الحديث عن وجود مؤامرة كانت وراء الاطاحة بحكومة الوفاق الوطني الرقم 2 برئاسة المحامي عمر كرامي والمجيء بحكومة وفاقية ثالثة برئاسة رشيد الصلح، هل يأتي في محله، ام ان تكراره في الاسابيع الاخيرة، لم يكن الا من باب الهروب الى الامام في وجه الازمة الاقتصادية الخانقة التي تجلّت في "انتفاضة" 6 ايار مايو الامر الذي استعجل تقديم استقالة الحكومة الكرامية في بيان غير عادي تلاه رئيسها، فيما كانت الاطارات تشتعل من الناقورة حتى النهر الكبير مروراً ببيروت والبقاع والجبل؟ الواقع ان الرئيس كرامي زار دمشق في مطلع هذا الشهر وابلغ نائب الرئيس السوري السيد عبد الحليم خدام انه يرغب بتقديم استقالته فتم التفاهم على ترك توقيت اعلان الاستقالة الى ما بعد اجتماع الرئيسين حافظ الاسد والياس الهراوي في 9 ايار مايو الجاري. الا ان السيناريو المتفق عليه بين بيروتودمشق لم يصمد تحت وطأة التظاهرات التي طافت معظم المدن والدساكر اللبنانية وراحت تقلق بال كبار المسؤولين الذين ابدوا خشيتهم من تداعي الوضع الامني، واحتمال سقوط التدابير المتخذة في بيروت الكبرى. اما دمشق فلم تقلل من خطورة ما حدث، معتبرة ان هناك من يريد اسقاط اتفاق الطائف الذي ترعاه. وينقل زوار دمشق عن لسان مسؤولين سوريين قولهم ان سورية تؤيد كل الاحتجاجات التي شهدتها بيروت والمدن اللبنانية، والتي جاءت تعبيراً عن نقمة اللبنانيين على اوضاعهم المعيشية، لكنها تجد ان هناك من يسعى الى جر المتظاهرين الى ضرب الخيارات السياسية التي تطرحها حكومة الرئيس كرامي وترفض التراجع عنها تحت الضغوط الخارجية، خصوصاً تلك الخيارات المتعلقة بالموقف من المفاوضات الثنائية والعلاقات اللبنانية - السورية. والموقف السوري من "الاضراب السياسي" بوجه الخيارات الاقليمية للبنان لم يمنع دمشق من توجيه تحذيرات الى حلفائها، ليس بسبب اجرارهم وراء ابعد ما حصل، وانما على ممارستهم التي كانت وراء ضرب مصداقية الحكومة الكرامية. اما كيف سارع الرئيس كرامي الى الاستقالة، فان معلومات "الوسط" تشير الى ان الرئيس المستقيل، لم يتخذ قراره الا بعد التنسيق مع دمشق، للاتفاق على المخرج البديل، فقد حرص على التداول مع خدام لئلا يقال انه لم يلتزم بالسيناريو الذي اتفق عليه من حيث التوقيت لتقديم استقالته. ولقي الرئيس كرامي كل تشجيع من خدام، مما سمح له بمصارحة الرئيس الهراوي برغبته بالاستقالة على وجه السرعة، علها تسمح بمجيء من يساهم بمعالجة الازمة الاقتصادية - المالية. وفور عودته من زيارته لرئيس الجمهورية، اختلى الرئيس كرامي لبعض الوقت بالوزيرين دلول والامين، وتداول معهما في طبيعة كتاب الاستقالة الذي سيذيعه على اللبنانيين. وفي نهاية المداولات، اقر الرأي بأن يصارح اللبنانيين في كل شيء، تحت ستار انه لا يجوز ان يخرج وكأنه المسؤول الوحيد، فيما كان يتحدث قبل الاستقالة عن وجود مؤامرة تستهدف البلد وتأخذ من الأزمة الاقتصادية مظلة لاخفاء الاسباب السياسية. ويقول وزير سابق مقرب من الرئيس كرامي، ان الاخير ذهب ضحية الصراع المفتوح بين رئيس الجمهورية والحكومة والمناكفات التي لم تتوقف بين الوزراء الذين كانوا وراء إعاقة تنفيذ مهام الحكومة. ويتفق الرئيس كرامي على هذا الصعيد، مع رأي دمشق التي نقلت الى زوارها بأن المشكلة لم تكن على الاطلاق في شخص رئيس الحكومة، وانما في استمرار النزاعات بين السلطتين التشريعية والاجرائية، وان ابن عبدالحميد كرامي لم يكن الا ضحية، حتى ان كبار المسؤولين السوريين تحدثوا بلهجة فيها الكثير من العتب على الرئيسين الهراوي والحسيني وبدرجة اقل عن الرئيس كرامي، من دون ان يغفلوا الدور السلبي الذي لعبه عدد من الوزراء الذين يصنفون على خانة التحالف مع سورية. وكان تقدير المسؤولين السوريين، ان الكلام عن وجود مؤامرة قد يكون في محله، انما المؤامرة لم تأت من الخارج لتلعب الدور "المميز" في ترحيل الحكومة لو لم تتوفر لها الظروف من قبل "أهل البيت" الذين يتحدثون وكأنهم ينوبون عن دمشق في تقرير كل شيء. والكلام الذي تتجنب دمشق الحديث عنه او الدخول في تفاصيله، تسمعه عن لسان مقربين من الرئيس كرامي الذين يقولون ان الحكومة ذهبت بسبب عنادها في المواقف الاقليمية، لا سيما ان وفد السوق الاوروبية المشتركة كان ابلغ الدولة صراحة ان هناك مساعدات مالية كبيرة تنتظر لبنان وهي موضوعة في مغلف على طاولة المحادثات المتعددة الاطراف وبمقدوره الحصول عليها فور اتخاذه قرار الذهاب الى المتعددة. وتضيف اوساط كرامي: صحيح ان هناك مؤامرة على لبنان تقضي بحجب المساعدات عنه ما لم يشارك في المتعددة ويقوم بضبط العمليات في الجنوب، لكن المؤامرة تبقى عاجزة عن تحقيق اغراضها اذا تحصنت الحكومة بوفاق سياسي يحميها في الداخل من كل الضغوط الخارجية. وتتساءل الاوساط اياها: صحيح ان هناك مؤامرة، لكن هذه المؤامرة لم تفعل فعلها من دون ان تساندها "غرفة سوداء" كانت وراء السعر المنفوخ للدولار، حسب اعتراف كل الخبراء الاقتصاديين الذين رأوا ان سعر الدولار لم يكن الا سعراً سياسياً. وتحمل الأوساط الكرامية على بعض المسؤولين وتغمز من قناة السلطة المالية لمصرف لبنان، لكنها تحمل ايضاً على حلفاء رئيس الحكومة، لاعتقادها ان من حال دون اصدار التعيينات الادارية واعادة تنظيم الاعلام، كان احد شركاء المؤامرة. وتخلص الاوساط الكرامية بقولها ان الرئيس كرامي وقع بين شاقوفين، وتقصد بهما الهراوي والحسيني، وانه حاول مراراً وتكراراً اصلاح ذات البين، لكنه عجز واخذ يعاني من انعدام التضامن والانسجام داخل الحكومة من جهة وبين رئيسي الجمهورية ومجلس النواب من جهة ثانية. ويبقى السؤال المطروح كيف اختير رشيد الصلح رئيساً وما دور واشنطن ازاء كل ما حصل؟ يجيب على هذا السؤال وزير سابق بقوله ان الرئيس الصلح نجح في طبخ مجيئه في اتصالاته بالرئيسين الهراوي والحسيني، فكلاهما يعتقد ان له الدور الاول في وصوله الى رئاسة الحكومة، الا ان مجيء الرئيس الصلح سببه تعدد المرشحين الذين ساهموا بالغاء بعضهم البعض، اضافة الى ان دمشق لا تعارض التعاون معه، وكان زارها اثناء وجود الرئيس الهراوي هناك وعاد منها وهو يحمل لقب دولة الرئيس للمرة الثانية. وجدير ذكره ان الصلح كان ترأس الحكومة للمرة الاولى عام 1974، واستقال مع اندلاع الحرب الاهلية في نيسان ابريل 1975. وهناك من يسأل هل سينجح في اسدال الستار على آخر حلقة من حلقات الحرب اللبنانية. واذا كان من السابق لأوانه الاجابة على هذا السؤال فان الصلح الذي يعتبر نفسه انه ليس على خصام مع احد، يتطلع الى استقدام وفاق اقليمي ودولي يحميه، بحيث ينجح في تقطيع المشاكل بانتظار الانتقال الى مرحلة توفير الحلول لأزمة الشرق الاوسط. اما بخصوص الموقف الاميركي فهناك من يقول ان واشنطن تفضل ألا تتدخل في التفاصيل اللبنانية لئلا تغرق في الرمال المتحركة، واذا كان لها من مآخذ على الحكومة السابقة فان المآخذ تتناول الأداء السياسي، وعدم قدرة الحكومة على معالجة الفساد، لكنها في المقابل تنصح بالبحث عن صيغة متوازنة لا تشعر الفريق المسيحي بالقهر وكذلك تحبذ التعاون مع دمشق من دون تمكينها من السيطرة على القرار. والشيء الوحيد الذي يهم واشنطن هو عودة الاستقرار بسرعة الى لبنان بحيث لا تعطي حجة لتعطيل تنفيذ اعادة انتشار القوات السورية في ايلول سبتمبر المقبل من خلال وقوع لبنان في فراغ دستوري ينقل البلاد من مشكلة تعذر قيام حكومة الى ازمة حكم. لذلك فان واشنطن تدعم قيام حكومة جديدة وتراهن من خلالها على اعادة انتشار القوات السورية، حتى انها لا تمانع باجراء الانتخابات النيابية شرط ان تحصل على وعد مسبق بأن الانكفاء السوري سيتم في موعده الى منطقة البقاع. ولا تشترط واشنطن سوى توفير الظروف الامنية والسياسية بحيث لا يشعر الفريق الاكبر من المسيحيين بحالة من القهر من جراء فرض تقسيم اداري او اقرار قانون جديد للانتخابات لا يقبل به. ويبقى السؤال المطروح: هل ستأخذ الحكومة الصلحية على عاتقها تقطيع الوقت وحصر اهتمامها باعادة الصدقية الى الوضع الاقتصادي والمالي والتحضير للانتخابات بحيث يأتي من يخلفها قبل ان يحين موعد تنفيذ اعادة انتشار القوات السورية؟ وعلى أمل ان تصمد الحكومة الصلحية في وجه الازمة الاقتصادية، فان احد الوزراء الجدد يقول ل "الوسط": "انني اخشى من حصول 6 ايار مايو جديدة، اذا لم نوفر العلاج للمشاكل المالية والمعيشية وعندها لا تذهب الحكومة الجديدة ضحية ما سيحصل بل ربما سيذهب النظام برمته، لذلك علينا ان نعد العدة منذ الآن لمواجهة الخطر الذي يتهددنا ولا اعتقد ان الرئيس الهراوي، على خلاف ما يتردد في الصالونات السياسية ينوي الدخول في نزاع مع دمشق وهو القائل امامنا انا لست من انصار الدعوة الى تشكيل اقلية معطلة في الحكومة الجديدة... ويتوقع بعض المراقبين ان ترد دمشق على الصدمة، بتشديد القبضة على حلفائها، والطلب اليهم بالانضباط والالتحاق بجلسات مجلس الوزراء، وعدم تكرار ما قاموا به في السابق.