من الذي سيرث امبراطورية موسكو في آسيا الوسطى؟ أصبح مستقبل الجمهوريات الاسلامية الست الحديثة العهد بالاستقلال الواقعة الى الطرف الجنوبي من روسيا من أهم المواضيع التي تحظى باهتمام استراتيجيي الجغرافيا السياسية الآن. فالغرب يخشى ان تصبح تلك المنطقة مرتعاً للاضطرابات والمنافسة الخارجية والصراعات العرقية الداخلية المريرة، وأرضية مثالية للاصولية الاسلامية، مما يعني اتساع منطقة الاضطراب من الشرق الاوسط حتى الصين. فقبل عامين، أي حتى الانقلاب الفاشل ضد ميخائيل غورباتشوف في آب اغسطس عام 1991 والذي مهد لتفكك الاتحاد السوفياتي، كانت آسيا الوسطى منطقة نائية شبه مجهولة ومعزولة عن بقية أنحاء العالم. أما اليوم فقد انهارت الحواجز، ونشأت رابطة مهزوزة بين دول الاتحاد السوفياتي القديم. وأعلنت الجمهوريات الاسلامية الست استقلالها. خمس منها في آسيا الوسطى وهي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان وكيرغيزيا والسادسة اذربيجان تقع ما وراء القوقاز. وبدأ الزوار الاجانب يتدفقون على عواصمها مثل طشقند وألماأتا وباكو ودوشانبيه بحثاً عن التجارة وفرص الاستثمار ولتعزيز الروابط الدينية وضمان النفوذ السياسي. فهل ستكون الغلبة لتركيا على ايران؟ وهل هناك مجال للنفوذ العربي؟ ثم ما الذي تفعله اسرائيل؟ وفي أي فلك ستدور الجمهوريات الست؟ وهل سنشهد صحوة الأصولية الاسلامية فيها بعد سبعين عاماً من الحكم الشيوعي؟ وهل حدود هذه الدول ثابتة أم أنها مضطربة، مما يعني أننا سنشهد عملية دموية لاعادة رسم تلك الحدود؟ الدور الروسي هذه هي بعض الأسئلة التي يرددها الديبلوماسيون والمحللون السياسيون وهم يراقبون تطورات الأوضاع في آسيا الوسطى. لمحاولة معرفة الأجوبة تحدثت إلى أحد كبار المستشرقين الروس، وهو الدكتور فيتالي نعومكن الذي كان سابقاً نائب مدير المعهد الشرقي في أكاديمية العلوم في موسكو ويتولى الآن رئاسة المعهد الروسي الجديد للدراسات الاستراتيجية. يقول نعومكن ان هناك نظاماً جديداً يصارع من اجل الظهور، لأن احداً لا يستطيع القول اذا كانت اسرة الدول المستقلة ستدوم أم لا. إذ يمكن أن تتحول الى اتحاد مهلهل أو قوي، أو ربما تنهار كلياً. فهذا أمر سيكشفه لنا المستقبل. فالجمهوريات الاسلامية الست، التي تشكل العالم الاسلامي الجديد، حصلت على استقلالها بسرعة تفوق ما كان متوقعاً. ولهذا لم تكن جاهزة لاستقبال الاستثمارات الخارجية، كما انها كانت لا تزال غارقة في النزاعات الداخلية. الا أن الأمر الذي لا يزال كنهاً غامضاً هو روسيا نفسها. فروسيا لم تحدد بعد هويتها بوضوح أو مكانتها في العالم. ولكن الشيء المؤكد هو أن روسيا لا تستطيع ان تقوم بالدور نفسه الذي قام به الاتحاد السوفياتي في العالم. وقال لي نعومكن أن مسألة هوية روسيا موضع نقاش محتدم الآن في موسكو. فبعض الخبراء المختصين يريدون لروسيا ان تكون دولة أوروبية بحتة، بينما يرى آخرون أنها دولة أوروبية - آسيوية تمثل جسراً بين الشرق والغرب. وهناك مجموعة أخرى لا تزال تعتقد أن على روسيا أن تسعى الى إرساء علاقة خاصة مع العالم الاسلامي، لا سيما وأن هناك ست جمهوريات اسلامية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تحدها جنوباً. ويبدو أن "أزمة الهوية" هذه في بلاد تبلغ مساحتها ضعف مساحة الولاياتالمتحدة الاميركية هي أكبر وأخطر مجهول. ويقول نعومكن ان ما هو في حكم المؤكد ان روسيا لن تستطيع لعب الدور نفسه الذي لعبه الاتحاد السوفياتي القديم على الصعيد العالمي. إذ لا تزال تفتقر الى الرؤيا الاستراتيجية الواضحة لحدودها الجديدة. ولا يعرف أحد كيف سيعمل جهازها الديبلوماسي، وكيف سيوزع ديبلوماسيوها وبعثاتها في الخارج على الجمهوريات المختلفة. أما في الوقت الراهن فان روسيا تركز اهتمامها على العلاقات مع الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية واليابان، الى درجة انها أدارت ظهرها تقريباً للشرق الأوسط. فنظراً الى أنها شارفت على الانهيار الاقتصادي، ونظراً الى كثرة الصراعات الداخلية فيها، لم يكن لديها رغبة في الانهماك في نزاعات الشعوب الاخرى، كالصراع العربي - الاسرائيلي. واليوم تجد روسيا نفسها في مواجهة واحدة من أصعب المشكلات، ألا وهي مصير ملايين الروس الذين يعيشون في آسيا الوسطى. فخلال العهود القيصرية والشيوعية كان أولئك الروس يعتبرون انفسهم سادة في تلك البلدان، مثلما كان الانكليز في الهند والفرنسيون في الجزائر. فقد كان أولئك الروس مستعمرين يستغلون المواد الخام في آسيا الوسطى لصالح روسيا. أما الآن فمن الواضح انهم فقدوا امتيازاتهم ويواجهون خطر الطرد. الا ان روسيا التي تواجه خطر الانهيار الاقتصادي الآن لا تستطيع اعادتهم اليها. ونظراً الى ان روسيا تريد حماية الروس السلاف فيما وراء حدودها فانها لا تريد كتلة اسلامية قوية على حدودها الجنوبية. ولهذا فهي تفضل بقاء الجمهوريات الاسلامية منفصلة، وتحبذ أن تظل معتمدة اقتصادياً عليها. كذلك تشعر روسيا بقلق من انتشار المشاعر القومية التركية، لا سيما في كازاخستان حيث يعيش الملايين من الروس. تحرك ايران المتنافسون الرئيسيون على اكتساب النفوذ في آسيا الوسطى هم: تركيا وإيران واسرائيل، ومن الجانب العربي المملكة العربية السعودية. ويبدو أن تركيا تتفوق على الدول غير العربية نظراً الى ان شعوباً تركية تقطن تلك الجمهوريات، وهي تتكلم لهجات من اللغة التركية باستثناء طاجيكستان التي تتفرع لغتها عن الفارسية. وتركيا هي أول دولة تقيم صلات مباشرة مع جميع الجمهوريات الجديدة، مما فتح بابا جديدا للأتراك على تلك المنطقة وأنهى عزلة تركيا الديبلوماسية، وخفف من تأجيل المجموعة الأوروبية النظر في طلبها الانضمام اليها. كذلك كانت علاقات تركيا مع اليونان سيئة، مثلما تردت علاقاتها مع بلغاريا. ولم تكن علاقاتها مع سورية وبقية العالم العربي على تلك الدرجة من الدفء. ولهذا فان انفتاح أبواب آسيا الوسطى أمامها كان باعثاً على الارتياح الكبير. ومن الواضح أن أنقرة تفضل أن ترى نشوء نوع من الوحدة بين الجمهوريات الاسلامية الست لأن هذا يعطي تركيا وزناً اعظم في الشؤون الدولية. وهناك بعض القوميين الاتراك الذين ينادون باقامة كومنولث تركي يربط تركيا مع تلك الجمهوريات ويضم أكثر من مئة مليون نسمة. ولكن حتى لو لم تتحقق تلك المطامح فان تركيا لا تزال تعتبر الشريك الطبيعي لآسيا الوسطى لأنها تعطي نموذجاً علمانياً ديموقراطياً واقتصاداً حراً على النمط الغربي يمكن للجمهوريات الآسيوية ان تحذو حذوه. على النقيض من ذلك تبذل ايران كل ما في وسعها لتشجيع "الصحوة الاسلامية" في تلك الجمهوريات، كما يبدو انها تولي اهتماماً خاصاً لجمهورية طاجيكستان التي تعتبر أقوى مرشحة لتصبح دولة اسلامية. ومع أن الحركة الاسلامية في طاجيكستان غير شيعية حزب النهضة الاسلامية فانها موالية لايران وهي أقوى الحركات الاسلامية في جمهوريات آسيا الوسطى. وتشكل هذه الحركة تحدياً مكشوفاً للنخبة الحاكمة من الشيوعيين السابقين. كما ان الطاجيك قلقون من تعاظم النفوذ التركي من حولهم. يضاف الى ذلك أن الانتصارات التي حققها الطاجيك في أفغانستان بقيادة أحمد شاه مسعود عزز من ثقة اهالي طاجيكستان. لكن على ايران ان تلتزم الحذر الشديد في تحركاتها لكي لا تثير المشاعر القومية العرقية في الامبراطورية السوفياتية السابقة. وإيران تخشى القومية الاذربيجانية بشكل خاص، لأن "أذربيجان الكبرى" التي ينادي بها بعض القوميين الأذربيجانيين ربما تجد هوى وقبولاً لدى الأذربيجانيينالايرانيين الذين يبلغ عددهم عشرة ملايين نسمة. وفي هذا ما يعني المجازفة بتفكيك ايران نفسها. حلف تركي - اسرائيلي يولي الديبلوماسيون الغربيون في معرض دراستهم النزعات المختلفة في آسيا الوسطى، اهتماماً خاصاً لما يوصف بأنه "تحالف إقليمي" بين اسرائيل وتركيا يمكن أن يغير الصورة السياسية في المنطقة. اذ ان انهيار الاتحاد السوفياتي زاد من قوة العلاقات بين تركيا واسرائيل. ويقال ان هذه العلاقة الخاصة تحظى بمباركة واشنطن على أساس أنها تمثل قوة موازنة لتصاعد النزعات الاصولية في هذه الجمهوريات. ولأنقرة وتل أبيب مصالح قوية في تسيير الأحداث تبعاً لهواهما في المنطقتين: آسيا الوسطى والعالم العربي - وتولي اسرائيل أهمية خاصة لعلاقتها مع تركيا لأنها الفرع الوحيد الباقي من فروع العلاقة الاستراتيجية التي بناها ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء اسرائيلي، بين اسرائيل والدول الأخرى المحيطة بالعالم العربي وفي مقدمتها إيران وأثيوبيا، من أجل تطويق العرب وتحييدهم. وأطلق على هذه الاستراتيجية اسم "استراتيجية الدول المتاخمة للمنطقة العربية". وجاءت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 والتطورات الأخرى في العراق والشرق الأوسط فأعطتا بن غوريون فرصة العمر "لبيع" استراتيجيته الى الولاياتالمتحدة. اذ انه رسم صورة تثير الذعر عن عبدالناصر والشيوعية السوفياتية وأثرهما في اخضاع الشرق الاوسط وافريقيا بكاملهما، في مذكرة سرية ارسلها الى الرئيس الأميركي ايزنهاور. ولمواجهة هذا الخطر اقترح تأييد أميركا لتحالف بين اسرائيل وإيران وتركيا واثيوبيا بهدف "اقامة سد قوي منيع في وجه المدّ الناصري - السوفياتي". ونالت الفكرة اعجاب ايزنهاور ووزير خارجيته جون فوستر دالس فأعطيا بن غوريون الضوء الأخضر للمضي قدماً في تلك الاستراتيجية. واستناداً الى الدعم العسكري والمالي الأميركي بدأت اسرائيل العمل بجدية على تنفيذ هذه الاستراتيجية في الخمسينات والستينات وطورت علاقات سرية مع ايران وتركيا واثيوبيا. وظلت استراتيجية "التخوم" هذه أحد الأسس الرئيسية للسياسة الاسرائيلية، حتى بعد الاطاحة بحليفيها الرئيسيين: شاه ايران وامبراطور اثيوبيا هيلاسيلاسي. ولهذا واصلت اسرائيل ارسال الاسلحة الى ايران حتى بعد سقوط الشاه اذ أرسلت اسلحة بقيمة مئات الملايين من الدولارات الى ايران الخميني خلال الحرب العراقية - الايرانية، على أمل المحافظة والابقاء على التحالف السياسي والعسكري السري الذي أقامته مع شاه ايران. وبالمثل ظلت اسرائيل على علاقات جيدة مع اثيوبيا في عهد منغستو لكي تنقل آلاف اليهود الفلاشا. واليوم تظل علاقات اسرائيل مع تركيا أهم عنصر في تلك الاستراتيجية. أهداف التحالف الأهداف الأساسية للتحالف، تبعاً لما يقوله الديبلوماسيون الغربيون هي الآتية: إحتواء سورية وإضعافها في الدرجة الأولى. إذ ان اسرائيل ترى في سورية على رغم مفاوضات السلام، عدوها الرئيسي، كما ان تركيا تنظر الى سورية بارتياب دائم. ويقول الديبلوماسيون ان ضغط اللوبي الاسرائيلي واللوبي التركي في واشنطن هو الذي أبقى اسم سورية على قائمة وزارة الخارجية المتضمنة اسماء الدول التي تؤيد الارهاب. ولكل من تركيا واسرائيل مصلحة في تقويض أي تحسن في العلاقات السورية - الاميركية مثلما حصل أثناء أزمة الخليج وبعدها. وهناك هدف تركي - اسرائيلي مشترك آخر وهو زعزعة التحالف الايراني - السوري، لأن أنقرة وتل أبيب تعتبرانه خطراً على مصالحهما. فاسرائيل ترى في المحور السوري - الايراني، عقب تدمير العراق، التحدي العسكري الوحيد الباقي أمامها في المنطقة، بينما ترى فيه تركيا الحاجز الذي يحول دون توسيع نفوذها في العالم العربي. وهناك هدف ثالث تشترك فيه اسرائيل وتركيا وهو منع ظهور نظام موال لسورية في العراق في حالة سقوط صدام حسين. كما ان اسرائيل وتركيا تراقبان عن كثب أية تحركات قد تدل على ظهور تحسن في العلاقات العراقية - السورية. فمثلما يستحوذ هاجس "الجبهة الشرقية" على اسرائيل تشعر تركيا بالقلق من امكانية أي توافق بين سورية والعراق. الهدف الرابع المشترك هو منع الجمهوريات الاسلامية في آسيا الوسطى من الوقوف الى جانب العرب في صراعهم ضد اسرائيل، أو الوقوف الى جانب ايران ضد تركيا. ويرى المراقبون أن هناك هدفاً خامساً هو أهم تلك الأهداف المشتركة ألا وهو منع وصول الأسلحة النووية من آسيا الوسطى الى ايران أو الدول العربية. ولهذا نجد ان اسرائيل تساعد على الترويج للنفود التركي في آسيا الوسطى كوسيلة لمنع انتشار نفوذ كل من ايران والمملكة العربية السعودية. والواقع ان اسرائيل وأصدقاءها يضغطون بقوة نيابة عن تركيا في الولاياتالمتحدة والعواصم الأوروبية. كذلك تمارس اسرائيل ضغوطاً ديبلوماسية وتجارية كبرى لكي تكسب الأصدقاء لنفسها في آسيا الوسطى. فقد أقامت علاقات رسمية مع كازاخستان وأوزبكستان وأذربيجان وكيرغيزيا وطاجيكستان، كما انها تنهمك في جهود حثيثة لبيع خبراتها الزراعية والالكترونية والعسكرية الى تلك الجمهوريات. ومثلما كان الحال عليه في الخمسينات والستينات فان الحجة التي تطرحها اسرائيل في واشنطن هي ان اسرائيل وتركيا "تساعدان على إرساء الاستقرار في منطقة مضطربة تمتد من القرن الافريقي حتى آسيا الوسطى". والهدف من هذه الاستراتيجية هو ضمان تدفق المساعدات الأميركية، مع الابقاء على عزلة العرب وإيران والعمل على احتوائهم. مع ظهور الجمهوريات الاسلامية الست بدأ الاهتمام يتسلط ثانية على السياسات الاسلامية. ففي الخمسينات وفي عهد جمال عبدالناصر كانت مصر مركز جاذبية المنطقة برمتها، ومحط اهتمامها. الا أن مركز الاهتمام انتقل الآن شمالاً الى ايران وتركيا وأفغانستان. وبعد أن كانت هذه الدول على حافة العالم الاسلامي أصبحت الآن في مركز الاهتمام الاسلامي. وبينما كان جوهر النظام الاسلامي السائد عربياً، نجد أن هذا النظام اتسع الآن ليشمل القوقاز وآسيا الوسطى، مما يعني أن طشقند وألماأتا وغيرهما من مدن آسيا الوسطى ستصبح جزءاً من ذلك النظام بقدر ما هي القاهرة والخرطوم. وما لم توحد الدول العربية صفوفها وترأب ما بينها من صدوع فانها تواجه خطر تخلفها وراء الوافدين الجدد على النظام. ومن المحتمل عندئذ أن يكون النظام الجديد للشرق الأوسط الموسع أقل عروبة مما هو عليه الآن. * كاتب وخبير بريطاني بارز في شؤون الشرق الأوسط.