ما من مجال في الحياة الا ونجده في التراث العربي. ومنذ سنوات جمع واحد من شيوخ المحققين المرحوم عبدالسلام هارون، مجموعة من المخطوطات النادرة، حققها وعلق عليها ونشرها في مجلدين كبيرين، سنتوقف امام عدد منها. من أغرب المخطوطات التي تضمها المجموعة كتاب صغير عن عدد من مشاهير الشعراء نُسبوا الى أمهاتهم. الطريف ان المؤلف نفسه مجهول الأب. هو محمد بن حبيب، حبيب أمه. قال ياقوت عنه في "معجم الأدباء" انه من علماء بغداد باللغة والشعر والاخبار والانساب، ثقة مؤدب، ولا يعرف أبوه، له مصنفات أشهرها نقائض جرير والفرزدق، توفي في سامراء سنة 425 هجرية. فماذا نجد في هذا الكتاب الغريب؟ أول الشعراء الذين نطالع أخبارهم ابن شعوب امه شعوب من بني خزاعة وهو الذي يقول: ماذا بالقليب قليب بدر من القينات والشرب الكرام وماذا بالقليب قليب بدر من الشيزي تكلل بالسنام تحيي بالسلامة أم بكر ومالي بعد قومي من سلام كان ابن شعوب جاهلياً، كافراً، ثم أسلم. أما عطاف بن بشه الشيباني فقال يخاطب خاله: عدي بن ضب من تكن أنت خاله أخا أمه قد لج بلوم ركائبه وقال: وطالب وتر قد أتى الليل دونه وما سبق وتر أدرك اليوم أو غدا وقال ايضاً: أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ولم يخزه عند الوفاة بلائيا نلاحظ في شعر ابن شعوب ذكره لخاله، ومرارته في البيت الاخير، وشعوره بغياب الأب غياباً تاماً، فلا هو موجود في حياته أو عند مماته. حفيد امرئ القيس أما قطبة الذبعوي فتنحدر أمه من نسل امرئ القيس، ومن شعره: حميت القوم قد علمت معدّ ومن للقوم من مولى وجاد حبوت بها قضاعة إنّ مثلي حقيق أن يذبّ عن الذمار ولست كمن يغمز جانباه كغمز التين تجنيه الجواري وكان قطبة سيد قومه - قضاعة - في الجاهلية والاسلام. وهناك قيس بن الحدادية الحدادية هي أمه الذي كان شاعراً صعلوكاً خليعاً، تبرأت منه قبيلته خزاعة في سوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجدها احد عليه. وردت ترجمته في "الأغاني" للأصفهاني. أما الشاعر عياض بن أم شهة الخزاعي. فكان مسلماً. ويورد ابن حبيب له بيتاً رقيقاً: هاجتك أطلال ومبترك قفر خلا منذ أجلا أهلها حجج عشر والشاعر ابن السجراء من جهينة، وهي من القبائل العربية الكبرى، حاربت تحت لواء الرسول عليه الصلاة والسلام، وشاركت في فتح مصر، وهناك منطقة كبيرة في سوهاج باسمها الآن، والى جهينة ينتمي كاتب هذه السطور. قال ابن السجراء في "يوم دارة" من أيام العرب أي من حروبهم: لما أتانا جمع قيس وواجهت كتائب خرس بينهن زفيف فلما علت دعوى خميس بن عامر وقد كلّ مولانا وكاد يحيف هممنا به ثم ارعوينا حفيظة فذلّ بنا غاش وعزّ حليف ويرد في المخطوطة أيضاً اسم ابن الدمينة وهو شاعر مشهور وله ديوان مطبوع. الأم أشهر ليس بالضرورة أن يكون الشاعر مجهول الاب حتى ينسب الى أمه، ولكن احياناً تقع حادثة معينة، أو تكون الام أشهر من الاب، عندئذ ينسب الشاعر الى امه، ومن هؤلاء يزيد بن ضبة، أمه ضبة، وأبوه اسمه مقسم، كان غزير الشعر، ومن شعره: مشى البريء مع المقارف تهمة ويرى البريء مع السقيم فيلطخ ويقول ايضاً: صباپقلبي إلى هند وهند مثلهاپيصبي ومنهم الشاعر ابن الذيبة، والذيبة أمه، كانت من قوم اسمهم "فهم"، واسمه "ربيعة بن عبد ياليل"، ويورد المؤلف بيتاً من الشعر يفخر فيه بأمه. يقول: إني لمن أنكرني ابن الذيبة كريمة عفيفة منسوبة أما شبيب بن البوصاء فكان معروف الأب ولكنه نسب الى امه، فهو شبيب بن زيد بن جمرة بن عوف بن أبي حارثة، وهو القائل: لا خير في العيدان إلا صلابها ولا ناهضات الطير إلا صقورها تبين أدبار الأمور إذا انقضت وتقبل أشباها عليك صدورها أما ابن ميادة فشاعر مشهور له ديوان مطبوع ومحقق بواسطة المجمع اللغوي في دمشق. وأما قعنب بن أم صاحب الفزاري، فهو شاعر أموي عاش في زمن الوليد بن عبدالملك، ومن رقيق شعره قوله: لو كنت أعجب من شيء لأعجبني سعي الفتى وهو مخبوء له القدر تسعة وثلاثون شاعراً أورد ابن حبيب سِيرهم باختصار وذكر نماذج من أشعارهم، منهم الجاهلي ومنهم الاسلامي، ولا يجمع بينهم الا نسبتهم الى أمهاتهم، ولكن لنذكر ان الدافع الى تأليف هذا الكتاب الغريب، هو وضع صاحبه نفسه، وهو من اكبر رواة الشعر العربي ونقّاده القدامى، ويكفي شرحه لجرير، هذا الشرح الذي أصبح ملازماً لديوان جرير. لقد كان ابن حبيب نفسه ينسب الى أمه.