ارتفاع أسعار النفط إلى 83.27 دولارًا للبرميل    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار على معظم مناطق المملكة    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    حراك شامل    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    فوائد صحية للفلفل الأسود    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    أثقل الناس    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    سقيا الحاج    السفير الإيراني يزور «الرياض»    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خفايا جمهورية رينيه معوض . الاخضر الابراهيمي : ودعته ثم رجعت لأحذره من احتمال استهدافه الحلقة الاخيرة
نشر في الحياة يوم 06 - 12 - 1993


سركيس في وحشة القصر : نادم لأنني لم أتزوج
نايلة تتذكر قصة رئيسين في ملجأ بعبدا
كان عبور رينيه معوض في الرئاسة سريعاً لم يكن بالتأكيد شخصية عابرة في حياة لبنان المستقل. كان شريكاً في عهود وناصحاً في اخرى وكان دائماً مشروع لقاء في زغرتا وفي الشمال وفي الجمهورية بأكملها. وكان قبل ذلك من قماشة الحكماء الذين لا يتناسون الثوابت ويدركون ان صحة البلد الذي استقل قبل نصف قرن لا تحتمل منطق الملاكمين والضربة القاضية ومنطق الانقلابيين والنصر الكاسح والخسارة الفادحة. انه زمن الذين كانوا يعرفون هشاشة الاوتار فلا يذهبون الى العزف الى حد تقطيعها. زمن رجال التسويات والتوازنات التي تسمح ببناء دولة من دون تهديد خصائص ومن دون شطب لاعبين.
انها الاقدار: في الرابعة والنصف بعد ظهر 22 تشرين الثاني نوفمبر 1989 كان مقرراً ان يستقبل معوض العميد اميل لحود ليبلغه رغبته في تعيينه قائداً للجيش. ولم يسبق للرئيس ان التقى الجنرال لكنه استند الى مواصفات معينة اعتبر ان لا بد من توافرها في قائد الجيش في المرحلة الجديدة. في ذلك اليوم عبر لحود حاجز المتحف قبل الظهر في اتجاه بيروت الغربية لكن الاغتيال سبق اللقاء... من دون ان يؤدي الى اغتيال قرار اختيار لحود.
لم يتح الوقت لمعوض فرصة رسم ملامح جمهوريته. لذلك فان الحنين الى جمهورية الپ17 يوماً يستند في الواقع الى ما كان يتوقع ان يفعله الرئيس في ضوء قناعاته وشخصيته وأسلوبه. وشهود تلك المرحلة قلة. وكل منهم يعرف جانباً من القصة. فمعوض كان، على عادة رجال الدولة، من الذين يحفظون سر الدولة حتى عن اقرب الناس اليه وهو ما تؤكده زوجته نايلة.
الاخضر الابراهيمي: همّه وحدة لبنان
وزير الخارجية الجزائري السابق مندوب اللجنة الثلاثية العربية العليا السيد الاخضر الابراهيمي قال رداً على اسئلة "الوسط": "عرفني على الرئيس معوض سفير لبنان السابق في لندن نديم دمشقية وكان ذلك في بداية عمل اللجنة الثلاثية. والانطباع الذي خلفه لدي هو انه رجل هادئ ومعتدل. كنت اعرف انه من الشهابيين ومن دعاة الوفاق. لم اسمع منه كلمة سوء في حق احد وهذا ليس قليلاً في تلك الظروف. طرح اسمه جدياً في الطائف بالتوازي مع العمل الذي كان النواب يقومون به. كنت حريصاً على عدم التدخل ولكن بدا واضحاً انه احد الاسماء الجادة المطروحة".
ويتذكر الابراهيمي لقاءه مع معوض غداة انتخابه: "ذهبنا الى منزله في اهدن وكانت هناك اجواء احتفال من الاهل والعشيرة والمواطنين. تحدثنا عن المستقبل وكان مدركاً عبء المسؤولية وهمه كيف يوحد البلد. اذكر انه بدأ يتكلم عن الاتصال بكل الاطراف بمن فيهم العماد ميشال عون لتحاشي استمرار الانقسام ولجعل الانتخاب بداية قوية لتوحيد البلاد.
كان معوض يفكر في اشراك جماعة عون وليس عون شخصياً. قلت له ان دور اللجنة الثلاثية في مهمتها الأولى انتهى انتخاب الرئيس فأجاب: مستحيل دورها لم ينته".
ويضيف: "حين افكر في تلك المرحلة اشعر بالاسف لأننا لم نتمكن من اقناع عون بأن يكون جزءاً من الحل. انا ذهبت خصيصاً الى بيروت لاقناع الجنرال بالتوجه الى جدة، وكان المشروع ان ندعوه وندعو الرئيس سليم الحص. تصور الفارق لو انه شارك وأجرينا الانتخابات في بيروت وتوجه معوض من مقر المجلس الى قصر بعبدا".
ويتابع الابراهيمي: "اغتيال الرئيس معوض كان ضربة كبيرة. تلك الايام، على قلتها، اعطت صورة عن الرجل وأعطته حجماً. ما اجراه من اتصالات وما قاله لا يتناسب مع الايام القليلة التي قضاها في الرئاسة. لم يحصل ان اصدر مجلس الامن بياناً بتحية انتخاب رئيس جمهورية كما فعل مع معوض. وكان الالتزام العربي والدولي كاملاً.
التقيته يوم ثلاثاء، قبل اسبوع من اغتياله. ودعته لأنني مسافر. ولكن في صباح اليوم التالي اتصلت به والتقيته لدقائق. قلت له ان ثمة كلاماً عن احتمال ان تكون مستهدفاً فقال: شكراً. طبعاً على الانسان ان يتخذ احتياطات".
حلو: لكل شخص اسلوبه
جار معوض وصديقه، النائب بيار حلو، راودته هو الآخر مخاوف على الرئيس. وقال حلو لپ"الوسط" انه "خلال الاستشارات النيابية قلت له انا خايف عليك فأجاب: بيار بدي اعطي هيبة للدولة بقيت مناسبتان ثم اتخذ اجراءات امنية صارمة".
ويسترجع حلو بعض ذكريات لقاء الطائف وكيف اصطحب معوض حلاّقه معه وكيف راح النواب يقولون من يحلق عند شكري حمصي عليه ان يصوت لرينيه. ويقول: لم يطرح جدياً الا اسم رينيه معوض وكان رجل حوار واعتدال. ويشير الى ان "اثنين صنعا الطائف هما حسين الحسيني ورفيق الحريري". وهل كان الوضع مختلفاً لو حكم معوض؟ يكتفي بالقول: "لكل شخص اسلوبه".
نايلة: مهمة ناجحة
في العام 1962، خلال مأدبة غداء تعرفت نايلة عيسى الخوري، ابنة بشري، على نائب زغرتا رينيه معوض. وفتح التعارف الباب لعلاقة حب دفعت معوض الى التخلي عن عزوبيته. وقبل الزواج كان صريحاً "السبت والاحد في زغرتا حتى لو دعتك ملكة بريطانيا الى العشاء"! تسترجع نايلة تلك الأيام بمزيج من الحزن والتقدير وتقطع الدموع احياناً حديث الذكريات. نشأ رينيه وحيداً وغادرت والدته لبنان الى البرازيل وكان صغيرا،ً وحين تزوج عثر في نايلة على الزوجة والصديقة والشريك.
في الحلقة الثالثة والاخيرة من ملف رينيه معوض تروي نايلة التي تحمل حالياً هموم النيابة مشاهد من علاقة معوض بالرئيس الراحل الياس سركيس.
متى بدأت علاقة الرئيس معوض مع القيادة السورية؟
- فعلياً بعد بدء الوجود العسكري السوري في لبنان. في 1976 زار زعماء زغرتا سورية والتقوا الرئيس حافظ الاسد. في 1980 كلف الرئيس تقي الدين الصلح تشكيل الحكومة ولم يتمكن من تأليفها. يومها طلب منا استخدام منزلنا في الحازمية لاجراء بعض الاستشارات فيه. بعدها كلف الرئيس الياس سركيس الاستاذ شفيق الوزان تشكيل الحكومة على رغم ان اسماء اخرى كانت مطروحة مثل رشيد كرامي ومالك سلام وسليم الحص.
كلما حاولت الحكومة النزول الى المجلس كانت تحدث مشاكل في الشارع وصعّد بعض الميليشيات الموقف وحصل احراق دواليب في الشياح وشعر الوزراء الشيعة بنوع من الخطر، على رغم ان حركة "امل" كانت في بدايتها آنذاك. كثيرون قالوا للرئيس سركيس ان الرئيس الوزان لن يستطيع البقاء. ذات ليلة كنا على عشاء في بيروت الغربية، حسب التسميات السابقة، والتقينا العقيد السوري محمد غانم فنصح الرئيس معوض بضرورة التفاهم مع الرئيس الاسد لضمان اقلاع الحكومة واتفقا على لقاء في اليوم التالي.
اطلع الرئيس معوض الرئيس سركيس على ذلك واقترح في لقاء في بعبدا في حضور الاركان ان يزور مبعوث للرئيس سركيس دمشق. شكك معظم الحاضرين في جدوى الخطوة وسأل الرئيس سركيس الرئيس معوض هل هو مستعد للقيام بالمهمة فرد بالايجاب طالباً ان يتصل الرئيس اللبناني بالرئيس السوري ليبلغه بايفاد مبعوث. ورد الرئيس الاسد طالباً حضور المبعوث قبل الثانية عشرة لأنه سيسافر في هذا الوقت الى ليبيا.
يومها كانت هناك عاصفة ثلجية قوية. ولما انتقل رينيه في طائرة الهليكوبتر ووصلوا الى ضهر البيدر قال قائد الطائرة: "اننا بلغنا مرحلة الخطر وانا لا اتحمل مسؤولية سلامتك". فرد الرئيس معوض: "بتنا في منتصف الطريق. اذا كنت مستعداً لتحمل مسؤولية نفسك نكمل". كان مهتماً بالوصول الى دمشق خصوصاً ان الجو في الشارع كان سيئاً.
وصل الى العاصمة السورية وعقد لقاء طويلاً مع الرئيس الاسد. في ختام اللقاء قال له الرئيس الاسد انا سأسافر الآن فطلب الرئيس معوض منه ان يعطي اوامره لتسهيل الوضع في بيروت فرد عليه بأنه سيفعل ذلك بعد عودته وهنا قال له معوض: "اذاً ستعود وتجدني جالساً على الكرسي نفسه". ابتسم الرئيس الاسد واجرى اتصالاً.
عاد الرئيس معوض براً وأبلغ الرئيس سركيس. في محيط الرئيس كان هناك الكثير من الشكوك في ظهور نتائج سريعة ولكن في منتصف الليل كانت الاوضاع قد تسهلت. كان لدى رينيه اسلوب في التحاور والتفاوض يمزج الجدية والواقعية بقليل من المزاح.
معوض والحكومة الانتقالية
تردد ان الرئيس معوض عارض تشكيل حكومة انتقالية بعد خلو مركز الرئاسة عام 1988.
- نعم وقال ان حكومة من هذا النوع ستكون خطأ كبيراً وقد تسبب الخطوة شرخاً في البلد ولن يشارك احد من الفريق الآخر في حكومة من هذا النوع، وانا مستعد للدخول في رهان على ان المسلمين لن يقبلوا بالمشاركة. شدد رينيه على بقاء الرئيس سليم الحص مع تعديل الحكومة لتكون صغيرة العدد وتمثل الجميع.
لم يشارك الرئيس معوض في اي حكومة في عهد الرئيس امين الجميل. فبعد مجزرة اهدن في 1978 كان هناك شيء من الجفاء بيننا وبين الكتائب. لكن رينيه كان يدعم الشرعية بغض النظر عن شخص الرئيس. اذكر ان موقف الرئيس الجميل منا في بداية عهده لم يكن جيداً، وذات يوم راح يتصل برينيه فقلت للرئيس معوض لماذا تتجاوب فقال: "انا لا اخدم امين الجميل انما اخدم رئيس جمهورية بلدي. هذه كانت قناعة ثابتة لديه.
اذكر في 1982، في بداية عهد امين الجميل، كنا في باريس وجاء وليد بك جنبلاط. طوال فترة الغداء كان رينيه يسعى اقناع وليد بك بضرورة حصول حوار وتقارب مع رئيس الجمهورية وكان جنبلاط يشكو، وأصر رينيه علماً ان علاقته مع الشيخ امين لم تكن من النوع الذي يمكن ان يدفعه الى مثل هذا الالحاح لولا تعلقه بالشرعية.
قبل ذلك باعوام حدث ان علاقاتنا مع الرئيس سليمان فرنجية لم تكن جيدة وعلى رغم ذلك كان رينيه يصر على الرئيس الياس سركيس لابقاء قنوات الحوار مع الرئيس فرنجية والاهتمام بموقفه. بهذا المعنى كانت الدعوة الى الحوار والمصالحة والتفاهم من الثوابت في تفكير رينيه معوض بغض النظر عن حال العلاقات مع الاشخاص. الامر نفسه حدث في 1968 عندما تولى الرئيس فرنجية وزارة الداخلية. فقد ألح رينيه على الشهابيين لتقريب الرئيس فرنجية والحيلولة دون انتقاله الى المعسكر الآخر اذا صح التعبير.
فكرة الدولة كانت الاساس في سلوك رينيه معوض السياسي. وكان يوظف علاقاته الشخصية بما يخدم هذه الفكرة. كان وليد جنبلاط بعيداً عن الرئيس سركيس فسعى رينيه الى التقريب بينهما. كما شدد لدى الرئيس سركيس على ضرورة ابقاء الجسور مع الرئيس صائب سلام وذلك في يوم كانت الصحف تحمل انتقادات قوية من الرئيس سلام الى الرئيس سركيس.
الاذن الموسيقية
كان الرئيس الياس سركيس يحرص على اسماع رينيه الخطاب الذي سيلقيه. وكان رينيه يسارع الى تسجيل ملاحظاته على بعض الكلمات لهذا كان سركيس يقول: "رينيه صاحب اذن موسيقية". وكان يقصد بذلك انه يلتقط مقدار الحساسية في الكلمات، وذلك في ضوء فهمه للتركيبة اللبنانية والعلاقة بين الاطراف. وكانت هناك اللياقات والاحترام الذي يميز العلاقات. لم تكن تمر مناسبة وطنية او دينية من دون ان يتصل بكل المعنيين.
واللياقة، كما الحرص على ابقاء باب الحوار مفتوحاً، لا تلغي القدرة على اتخاذ المواقف. وكان هناك الشعور بالواجب. عندما كان رينيه وزيراً للتربية وكان الوضع الامني مضطرباً قرر اجراء الامتحانات الرسمية حرصاً على مستوى الشهادة اللبنانية. قلت له يومها ان الناس ستضحك عليك فهمهم ان يعيشوا حتى الغد. لكنه اصر على اجراء الامتحانات. ويوم الامتحانات نزل في السادسة الا ربعاً صباحاً وجلس في الشارع في محلة غاليري سمعان لتشجيع الناس على العبور. ساهمت الامتحانات في وقف المعارك وتمت على رغم تشكيكنا جميعاً في امكان اجرائها. وعبر تلامذة من منطقة الى اخرى وعبروا عن فرحتهم برؤية شوارع لا تبعد عنهم سوى مئات الامتار ولم يتمكنوا سابقاً من زيارتها كما عبروا عن فرحتهم باللقاء تحت سقف واحد مع تلامذة لبنانيين من منطقة اخرى.
بعدها اعتذر الرئيس سركيس من رينيه وقال له: "بصراحة حين كنت تحكي عن الامتحانات كان شعوري انها مستبعدة الحصول بنسبة مئة في المئة. لقد حققت انجازاً كبيراً". وفي تلك السنة، للمرة الاولى منذ بدء الحرب، قبلت الجامعات الطلبة اللبنانيين من دون اخضاعهم لامتحانات خاصة.
سركيس: نادم لأنني لم أتزوج
اقمتم في القصر الجمهوري في فترة من عهد الرئيس سركيس فماذا تذكرين عن سركيس والقصر؟
- نعم، بقينا نحو سنة وثلاثة اشهر ننام في القصر عندما نأتي من زغرتا الى بيروت. اولاً كان الرئيس سركيس جدياً تماماً ويأخذ الامور ببساطة. لم يذق طعم الرئاسة. كانت الظروف صعبة. وهو شخصياً لم يكن يحب المظاهر والمواكب. مضت فترات طويلة من العنف. وكان الرئيس سركيس في القصر. وعدم تمكنه من لجم الاوضاع زاد كآبته. وكان احياناً يشعر بالوحدة. ذات مرة قال لي: "انا نادم كثيراً لأني لم أتزوج. على الاقل كانت هناك امرأة واولاد في هذا القصر".
وفي تلك الايام كان القصر الجمهوري في حالة كئيبة وسيئاً من الناحية الامنية. لا جدران ترد عن جدران، وواجهات زجاجية. واثناء القصف لم يكن ممكناً العثور على مكان آمن فعلاً. لم يكن الرئيس سركيس ضحوكاً او محباً للمزاح. امضى رئاسته كمن يقوم بواجب صعب. لم يتمتع بالرئاسة. ربما كان يأمل حين انتخب ان تكون الحرب انتهت لكنها استؤنفت في عهده.
وكان سركيس محللاً دقيقاً للاوضاع يدرك سريعاً حجم الصعوبات. وكان رينيه قربه من الذين يدعون دائماً الى العمل والتحرك على رغم المصاعب. وفي الحكومة التي شكلت في 1980 كان رينيه مهتماً بأن تتلقى الحكومة الضربات عن الرئيس لابقاء صمامات الامان موجودة. وفي تلك الفترة كانت هناك قواعد تحترم. ذات يوم تناول احد الوزراء في مجلس رئيس الحكومة بكلام قاس. هذا الكلام كان موضع استهجان واستنكار من قبل الجميع من دون استثناء. ولك ان تقارن بين ما كان يجري وما يجري في هذه الايام.
قبل الظهر كان القصر الجمهوري يشهد حركة، اما بعد الظهر فكان الجمود مخيماً. لم يكن الرئيس سركيس يحب البروتوكول. كان يحب في المساء وجود مجموعة صغيرة من الاصدقاء. يستقبلهم ببساطة. بين افراد المجموعة ميشال اده وفريد روفايل وعهد بارودي وميشال المر وفاروق ابي اللمع وجوني عبده واحياناً كريم بقرادوني. وفي بعض الظروف الامنية الصعبة كان الوزير فؤاد بطرس ينام في القصر.
سكن الرئيس سركيس لفترة في ملجأ القصر. في المرحلة الاولى رتبوا له غرفة في الطبقة الاولى واعتبرها الضباط آمنة لكنها اصيبت ذات يوم بطريقة غريبة فنزل الى الملجأ. بعد شهرين في الملجأ قلت للرئيس سركيس ما دامت الاغراض في خطر فلماذا لا يتم انزال بعضها ليصبح الجو شبه طبيعي؟ كان يقيم في الملجأ الرئيس سركيس ونحن واحياناً يأتي النائب المرحوم الاب سمعان الدويهي وأحياناً اخرى يبقى اصدقاء يحول القصف دون مغادرتهم القصر. ذات يوم انزلت اغراضاً وبعض الرسوم. سركيس كان يعيش بطريقة بسيطة جداً. وكنا بين وقت وآخر نحاول ان نخرجه خارج القصر الى مكان قريب بهدف تغيير الجو.
يشفق على أموال الدولة
مسبح القصر كان مشيداً لكنه غير كامل. وكنا نقول للرئيس سركيس يجب ان تتمشى قليلاً وأن تسبح لئلا تبقى اسير الهموم. وكان يرد: "ليس معقولا أن اصرف على المسبح والبلد في حرب". كان بالغ الحرص على اموال الدولة. اذا اصيب القصر كان يصلح الزجاج ولا يصلح الباقي. كانت الستائر ممزقة ويرفض اصلاحها. كان كريماً حين يتعلق الامر بماله الخاص، لكنه كان شديد الحرص على أموال الدولة. كان يشعر بمعاناة البلد والناس ويحرص على مشاركتهم آلامهم. لم يكن الجو مرحاً. كانت الحرب ضاغطة. مثلاً كان الرئيس سركيس يعتبر انه لا يحق للرئيس ان ينظم عشاء كبيراً او مناسبة فيما البلد في خطر.
وضعوا آلة سينما في الصالون الكبير وكانوا يرسلون له بعض الافلام كما كان يلعب الورق. كان الرئيس سركيس مثقفاً ويحب القراءة، لكنه كان في الفترة الأخيرة يركز على قراءة الصحف والمجلات الاجنبية والتحليلات السياسية. في الغالب لم يكن مرتاحاً. اذكر اننا ذهبنا لقضاء "الويك اند" عنده في قصر بيت الدين بعد استقباله اللجنة الرباعية الوزارية العربية.
نزاهة الرئيس
اذكر ان سركيس تأثر الى ابعد حدود الألم والذهول. حاول تنبيه الرئيس سليمان فرنجية بعدما تلقى تقارير عن تحركات عسكرية في المنطقة الشرقية. اوفد يومها الكولونيل نعيم فرح لابلاغ الرئيس فرنجية هذه التحركات التي لم تستطع اجهزة الدولة متابعة اتجاهها.
كان الرئيس سركيس يمتلك شجاعة راسخة. وتمتع باخلاق نادرة. لم تكن لديه مطامع شخصية على الاطلاق. لم يحاول ابداً ان تكون له شلة او حزب. ولم يوظف الرئاسة لخدمة مصالحه. خضنا جدالاً طويلاً معه حتى وافق على شراء بيت للانتقال اليه بعد انتهاء ولايته واشتراه صغيراً. لم يكن ضمير الياس سركيس يسمح له بأي خروج على قناعاته.
في وقت لاحق اشترى قطعة ارض قرب منزله وكانت ملكاً للنائب بيار حلو ولم تكن علاقتهما جيدة. وطلب من رينيه ألا يبلغ بيار حلو اسم الشاري لئلا يراعيه فيبدو كأنه استفاد بشيء. كان الياس سركيس متواضعاً الى حد المبالغة وكانت الهدية تسبب له احراجاً. لم يكن يحب العداوات لكنه كان يتأذى ممن يحاول ان يجرحه. لقد ظلم كثيراً. كان يتشاور والمقياس الذي كان يحتكم اليه هو وحدة لبنان والحفاظ على الروابط بين الطوائف وتعميق شعور اللبنانيين بأهمية الدولة والمؤسسات.
تألم الرئيس سركيس كثيراً لاغتيال كمال جنبلاط في 1977. كنا عنده على العشاء وردد ورينيه الكلمات نفسها وهي ان اغتيال كمال جنبلاط خسارة للبنان وخسارة للمسيحيين ايضاً. شعرا بحجم الخسارة وما يعنيه غياب محاور بهذا الحجم. الشعور نفسه انتاب رينيه لدى اغتيال الرئيس رشيد كرامي في 1987.
اصيب سركيس بمرض نادر وهو فيروس يصيب الاعصاب. مر وقت قبل اكتشاف حقيقة المرض، بدأ يشعر بتثاقل خطواته وبتعب. في اي حال ربما ظُلم الرئيس سركيس كثيراً.
معوض يكره الدم
الرئيس سركيس كان ابن الشهابية. معروف انه كان يدير مكتب فؤاد شهاب ولذلك كان الرئيس معوض معتاداً على التعامل معه تماماً كما كان الحال بالنسبة الى سائر الشهابيين. اذكر انني حين جئت الى المنزل، وكلما كانت هناك جلسة عمل للفريق الشهابي رشيد كرامي وفؤاد بطرس وفيليب تقلا لفترة واحمد الحاج والعميد انطوان سعد، كان حضور سركيس طبيعياً فاعتادوا على العمل معه والتفاهم معه قبل انتخابه رئيساً.
استطيع القول ان الرئيس معوض الذي تحمل المسؤولية باكراً صادفته ايام صعبة في زغرتا مبكراً. كان العنفوان في أوجه لدى الزغرتاويين وبعض القرارات يمكن ان تتسبب في اراقة دماء. لم يكن ضميره يتحمل اي نقطة دم. تعود كمسؤول ألا يكثر من الكلام لا بل انه كان يفضل الاستماع لمعرفة الآراء المختلفة قبل تكوين موقف نهائي ومع ذلك حاسة الشم السياسي.
كان لدى الرئيس معوض الكثير من الصداقات، لكن الاصدقاء بكل معنى الكلمة كانوا قلة. ربطته بالرئيس رشيد كرامي صداقة قوية تستعصي على الوصف ترسخت منذ ايام العزوبية. صداقة مبنية على احترام متبادل ورؤية واحدة للبلد. واعتقد ان المعترك السياسي يفتقد حالياً الى مثل هذا النوع من العلاقات. كانت بينهما ثقة عميقة وكان الواحد منهما يفهم ماذا يريد الآخر من النظرة وقبل ان يتكلم.
كان يعتبر كرامي رجل دول وموضع ثقة وصاحب وطنية عريقة. مرات عدة نبّه كرامي الدولة عبر الرئيس معوض الى اشياء عرفها واعتقد انه لو اخذ برأيه لتم توفير الكثير من الاخطار على البلد. حين تزوجنا كان منزلنا محطة للاصدقاء. الرئيس كرامي عازب وآخرون يجيئون الى منزلنا في البداية في محلة الصنائع. ثم سنة 1967 انتقلنا الى الاشرفية وتركناه بعد مجزرة اهدن في 1978 ثم جئنا الى الحازمية بعد عام. سنة 1985 حين حكي بالمراسيم الجوالة كانت الفكرة فكرة الرئيس معوض وهو عرضها للرئيس كرامي.
كان يتحدث الى الرئيس كرامي بصراحة كاملة وكان يتقبل منه ذلك بسبب الثقة والاحترام بينهما. كان يقول له انا لست من رأيك في المقاطعة او غيره لكن هذه المصارحة كانت تتم بينهما. اذكر ان الرئيس معوض شعر ذات يوم بأنه اذا لم يتم التوصل الى مخرج فان موظفي الدولة لن يتمكنوا من قبض رواتبهم في آخر الشهر. زار الرئيس كرامي وقال له علينا العثور على حل. انت لا تريد الصعود الى القصر الجمهوري وانا ضد هذا المبدأ لأن البلد يمكن ان يدفع الثمن، ولكن اذا كنت مصراً على موقفك فأنا على استعداد لأن انقل المراسيم الى الرئيس الجميل واعيدها من عنده وسميت "المراسيم الجوالة". لم يكن يخاف وكانت الوحدة الوطنية هاجسه. كان يحب رشيد كرامي من قلبه. وكان الرئيس كرامي اذا اراد لقاء شخصية معينة يلتقيها احياناً في منزلنا. التقى عندنا الشيخ بيار الجميل وشخصيات اخرى.
خسارة كرامي
يوم اغتيال الرئيس كرامي اول حزيران/ يونيو 1987 اصيب الرئيس معوض بأقصى حالات الذهول والالم. كان في اوروبا قبل يومين واتصل بي وقال لي سأعود السبت لأقوم بواجب معايدة الاصدقاء بعيد الاضحى. فور وصوله اتصل بالرئيس كرامي طول نهار الاحد وكان على ما اعتقد في بقاعصفرين فلم يجده. الاثنين كان حوالي العاشرة يستعد للتوجه الى منزل كرامي حين عرف على الهاتف بالانفجار وتوجه فوراً الى المستشفى. اذكر ان بعض الاصدقاء تخوف من ان يؤدي اغتيال الرئيس كرامي الى احداث بين طرابلس وزغرتا وشعر بعضهم بالمخاوف. وفي اليوم التالي توجه مع الرئيس معوض نحو عشرة من الاصدقاء، بينهم الوزيران فؤاد بطرس وميشال اده وميشال خوري، وفوجئوا بشباب آل معوض وبالمسدسات يساهمون في الاستقبال في المأتم نظراً الى عمق العلاقة بين الجانبين وثقة الطرابلسيين بالرئيس معوض.
وحتى بعد مرور سنوات كان الرئيس معوض يكرر "هل هذه آخرة رشيد كرامي ان يقتل في انفجار؟ الانفجار سلاح جبان. هذا العمل ليس بمستوى رشيد كرامي". واتذكر انه يوم استشهاد الرئيس معوض ردد كثيرون ان الظروف جمعته والرئيس كرامي في الحياة وفي طريقة الموت ايضاً.
هل كان اضطراب العلاقة بين الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي يحرجه؟
- لا لم تكن تحرجه لأن الرئيسين فرنجية وكرامي كانا يحترمان موقع الرئيس معوض، وهو كان مخلصاً ولائقاً الى درجة ان احداً لم يستطع احراجه بسبب علاقته بأطراف أخرى. كان اسلوبه يقوم على الحوار وابقاء القنوات مفتوحة مع كل الاطراف والفئات اللبنانية من دون احراج. وأعتقد بأن تلك الايام مختلفة عن الوقت الحاضر. كان الناس يحترمون بعضهم بعضا وكان هناك تقدير لمن يستطيعون القيام بوساطة من اجل الخير العام او من اجل جمع الشمل.
وفي الحديث عن الصداقات، فان العلاقة التي قامت بين الرئيس معوض والرئيس حسين الحسيني ذكرتني بعلاقة رينيه مع رشيد كرامي ذلك انها قامت، فضلاً عن الجانب الشخصي فيها، على فكرة الوفاق والمصالحة وبناء الدولة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.