المملكة تجدد رفض تهجير الفلسطينيين والاعتداءات الإسرائيلية على سورية    الذهب يسجل أسوأ أسبوع في ستة أشهر مع انحسار التوترات التجارية    قوة المملكة وعودة سورية    قادة ورؤساء الوفود المشاركة في القمة العربية يؤكدون ضرورة توحيد الجهود للتغلب على التحديات في المنطقة    سوريا: تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على الخلود    الأهلي برباعية يجتاز الخلود    أباتشي الهلال تحتفل باللقب أمام الاتحاد    أخضر الصالات يتجاوز الكويت ودياً    «تنمية شقراء» تُكرّم داعمي البرامج والمشروعات    بتوجيهات من القيادة.. وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    يايسله يُعلن اقتراب رحيله عن الأهلي    تضارب في النصر بشأن مصير رونالدو    الأهلي يتغلب على الأخدود برباعية في دوري روشن للمحترفين    ترسية مشروع استثماري لإنشاء وتطوير مركز لأطفال التوحد    وزارة الداخلية: لا حج بلا تصريح    المملكة.. الثاني عالميًا في «آيسف الكبرى»    "شؤون المسجد النبوي" تدشّن "المساعد الذكي الإثرائي"    فرع الشؤون الإسلامية بالشرقية يعلن جاهزيته لتنفيذ خطة الحج    القضاء على إرهابيين وضبط أسلحة وذخائر خلال عملية أمنية شرق الجزائر    مستشفى الملك فهد الجامعي يطلق أربع خدمات صيدلية    تاسي يغلق مرتفعا للأسبوع الثالث    440 مليار ريال استثمارات مدن    591.415 طلبا لأسماء تجارية    أمين الطائف يطلق مبادرة "راصد+ " لضبط تسرب لحوم الأضاحي من المشاعر    قلب الاستثمار.. حين تحدث محمد بن سلمان وأنصتت أميركا    "الفيصل للبحوث" يناقش دور المملكة في المنظومات الإقليمية    جمعية روماتيزم تستعرض خدماتها في معرض "إينا" في نسخته الثالثة    حين تلتقي المصالح وتستقر الموازين    فهد بن سعد ومسيرة عطاء    القبض على مقيمين بجدة لترويجهم (1.6) كجم من (الشبو)    أجياد تستعرض مشروع قاصد    مذكرة سعودية مصرية في المجال البرلماني    110 آلاف حكم في القضايا العامة    71 عملية جراحية وقسطرة قلبية لضيوف الرحمن بالمدينة    برنامج "مداد" يثري مهارات كوادر السياحة والضيافة في جازان    تايكوندو النصر والرياض يتقاسمان ذهب السيدات    فلمبان يوثق مسيرة الفن السعودي    اختبارات نافس في 8 دول    قمة بغداد: تنديد بالحرب والحصار في غزة وعباس يدعو لنزع سلاح حماس    السعودية: رفع العقوبات عن سوريا فرصة عظيمة لبناء التعافي    إغلاق وضم مدارس بالمجاردة    التراث السعودي في المراسم الملكية: هوية ثقافية راسخة وقوة ناعمة عالمية    كيف ترسم الصحة السكانية مستقبل المملكة    "أنعش قلبي".. نادي الشرق بالدلم يطلق مبادرة رياضية بمشاركة مشاة من مختلف المناطق    سمو أمير المنطقة الشرقية يرعى حفل تخريج 100 صحفي وإعلامي    وزير الصحة يكرم تجمع الرياض الصحي الأول نظير إنجازاته في الابتكار والجاهزية    أكثر من 6000 حاجاً يتلقون الخدمات الصحية بمدينة الحجاج بمركز الشقيق خلال يومين    جمعية نماء تنفذ برنامجًا شبابيًا توعويًا في بيت الثقافة بجازان    جمعية تعظيم لعمارة المساجد بمكة تشارك في معرض "نسك هدايا الحاج"    زمزم الصحية تشارك في فرضية الطوارئ والكوارث    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة ال 19 من طلاب وطالبات جامعة تبوك    تحذيرات فلسطينية من كارثة مائية وصحية.. «أونروا» تتهم الاحتلال باستخدام الغذاء كسلاح في غزة    أكد أن كثيرين يتابعون الفرص بالمنطقة… ترامب لقادة الخليج: دول التعاون مزدهرة.. ومحل إعجاب العالم    مُحافظ الطائف يشهد استعداد صحة الطائف لاستقبال موسم الحج    نائب أمير منطقة تبوك يشهد حفل تخريج متدربي ومتدربات التقني بالمنطقة    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وادي حنيفة يسترجع ذاكرته ويجتذب صيادي الأسماك والطيور المهاجرة . حدائق جوراسية على سفوح هضاب الرياض
نشر في الحياة يوم 04 - 07 - 1994

بعد نحو 20 ألف سنة من الجفاف يستعيد وادي حنيفة الذي يخترق مدينة الرياض ذاكرته. بهذه العبارة يصوِّر العالم السعودي الدكتور مصطفى الدغيثر التغيرات البيئية التي حدثت خلال العقدين الماضيين. فمياه المجاري وسيول الأمطار وقنوات مشاريع خفض المياه الأرضية تشكل جداول وسواقي تصبّ في بحيرات تنمو حول ضفافها أدغال البردي والقصب والحلفا والعقربان ونقيق الضفادع وصخب الطيور المهاجرة التي استقرت في المنطقة وحفيف النباتات المائية ومنظر صيادي الأسماك في مدينة الرياض تعيد الى الوادي تاريخه المندثر.
تلتقي في وادي حنيفة الذي يبلغ طوله نحو 150 كلم روافد ووديان عدة مشهورة مثل نمار ولَبَن والبطحاء. وحنيفة جزء من وادي السهباء الذي يمتد من أواسط نجد الى جنوب دولة قطر. والسهباء واحد من ثلاثة وديان عظيمة تخترق شبه الجزيرة العربية من الغرب الى الشرق وفيها كانت تجري أنهار عظيمة اندثرت بعد انتهاء العصر الجليدي الأخير. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل تعيد التنقيبات الأثرية على ضفاف هذه الوديان وسفوحها قراءة تاريخ الحضارة البشرية؟
الجواب عن هذا السؤال غير ممكن في نطاق علم الآثار والتاريخ التقليديين. ولا بد من توظيف علوم الجيولوجيا والمناخ وتقنيات الاستشعار عن بعد للكشف عن المستوطنات البشرية القديمة في شبه الجزيرة العربية. وكما يقول الدغيثر الذي أسس معهد البيئة والموارد الطبيعية في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية "الجغرافيا ام التاريخ والجيولوجيا جده". وبسبب اتساع مساحة السعودية وانشغال علمائها بمسائل التنمية لم يتحقق حتى الآن القدر الكافي من العمل في مجال تاريخ شبه الجزيرة القديم الذي لم تبق منه سوى حكايات وأقاصيص تختلط فيها الوقائع التاريخية بالاساطير عن طسم وجديس وثمود وعاد.
الطبقات الصخرية لهضاب طويق وعرقة والرفيعة والعريجاء المطلة على وادي حنيفة تكشف بوضوح عن ضفاف النهر العظيم الذي كان يخترقه قبل نحو 20 ألف سنة. وبساتين الدرعية حيث لا تزال تنمو أشجار النخيل والرمان والتين والعنب هي شهادات باقية على أولى المستوطنات الزارعية في تاريخ نجد التي كانت قائمة على امتداد وادي حنيفة. ولا يستبعد العالم السعودي الذي رافق "الوسط" في جولة من الدرعية في شمال غرب الرياض حتى الحائر في جنوب شرقها أن تكشف يوماً الآثار المطمورة في أنحاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية عن السر المحيِّر لظهور الحضارة السومرية في شكل مفاجئ في جنوب العراق. وكما حدث في الحضارات العربية والاسلامية اللاحقة يجدر البحث هنا عن بدايات هذه الحضارة التي ابتكرت الكتابة الأولى في التاريخ ودونت القوانين وأنظمة الحكم واكتشفت الحقائق في علوم الرياضيات والفلك والطب.
الحديقة الجوراسية
البنايات في حي السفارات الذي يطل على وادي حنيفة تبدو وكأنها انبثقت من أحشاء الوادي. هنا يظهر التوافق الجميل بين عناصر البيئة الطبيعية وعناصر البيئة المعمارية وهو ما نشاهده أيضاً في أحياء الدرعية القديمة المطلة على وادي حنيفة في الجنوب الغربي من الرياض. ويتخذ هذا التوافق بعداً تاريخياً جيولوجياً في حديقة الصَبا التي تقع على كتف حي السفارات. فهذه الحديقة التي تطل على الوادي من ارتفاع 630 متراً عن سطح البحر تربض على سطح طبقات جيولوجية تعود الى العصر الجوراسي قبل أكثر من مئة مليون سنة. خضرة الحديقة المعشبة بأشجارالطلح والأثل والسَمْر والسَلم والسدر وأعشاب الثيموم والثمام والرمث تتكرر في الروضات التي تنبثق هنا وهناك على ضفاف الوادي. نباتات الشِفَلَّح واللصيف التي تلتصق بالصخور والسفوح تبدو لعيني عالم البيئة آخر الأيادي التي تلوح بها بساتين شبه الجزيرة العربية وحدائقها قبل أن تطمرها الرمال التي جلبتها فترة الجفاف قبل نحو 20 ألف سنة.
ولا يمكن اكتشاف جمال هذه البيئة إلاّ بعيني عاشق لنجد مثل العالم الدغيثر أو مثل الشاعر الأعشى المدفون في قرية منفوحة في وادي حنيفة. ويستعين العالم على عشقه بمقارنة الأعشى جمال حبيبته هُريرة برياض الوادي في معلقته المشهورة حيث يقول:
ما روضةٌ من رياض الحَزن معشبةٌ
خضراء جاد عليها مُسبِلٌ هطِلُ
يضاحك الشمس منها كوكبٌ شَرقٌ
مؤَزرٌ بعميم النبت مكتهلُ
يوماً بأطيبَ منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصُلُ
قد تكون هذه المقارنة هي سبب عتاب هُريرة حبيبها الأعشى في القصيدة نفسها: "ويلي عليكَ وويلي منك يا رجلُ"! ولكن العالم يدهش لما في هذه الأبيات القصيرة من مكونات البيئة الأساسية كالجو والتربة والماء والتنوع النباتي إضافة الى تصوير عملية التركيب الضوئي في العلاقة الحميمة المتبادلة بين الشجر والشمس.
والرياض التي لا يجد الشاعر أعذب من شذاها سوى رائحة حبيبته هي سلسلة روضات تمتد على حافة الدهناء وعلى ضفاف بعض الوديان ومنها تتخذ مدينة الرياض اسمها. فهذه البقع الدائمة الخضرة تتكون من أعشاب وشجيرات يغذيها نظام صرف طبيعي يحفظ المياه في طبقات الطمى وسط كثبان الرمال. وتتميز تربة الطمى بقدرتها العالية على خزن المياه مع إتاحته للنبات وتسريب الفائض من الماء الى الكثيب الرملي الذي لا يحتجز المياه بسبب مساميّته العالية.
وعود النهر
هذه الظروف الطبيعية التي تجمع بين القدرة على خزن الماء وصرفه تمنع تراكم الأملاح وتحول دون نشوء السبخات وتؤدي الى ديمومة الغطاء النباتي. ويستعين علماء معهد البيئة والموارد الطبيعية بالتراث الشعري القديم لتمييز الأنواع المختلفة من الروضات التي تتخذ أسماءها من ظروف تكوِّنها. فهناك روضات الحَزون التي تنشأ على الهضبات وروضات الدُحول التي تنشأ في مناطق تكهف التربة وتجوُّفها وروضات الضفاف التي تنبت على ضفاف السيول والجداول.
في الستينات بدا أن استنزاف المياه السطحية سيؤدي الى اختفاء بساتين وادي حنيفة التي تتغذى منها. ولكن القفزة التي حدثت في استهلاك المياه في السبعينات والثمانينات وإعادة طرح مياه الصرف الصحي بعد معالجتها أوجد جداول جارية مع مساحب السيول ومياه الأمطار. وضاعفت كميات المياه مشاريع خفض المياه الجوفية التي تُجمع الآن في أنابيب مغطاة تمتد تحت العديد من شوارع الرياض. رقرقة المياه في هذه السواقي التي تجري مع الانحدار الطبيعي للأرض حوالي بساتين وادي حنيفة تنبيء بوجود نهر في مكان ما. وتحقق السواقي وعدها حين تتحول جداول وقنوات تتخفى وراء حجاب الأعشاب المائية الطويلة وجدائل نباتات الحلفا والعقربان. هذه الجداول الوليدة تُبتكر لها أسماء إما من المناطق التي تمر بها مثل قناتي سلطانة والبطحة أو من النبات الذي يسارع الى احتضانها. ففي قناة الخروع مثلاً يجد نبات الخُروع ضالته في مياهها المتدفقة من محطة الصرف الصحي التي تحتوي نسبة عالية من النتروجين يتغذى منه النبات ويمكن شم رائحة الأمونيا النفاذة من بعيد.
تقدر كميات المياه التي تصب في جداول الرياض بما يزيد على 300 ألف متر مكعب في اليوم في موسم الجفاف ونحو نصف مليون متر مكعب في موسم الأمطار. ويقارب المتوسط السنوي للمياه نحو مئة وخمسين مليون متر مكعب وهذا يعادل ربع مياه نهر الليطاني الذي تبلغ كمية مياهه 600 مليون.
كل جدول من هذه الجداول وكل نوع من نباتها وأسماكها وضفادعها وطيورها تناولته دراسات تحدث عنها لپ"الوسط" الدكتور صالح العذل رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. الشبّوط والبلطي والسلّور وغيرها من سلالات أسماك المياه العذبة التي ربتها المدينة وطُرِح بعضها في الجداول كوّنت هذا المنظر الفريد لصيادي الأسماك في مدينة الرياض المحاطة بالصحراء. لكن هذه الأسماك جزاها الله خيراً وفق تعبير الدغيثر ساعدت أيضاً في تطهير الجداول والبحيرات من الطحالب والأعشاب والبكتيريا والنفايات العفنية. إلى ذلك اجتذبت الأسماك للسكن الدائم في الرياض طيور الماء المهاجرة التي كانت تجتاز شبه الجزيرة العربية في رحلة الصيف والشتاء بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها.
ومع أن أسماك المياه العذبة لم تكن معروفة هنا فان تشجيع القطاع الخاص على تربيتها جعل انتاجها يزيد حالياً على 2000 طن سنوياً. ودخلت هذه الأسماك قائمة طعام العوائل النجدية وظهرت طبخات جديدة لها ابتكرت بعضها ربات البيوت السعوديات وجاءت ببعضها الآخر الفيليبينيات والصينيات والمصريات ويمكن استنشاق الرائحة الشهية لسمك المسكوف العراقي الشهير تتصاعد من بعض المزارع في ضواحي الرياض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.