لم تشهد الساحة الثقافية المغربية طوال هذه السنة المنتهية ما اعتادت ان تشهده في السنوات الاخيرة، على اي مستوى من مستويات العمل والتنشيط والتداول. ولاحظ المهتمون منذ فترة، ان حركة نشر الكتاب الثقافي والابداعي التي ظلت طوال عقد من الزمن في تنام مستمر، تراجعت على نحو محسوس. اذ اغلقت دور فتية وطموحة أبوابها "دار الكلام"، في حين تقلص ما دأبت دور أخرى بارزة "دار توبقال للنشر" على نشره الى حدوده الدنيا. ناهيك عن ان دوراً جادة أخرى "دار الفنك"، "افريقيا / الشرق"... تعاني من ظاهرتي العجز والكساد معاً. أزمة قراءة أم أزمة كتاب؟ وعلى الرغم من وجود حديث دائم ومتكرر "عن أزمة القراءة"، فان غلاء كلفة الكتاب وغياب التشريعات القانونية والضرورية لتشجيعه وترويجه، فضلاً عن انحسار السوق المغربية وانتعاش حركة النشر في بيروت والقاهرة ... كلها من العوامل التي تنعكس سلباً، بطبيعة الحال، على وضع الكتاب المغربي الذي يصيبه اليوم الجمود نفسه الذي يتحكم في الحياة الثقافية، والمجالات الابداعية والفكرية بشكل عام. ويبدو في السياق نفسه ان نشر الكتاب المدرسي والموازي، هو المجال الاوحد الذي عرف نمواً مطرداً مكن بعض الدور المختصة من الاستمرار على الوجه المطلوب في تلبية الطلب المتعاظم بالنسبة الى شرائح واسعة من الطلاب والمتعلمين. ومن هنا نفهم ظروف المعركة الحامية التي قامت بين وزارة التعليم - وهي الجهة الوصية على هذا القطاع - وفئة من المستفيدين منه، في بحر السنة المنصرمة. غير ان ما يثير الانتباه ايضاً، هو عزوف بعض الدور، على الرغم من موقعه القوي على الساحة، عن نشر الكتاب الابداعي. فالامر مرتبط، على ما يبدو، بفكرة شائعة هي ان هذا الكتاب لا يجد في السوق من يقبل عليه لطبيعة مادته شعر، قصة، مسرح ...، وغياب المحفزات التي تحث القراء على الاقبال عليه، وتجعله ضرورة حيوية في الحياة العامة، مما يسهل ازدهاره ورواجه. المبادرة الفردية لكن الواقع القاتم المشار اليه، لم يمنع من ظهور بعض الاعمال الادبية الذي يعود فضل صدوره، أغلب الاحيان، الى الجهد الخاص لمؤلفيه. فهؤلاء يعرفون جيداً ان عدم النشر يعني الموت، الفردي والجماعي. ويمكن الاشارة في هذا الصدد الى ظهور رواية "أطياف الظهيرة" لبوهوش ياسين الذي أبى، خلافاً للعادة، الا ان يكشف عن محتواها من باب الاشهار في الصحف قبل صدورها رسمياً بمدة. والرواية التي جاءت في ما يربو على ال 400 صفحة، هي من بين الاعمال المغربية القليلة بهذه الضخامة خلال ثلاثة عقود من الانتاج الروائي. وكان من المقرر ان تصدر روايات اخرى في بحر السنة المنصرمة رواية محد برادة "الضوء الهارب"، رواية محمد زنبير "اصوات" ...، الا انها - للأسباب المذكورة سابقاً - لن ترى النور الا بعد مرور بعض الوقت. ويعني هذا ان المبادرة الفردية اصبحت، تبعاً للامكانات الشخصية، المجال الاوحد لظهور الاعمال الابداعية. وهذه الظاهرة تتحكم، اكثر فأكثر، في حركة النشر المغربية الراهنة. ويمكن تعميم هذا الحكم على مجالات عديدة أخرى، كإصدار المجلات والدوريات والنشرات. فالملاحظ مثلاً ان الساحة الثقافية المغربية تفتقر الى مجلة ثقافية شاملة او متخصصة - اذا استثنينا ما تصدره الجامعات - تستجيب لشروط العمل الثقافي الواسع، او تكون قادرة على استيعاب التراكم الحاصل في الكتابة والتأليف والمتابعة. ومن الثابت في هذا الاطار ايضاً ان المبادرات الفردية، متى وجدت، لا تستطيع الصمود والاستمرار في غياب اسباب الدعم المطلوبة. هكذا ازدهرت خلال السنة المنصرمة، حركة نشيطة على مستويين ابداعيين كان لهما اثر واضح في اضفاء نوع من الحركة على الحياة الثقافية في البلاد. الذوق البصري فالفنون التشكيلية شهدت، من حيث الكثافة والتنوع، تطوراً زاد من ترسيخ تقاليد المشاهدة على مستوى جمهور آخذ في الاتساع. اذ اقيمت في المدن الكبرى طوال السنة، سلسلة من المعارض الفردية والجماعية التي قدمت مختلف التجارب والاتجاهات الفنية. ويبدو ان قضاء الفنون التشكيلية انفتح واسعاً على جميع المبادرات في هذا المجال، سواء من حيث انشاء قاعات جديدة في مدن الدار البيضاءالرباط وطنجة، أو من حيث الاقبال الذي صار محسوساً على مشاهدة المعارض واقتناء اللوحات، ومن حيث بروز اهتمام جمالي ومتابعة ملحوظة للحركة التشكيلية ورصد لشتى افرزاتها وتطوراتها. وربما كان هذا الانفتاح وراء الاهتمام المتزايد بنقد اللوحة واشاعة نوع من الانشغال البصري بأبعادها ودلالاتها. وأخذت الفنون التشكيلية التي ترتبط عضوياً بمستوى التطور في المجتمع، تجذب بعض القطاعات المالية. لوحظ التطور في المجتمع، تجذب بع القطاعات المالية. لوحظ مثلاً ان احد البنوك الرئيسية في المغرب بنك الوفاء، تحول الى ممول هام للفن من خلال دعمه للتجارب الشابة ورعاية المواهب الواعدة، وايضاً من خلال تنظيم معرض سنوي لأهم الانتخابات الجديدة على الصعيدين الفردي والجماعي، بالاضافة الى احتفائه الخاص بالرموز التي تركت بصماتها على الحركة الفنية جيلالي الغرباوي مثلاَ. الجمعيات الثقافية ولا بد من التذكير ان النشاط الثقافي في المغرب، يدين بالكثير الى عمل الجمعيات الذي عرف في السنوات الماضية ازدهاراً متزايداً. ومن المعروف ايضاً ان القوى السياسية المعارضة تملك - لأسباب تاريخية معروفة - حضوراً لافتاً على هذا الصعيد ذي الطابع الديناميكي والبعد التعبوي. فالجمعيات كانت، في ظروف التوتر السياسي، منبرها الجماهيري العلني ومجال تأثيرها الممكن. ولم يتحول الوضع في السنوات الاخيرة فقط، بل اتسع وامتد مع اتساع مجالات العمل الديموقراطي. بيد ان ذلك ادخل معطيات جديدة، ابرزها ظهور جمعيات كبرى تتمتع بامكانات مالية ضخمة، في مضمار التنشيط الثقافي "جمعية الاطلس"، "جمعية أبو رقراق"، "جمعية أنكاد" ... وسواها. وقاد هذا البروز الى كسر الاحتكار الذي مارسته الجمعيات الموالية للقوى المعارضة. ولكنه استحدث تقاليد جديدة على صعيد الممارسة الثقافية، قوامها الاغداق السخي على كل عمل يقدم منفذاً للبروز وطريقة للتأثير وصيغة للتأطير. وكان من الطبيعي ان يطرأ تحول جذري على طبيعة الصراع بين مختلف المؤسسات الثقافية، ما أظهر عدم تكافؤ ينعكس خللاً على التوازن الذي يفترضه اي مناخ ديموقراطي. كما برز أسلوب جديد في التعاطي مع قضايا العمل الثقافي، يقوم على تمجيده قوة المال في احداث التغيير المرتجى، بصرف النظر عن مرامي هذا التغيير وأبعاده. اتحاد الكتاب وانجازاته وظهرت الى جانب ذلك مبادرات أخرى لها منطقها الخاص في التعامل مع الحقل الثقافي. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى دور "اتحاد كتاب المغرب" الذي احتفل هذا العام بمرور ثلاثين سنة على تجذره في التربة الثقافية لبلاده. ويمكن القول ان المؤتمر الثاني عشر الذي عقده هذا الاتحاد في اواخر شهر تشرين الثاني نوفمبر 1993 جاء تتويجاً لهذه المسيرة الحافلة بالعطاء والتأثير الايجابي على حركة الفكر والابداع مغاربياً وعربياً. عقد الاتحاد خلال الاشهر الماضية ندوات كبرى "الوعي التاريخي بالبادية المغربية"، "الكتابة بالامازيغية".... وحقق خطوة مهمة بتثبيت تقليد جديد هو "جائزة الادباء الشباب" التي شهدت دورتها الثانية. كما اصدر لأول مرة دليلاً موثقاً لاعضاء الاتحاد ... وهذه الانجازات لا تقدم عليها عادة الا المؤسسات الكبرى، التي لا يمكن ادراج الاتحاد في نطاقها، لا من حيث البنية ولا الامكانات. وهنا يأتي الدور الذي باتت تلعبه الجامعات المغربية، والكليات التابعة لها الدار البيضاء، الرباط، أغادير، تطوان، بني ملال، الخ، على ضوء توافر شروط مادية وتنظيمية أفضل، في ممارسة دور ثقافي حيوي، قد لا يكون بالضرورة من اختصاصها المباشر. ويلفت الانتباه هنا، الدور الذي لعبته كليتا الآداب في الرباطوالدار البيضاء، خلال السنة المنصرمة، في احياء انشطة دورية بارزة استقطبت جمهور المثقفين والجامعيين، اما عن طريق الندوات او من خلال اصدار المنشورات الدورية. التحول والتحول المضاد هناك قفزة نوعية، بهذا المعنى، أخذت تتبلور على الساحة المغربية، وتتمثل في تحول الثقافة نفسها، بالمعني الحديث، الى منتوج ذات ابعاد "صناعية"، يشترط وجوده مستلزمات تختلف نوعياً عن متطلبات العقود الثلاثة السابقة. وألحق هذا التحول تغيراً نوعياً في مختلف الوظائف المرتبطة بالحياة الثقافية: وجود المثقف وعمله ودوره، ادوات التداول الثقافي والمعرفي، مفهوم السلطة الثقافية وعناصرها الرمزية، الخ. ويظهر الآن ان الحياة الثقافية المغربية، في خضم هذا التحول، تمر في ما يشبه المرحلة الانتقالية. لأنها بقدر ما تنتج مبررات الانتقال الى وضعية جديدة، بقدر ما تشدها عناصر موروثة من التجربة السابقة الى وضع لم يعد لوجوده أي مبرر. ومن هذه الزواية، يمكن القول ان السنة المنصرمة كانت اختباراً لجدوى التحول في أكثر من مجال. لكنها كانت ايضاً سجلاً حافلاً بالعقبات والمصاعب التي ما زالت تعيق قيام اهم التحولات المرتقبة والمطلوبة: ان تصبح ثقافتنا ثقافة وظيفية، مرتبطة بالتنمية، وبالتغيير الديموقراطي الذي يتأثر به المجتمع المدني برمته.