثقة بأن عملاءك يسألونه مراراً: ما هي توقعاتك في شأن موعد عودة النفط العراقي الى الأسواق؟ - ليس قبل النصف الثاني من العام 1995، لكني اعتقد بأنه سيحدث قبل نهاية 1995. ماذا يدور بخلدك عندما تتحدث عن التقنيات الجديدة؟ هل تقصد مثلاً استخراج النفط من أعماق المحيطات؟ - نعم، لكنني أتحدث عن الاكتشاف والانتاج معاً. عموماً انصرف تفكيري تماماً الى نفط اعماق المحيطات. وثمة امكانات كبيرة في اعماق خليج المكسيك. ويقوم عدد كبير من الشركات بالتنقيب عن النفط هناك الآن. ماذا عن حقول النفط البحرية في فيتنام؟ - نعم، ويشمل ذلك جميع مناطق بحر الصينالجنوبي، وجزر سبراتليس والجزر الاخرى المتنازع عليها. وكذلك روسيا ومياه جزيرة سخالين. دأب اللوبي الاسرائيلي على اثارة المخاوف الزائفة في شأن انقطاع واردات النفط... - الواقع ان الانقطاع على المدى القصير يمثل مشكلة. لكنها مشكلة قصيرة المدى سواء اكانت ستحدث في الجزائر أو في نيجيريا أو في اي مكان في الشرق الأوسط. وها هو اليمن استأنف انتاجه بعد حربه. ان عدم الاستقرار السياسي كفيل بالتأثير في الانتاج والاسعار، لكن تلك المشكلة يُبالغ في تصويرها لأسباب سياسية. الدور السعودي تبدو متفائلاً عموماً! - نعم. فمن ناحية عالمية وعلى رغم ان الانتاج زاد العام الماضي وسيزيد هذا العام والعام المقبل، فإن الاحتياطات تزيد ايضاً كل عام. وأنا واثق أيضاً لايماني بالدور الرئيسي للمملكة العربية السعودية التي أثق بها. ولكن سيكون ثمة تغيير كبير في صناعة النفط. انا متأكد من ذلك. هل سيبقى هناك دور لأوبك؟ اذا بقي السعر معقولاً، ولنفترض 25 دولاراً البرميل، ولا يقوم بمعظم انتاج النفط العالمي سوى ثلاث او أربع دول، فإن السوق ستحدد السعر. ما هي تكهناتك إجمالاً بالنسبة الى صناعة النفط الاميركية؟ - ستواصل شركات النفط الكبرى تقليص عملياتها الانتاجية في اميركا لتحول مزيداً من عملياتها الى الخارج. والأسعار؟ - تتحدد أسعار النفط الاميركي على أساس دولي بينما تتحكم عوامل داخلية في تحديد أسعار الغاز في اميركا. خذ مثلاً احتلال الكويت: قفزت الاسعار في النصف الثاني من العام 1990 بنسبة تداني 50 في المئة، بينما لم تزد اسعار الغاز الاميركي على اكثر من 5،3 في المئة. لقد انخفض انتاج النفط في الولاياتالمتحدة بنحو 16 في المئة منذ العام 1988، فيما ارتفع انتاج الغاز الاميركي بنسبة 5،7 في المئة. لكن انتاج النفط الاميركي لا يزال مرتفعاً ارتفاعاً كافياً للتأثير في سعر السوق، اذ ان انتاج النفط الخام الاميركي الذي يبلغ 7،6 مليون برميل يومياً لا يزال يأتي في المرتبة الثانية بعد الانتاج السعودي الذي يبلغ 8 ملايين برميل يومياً أو نحو ذلك. لكن المملكة قادرة على زيادة انتاجها الى 10 ملايين برميل يومياً، بينما وصلت الولاياتالمتحدة الى ذروة قدرتها الانتاجية وإن لم تعد تلك القدرة دون الانتاج الروسي. لقد بلغت قيمة النفط الخام الذي تنتجه الولاياتالمتحدة نحو 42 بليون دولار في العام 1993 وهو رقم محترم حتى بالنسبة الى اقتصاد يزيد حجمه على 6 آلاف مليار تريليون دولار. وقد زاد الطلب على النفط في الولاياتالمتحدة، خلال الفترة من 1991 الى 1994، بنسبة 5،5 في المئة، لكن الطلب على الغاز ارتفع بنسبة 9 في المئة، ويتوقع ان ينمو بنسبة 5،1 في المئة سنوياً من الآن حتى العام 2000. فيما لن ينمو انتاج الغاز بأكثر من نصف تلك النسبة، ولذلك فإن اسعار الغاز سترتفع. وستقوم كندا - بدرجة كبيرة - بملء الهوّة بين العرض والطلب. وقد لا تسفر عودة النفط العراقي الى الاسواق عن حدوث انكماش في السعر لأنه يتوقع ان تخفض "أوبك" أو تسعى الى خفض حصص أعضائها، وإلا فان العراق سيزيد انتاج "أوبك" بما يراوح بين 5،1 ومليوني برميل يومياً وما يتعدى ذلك تدريجاً. ولكن، كما أسلفت، قد يحتاج العالم في سنة 2000 الى 8 أو 9 ملايين برميل يومياً أكثر مما يحتاج إليه اليوم. وإذا عاد انتاج النفط العراقي الى مستوياته السابقة للحرب فسيكون بوسع "اوبك" ان توفر 60 أو 70 في المئة من الزيادة المطلوبة في العرض. ويمكن توفير البقية بزيادة انتاج دول جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية وافريقيا. اما السعودية فستكون على الأرجح راغبة في زيادة عائداتها من خلال زيادة حجم مبيعاتها وليس من خلال أسعار مرتفعة. "أوبك" من دون دور إذن ماذا يخبئ المستقبل ل "أوبك"؟ أيأتي يوم تصبح فيه منظمة بلا عمل؟ - لقد تغيّر الزمن. كان الهدف الأساسي لأوبك عندما عقدت اجتماعها الأول في بغداد، العام 1960، حمل شركات النفط على معالجة خفض الانتاج بنسبة تداني 25 في المئة اثر حرب السويس عام 6195. كما كانت تريد من الشركات ان تحافظ على اسعار ثابتة. غير انها فشلت حتى العام 1968 في زيادة الاسعار. وعندما حل العام 1981، وبلغت أوبك أوج قوتها ببلوغ الاسعار ما يقارب 35 دولاراً للبرميل، تكهن مراقبون داخلها وخارجها، بأن تبقى تلك الاسعار على ارتفاعها او تزيد زيادة مطردة. وبما انه يتوقع ان تسيطر أوبك على 77 في المئة من الاحتياطات النفطية بحلول العام 2010 لكنها لن تنتج اكثر من 40 في المئة من الانتاج العالمي، فمن الواضح ان اوبك ستوفر معظم الزيادة في العرض النفطي العالمي. ولكن لن يكون نصيب جميع اعضاء اوبك متساوياً. وستأتي الزيادة في صادراتها مبدئياً من الشرق الأوسط، وتحديداً من المملكة العربية السعودية. وهكذا فيمكن توقّع ان يؤدي ذلك في نهاية المطاف الى وضع حد للمهمة الرئيسية لاوبك: وضع حصص انتاجية لدولها الأعضاء. وبما ان قدرة معظم الدول الاعضاء في أوبك على انتاج فائض نفطي ستتلاشى، فان الحاجة الى تحديد حصص ستتلاشى أيضاً. ويقول بعض الخبراء ان اوبك اثبتت جدواها بتمكنها من مضاعفة السعر ثلاث مرات في فترة وجيزة، في 1973 وفي 1979 - 1980. غير ان السوق كانت في كلا الحالتين تعاني طلباً متزايداً لأن صناعة النفط العالمية كانت تنتج ما يوازي 100 في المئة من طاقتها الانتاجية. ولكن مثلما اشارت اوبك نهاية العام 1973 فان مضاعفتها السعر ثلاث مرات ليصل الى 65،11 دولار كان أدنى من سعر السوق الفورية آنذاك بخمسة دولارات. ولم تأتِ هذه الاسعار التي اعلنتها اوبك الا بعدما بدأ الطلب يتضاءل وحدث فائض انتاجي. أقل من 10 دولارات؟ لذلك، ولكي نعود الى سؤالك الأصلي، نقول هل لأوبك اهمية؟ لقد كانت أوبك مهمة لأعضائها طوال السنوات الاثنتي عشرة الاخيرة وإذا ألغت نظام حصصها الحالي فان السعر سيهبط الى ما دون عشرة دولارات للبرميل، ما يعادل أربعة دولارات قبل 20 عاماً، من دون ان يؤثر ذلك في الانتاج، لأن كلفة تشغيل البئر الفعلية حتى في الولاياتالمتحدة، وهي اكثر مناطق الانتاج كلفة في العالم، تداني 5 دولارات وليس 10 دولارات. وتستثنى من ذلك الآبار الصغيرة وآبار حقول ألاسكا حيث ترتفع كلفة النقل. ويجب في بلدان أوبك ان يغطي سعر النفط ليس كلفة الانتاج وربحاً معقولاً فحسب، وإنما جميع المصاريف الاجتماعية والعسكرية، وهي مصاريف حيوية للاستقرار السياسي لتلك الدول. وبعد حلول العام 2000 قد لا تتمكن دول اوبك من تمويل توسعها من عائد مواردها وحده، بسبب تلك الوجوه التي تصرف فيها عائدات النفط، والحاجة الى تحديث البنية الأساسية للصناعة نفسها. كما انها بحاجة الى مزيد من الاستثمارات في صناعة مشتقات النفط بسبب تنامي الطلب المحلي، وعلاوة على ذلك فثمة "ثورة التوقعات المتزايدة" التي يمارسها الجمهور، وهو أمر لا بد من ان يُدفع ثمنه. لقد عاش الجمهور الاميركي انقطاع امدادات نفط الشرق الأوسط ثلاث مرات 1973، 1979/1980، 1990 وقد أثرت كلها في الاسعار، وأسفر الانقطاع في الحالتين الأوليين عن حدوث شح في الامدادات، وان لم يكن ناجماً عن نقص حقيقي وانما بسبب عدم الكفاءة والسعي الى تحقيق أرباح. حرب الخليج ورأينا في العام 1990 - 1991 ان اكبر عمل عسكري قامت به الولاياتالمتحدة منذ حرب فيتنام يعزى جانب كبير منه الى عامل النفط، في الغزو العراقي للكويت، ولكن ليس صحيحاً ان اميركا اضطرت الى خوض الحرب بسبب اعتمادها على واردات النفط. ومن المؤكد انه اذا تساوت العوامل فإن برميل النفط المنتج محلياً أفضل من الزيت الاجنبي. فالأول يساعد الاقتصاد المحلي ويحسن الميزان التجاري. لكن تلك الاعتبارات لا تدخل في تلبية متطلبات الأمن القومي. فقد قيل - قبيل الغزو العراقي للكويت - ان القوات الاميركية المخصصة لحماية الخليج تكلف دافعي الضرائب 50 بليون دولار سنوياً أو نحو 110 دولارات لبرميل النفط المستورد من دول الخليج العربي. وهو منطق مشكوك فيه بدرجة كبيرة. اذ لنفرض ان الاعتبارات التجارية تسببت في استيراد نصف كمية الواردات من مناطق اخرى، فهل سيسفر ذلك عن مضاعفة "الكلفة العسكرية" لبرميل النفط الآتي من الخليج؟ ام ان القوات الاميركية المخصصة لتلك المنطقة ستخفض بمستوى النصف؟ وهل ستضاعف اذا تضاعفت وارداتنا النفطية من منطقة الشرق الأوسط؟ طبعاً لا. اذن ببساطة، لا توجد علاقة بين نشر قوات اميركية في الشرق الأوسط ووارداتنا من نفط تلك المنطقة. فقد نشرت تلك القوات هناك في نطاق استراتيجية الحرب الباردة، تماماً مثلما نشرت قوات اميركية في أوروبا وشرق آسيا، وقد تحمل حلفاؤنا سداد النفقة الضخمة لعمليتي "درع الصحراء" و"عاصفة الصحراء". ويدل ذلك على ان هاتين العمليتين كانتا ذات بُعدٍ دوليّ. وربما لو كان الاعتماد على الواردات النفطية في العام 1990 أقل مما كان لما غيّر ذلك قرار الرئيس السابق جورج بوش باللجوء الى العمل العسكري لإخراج القوات العراقية من الكويت، لأن الزيادة الكبيرة في الثروة النفطية للعراق - اذا قبل العالم قراره ضم الكويت - كانت ستجعل بغداد القوة الاقتصادية والعسكرية العظمى في المنطقة. ان الصحف الشعبية تملأ صفحاتها بالافتتاحيات التي تزعم الاسراف في استهلاك الطاقة وتقول ان خفض استهلاكها سيعزز الأمن القومي. وهي حجج ليس فيها شيء من الاقتصاد، فقد بقيت اسعار النفط متدنية تدنياً معقولاً طوال الفترة من 1953 الى 1973، وبقيت متدنية لجهة قيمتها بالسعر الثابت للدولار، ومع ذلك نما استهلاك النفط في الولاياتالمتحدة بنسبة 128 في المئة. ولكن على رغم نمو الاقتصاد بنسبة 58 في المئة خلال الفترة 1973 - 1993، فإن الاستهلاك بقي مرتفعاً. الأمن القومي الاميركي إذن هل يعني ذلك ان مخاوف اميركا مما يسمى الجانب الأمني للاعتماد على النفط المستورد مجرد حيلة من صنع اللوبي الاسرائيلي؟ - اللافت ان تلك المخاوف فريدة من نوعها لدى الدول الصناعية. فقد مضى وقت - بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية مباشرة - خشي فيه المنتجون الاميركيون ان تجعل الامدادات الاجنبية الرخيصة قيامهم بتطوير احتياطات محلية امراً غير اقتصادي. لكن واردات نفط الشرق الأوسط لا تمثل شيئاً يذكر من حيث اعتبارات الامن القومي. فقد تسبب انقطاع امدادات النفط العراقي والكويتي في آب اغسطس 1990 في احداث الزيادات نفسها في اسعار النفط في الولاياتالمتحدة وكانت تعتمد عندئذ على النفط العراقي والكويتي لتوفير 9 في المئة من وارداتها او 5 في المئة من امداداتها النفطية الاجمالية. وينطبق ذلك على اليابان وألمانيا اللتين كانتا تعتمدان كلياً على هذين المصدرين. ان تأثير انقطاع امدادات النفط في أي دولة مستوردة يتوقف على فداحة الانقطاع بالنسبة الى الصادرات العالمية الكلية وليس على مدى اعتماد الدولة المستوردة على المصدر الذي توقف عن الانتاج. وإذا كانت الولاياتالمتحدة ستخفض وارداتها كإجراء أمني فعليها ان تتحمل كل النفقات التي ستنجم عن اتباع سياسة من ذلك القبيل، بينما سيفيد المستوردون الآخرون لأن النفط سيكون متاحاً أمامهم. ولنذكر دوماً ان كندا، وهي ثاني اكبر مصدر اجنبي لتزويدنا النفط - استوردنا منها 5،13 في المئة من وارداتنا الكلية العام 1993 - ليس لديها سوى سوق اجنبية وحيدة، وهي الولاياتالمتحدة. وعلى كلّ، قد لا يكون خفض الواردات ممكناً سياسياً في اميركا، لأن الولايات الأكبر استهلاكاً نفطياً تملك أصواتاً انتخابية اكبر مما تملكه الولايات التي تنتج النفط. معظم حروب المستقبل ستكون حروباً محلية، حتى لو نشبت حرب بين ايرانوالعراق فلن يكون لها دخل بالحرب الباردة، أليس كذلك؟ - تماماً. وكما جاء في مثالك فقط تكون النزاعات المحلية كبيرة لكنها ستبقى محدودة النطاق والمدة. وفي ظل الحاجات المالية الماسّة لجميع الدول المصدّرة للنفط، فليس محتملاً ان تمنع اي دولة مصدرة اميركا من الحصول على النفط لأسباب سياسية او غير تجارية. فلو فعلت ذلك فسيؤذيها ذلك اكثر مما يضر عملاءها. كما ان الولاياتالمتحدة تملك مخزوناً نفطياً استراتيجياً ليقيها شر الانقطاعات الطارئة في الامدادات. ولو ان ذلك المخزون أتيح في الاسواق المحلية منذ بداية ازمة الكويت لما وصلت الأسعار الى المستويات المرتفعة التي وصلت اليها في تشرين الأول اكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر 1990. هل يُفهم من حديثك انك تعني ان الرئيس السابق بوش غض الطرف عن ارتفاع الأسعار ليحصل على الدعم الشعبي لمشاركته في الحرب؟ - دعنا نكتفي بالقول ان السياسة السليمة الآن تتمثل في ملء الاحتياطات الاستراتيجية بأسرع ما يمكن اثناء تدني أسعار النفط العالمية. احتياطات لمئة عام معنى ذلك ان الشرق الأوسط في لب هذه القضية، ولكن الا تهدد النزاعات التي تشارك فيها ايرانوالعراق والكويت واليمن الاقتصاد الاميركي؟ - يحوي باطن أراضي الشرق الأوسط ثلثي احتياطات النفط المحققة في العالم، لكن الشرق الأوسط لا ينتج مع ذلك سوى 29 في المئة من الانتاج الكلي للعالم. وتملك المنطقة احتياطات تكفيها في المتوسط لمدة 100 عام، في مقابل 20 عاماً لبقية مناطق العالم. ويتميز نفط الشرق الأوسط بأنه الأقل كلفة لجهة التنقيب والانتاج، ولذلك تجد حكوماته انها مضطرة الى زيادة عائداتها الوطنية بتصدير مزيد من النفط. بيد ان حصة النفط في الميزان التجاري الاميركي تضاءلت بدرجة كبيرة من 66 في المئة من العجز في العام 1991 الى 53 في المئة في 1992 و39 في المئة في 1993. ومع ذلك كله بقيت كلفة استيراد النفط في اميركا بالقيمة الثابتة للدولار من دون تغيير يذكر. ولا تُعزى الزيادة الأخيرة في عجزنا التجاري الى النفط الذي قد تنخفض مساهمته في ذلك العجز مرة اخرى هذا العام. والواقع ان قيمة وارداتنا النفطية العام الماضي - 8،44 بليون دولار - كانت تعادل تقريباً قيمة السيارات التي استوردناها. كما ان عجزنا التجاري مع بلدان اوبك العام الماضي - نحو 12 بليون دولار - يعادل خُمس عجزنا التجاري مع اليابان. وهكذا فإن المطالبة بخفض واردات النفط تنطبق على كل السلع المستوردة الاخرى. ليس ثمة سبب للافتراض بأن النفط الدولي لن يكون متوافراً في المستقبل المنظور. فإمداداته كافية، والدول المصدّرة تحتاج الى المال. ولن يكون خفض واردات النفط بصفة دائمة لأسباب امنية سوى اجراء غبي ومكلف جداً، ولن يكون قطعاً عملاً يخدم المصلحة الاميركية العامة.