منذ 30 عاماً كان أحد"شيبان"الأحساء كبار السن في الشرق السعودي يُردد في المجالس"الكويت مُنتظمة"، وكان يُعلق على حركة التطور المدني العمراني في السبعينات وتنظيم البنية التحتية حينها، التي كانت تتجاوز حواضر الخليج العربي بمراحل، وكان أيضاً صدى هذا التقدم يحضر في الخليج في حركة التعبير السياسي، وأفق إقرار الدستور كوثيقة شراكة شعبية بين الحكم وأهل الكويت، أقرت باكراً أن التعبير السياسي حقٌ دستوري وليس منحة خاصة. ولذا، كان حضور الكويت في الوجدان الثقافي الخليجي قوي ومتفاعل، وهو يرقب دورات الانتخابات بخاصة القديمة واختيار الشعب ممثليه، وفي القسم الأول أي التنظيم المدني والفني للقمة كان ذلك بارزاً، وكانت الكويت مُنتظمة كما عهدها أصدقاؤها وأشقاؤها، لا كرم ضيافة فحسب، بل تنسيق برنامج المؤتمر مع المدعوين بكل دقة، ولكن كانت هناك أزمة سياسية عاصفة كادت تعصف بالقمة، حين أعلن السيد يوسف بن علوي الوزير العماني المخضرم موقف عُمان المهدد بالانسحاب من مجلس التعاون في حال إقرار الاتحاد الخليجي ورسائل الرد السعودية المتعددة على الموقف. إلى هذا الحد، فإن الكويت كانت في وضع حرج للغاية، خشية فشل القمة أو تعثرها بانسحاب أحد وفودها أو تحولها إلى محطة تصعيد كبيرة في الخلاف الذي طُمر ولم يُعالج، ومعالجته المركزية ليس مسؤولية فردية للكويت. وبالتالي، فإن الكويت نجحت في تمرير القمة، وعبرت المأزق، وكان حضور الاتحاد من دون أن يُنطق واضحاً كبيانات رسمية مع الامتناع عن تدشينه الذي لا تعارضه عمان وحدها، بل يشاركها فيه ربما دولتان أُخريان. لكن كان للكويت وجهة أخرى لها علاقة بحركة النشاط السياسي في الكويت وبين الموقف من مشاريع الوحدة الخليجية، فكان واضحاً أن هناك صوتاً إعلامياً قوياً ومتصاعداً يتناغم مع مد الجسور مع إيران التي لها علاقة بتأزم العلاقة السياسية بين الحكومة الكويتية والمعارضة، إذ يُرصد حضور ذلك الصوت الداعم للعلاقة مع إيران وكشف ظهر الثورة السورية، وهو موقف ترفضه المعارضة الكويتية في ذات الوقت الذي تؤمن فيه بمجملها بالاتحاد الكونفيديرالي الخليجي، شريطة أن لا يمس الحقوق الدستورية للشعب الكويتي، ولا تُستخدم الاتفاقات الأمنية ضد الحراك السياسي الحقوقي، ولا تتدخل فيه. ولكن مع كل هذا التحفظ، فإن القوى الرئيسة في المعارضة من التكتل الشعبي إلى الحركة الدستورية والسلفية العلمية والمستقلين اليساريين والليبراليين، لهم مواقف صارمة من"التغول"الإيراني وحربه الشرسة على الشعب السوري والمدنيين في العراق، فضلاً عن التدخل المخملي الملمس والعنيف التأثير في توجيه الثقافة الطائفية نحو تغيير الواقع الفكري والسياسي، لمصلحة الجمهورية الإيرانية في المنطقة العربية وبخاصة في الخليج. والخلاف السياسي مع الحكومة على مساحة التمثيل الشعبي والحكومة المنتخبة التي طرحتها المعارضة، ربما جعل هذا الموقف دافعاً لتركيبة تعاطي سياسي رسمي يتوجه إلى مساحة أخرى، يوجد فيها أنصار التعاون مع إيران، ومنهم معارضون راديكاليون من اليسار الكويتي القديم، لم يعد لهم التزام فكري بالضرورة، وهم اليوم مؤيدون بالمطلق للتوجهات الحكومية وإلى خلق تحالف لبيئة إعلامية تتناغم مع التقارب مع إيران أكثر من الاتحاد الخليجي. ففي صفحات عدد من الصحف كما هو التلفزيون الرسمي، كان التأكيد على عدم واقعية مشروع الاتحاد وأنه يتكرر كثيراً باكراً، وفي صدر صفحتها الأولى أشارت الوطن الإثنين قبيل المؤتمر إلى مقابلة مع الخبير الاستراتيجي اللواء صابر السويدان، وفي داخلها سخر من مخاطر التهديد التي قد تنشأ من التوافق الأميركي - الإيراني، وأن رسالة وزير الخارجية الإيراني ظريفة لدول الخليج، وكانت إيجابية وجادة، ودلالة على ذلك أنها حظيت بتأييد معنوي، بعثه المرشد خامنئي للمنطقة! وهذا غريب من حيث قراءة توجهات إيران، بناءً على تطمينات المرشد الإيراني لا نشاط المخابرات الإيرانية في دول الخليج العربي، ولا تجاربها السابقة معها، فضلاً عن أن هذا الحديث يُسقط كلياً هيمنة إيران التوسعية الدموية في سورية والعراق، وحديث اللواء السويدان لا يكفي أن يُبنى عليه التقييم النهائي، لكن تصديره وتوافق عدد من التغطيات بخلاف صحيفة الجريدة مع هذا الطرح، يجعل هذا التوجه مرصوداً بوضوح نحو التقارب مع إيران، وكدلالة على تأثّر العلاقات السياسية الداخلية في هذا الملف، ففي ذات العدد شنّ النائب فيصل الدويسان هجوماً عنيفاً على إخوان الكويت الذين نعتهم بحلفاء الصهاينة وأتباعهم لوسائطهم، في حين يعرف الكويتي والخليجي المقرب من الشأن الكويتي أن هناك علاقة بين المجتمع السياسي الكويتي وأسرة الحكم، ومنها الإسلاميون لم يعرف أنها تصل إلى هذه اللغة المتطرفة والشاذة التي تنعت الراحل بوبدر المطوع وتلاميذه وشخصيات الإسلاميين الكويتية بحلفاء للصهاينة على صفحات شبه رسمية، بسبب تحالف الحركة الدستورية مع التكتل الشعبي. هذه الزاوية تبدو داخلية بحتة، لكن يتضح أن لها علاقة مؤثرة في البناء الخليجي الموحد وموقف كل ركن منها، وهو يُشير مجدداً إلى إشكالية في كل دول المجلس وليس الكويت وحدها التي تبدو أفضل حالاً من البعض في العلاقات بين الإصلاحيين الوطنيين ومساحة الجسور مع أروقة الحكم التي باتت مقطوعة، وهي ركيزة مهمة يحتاجها مشروع الاتحاد الخليجي قبل أي وقتٍ مضى، لإزالة الاحتقانات ومعالجة الملف الحقوقي، وبدء برنامج عمل لحوار وطني إصلاحي. من هذه النقطة يبرز لنا التساؤل الكبير بين ما أفرزته القمة من بيان، كما جرى في القمم التي قبلها وإعلان الكويت على رغم وجود بنود إيجابية، وبين واقع السياسات التي تختطها كل دولة في مجلس التعاون، للتعامل مع الملف الحاضر والخطر، وهو الحضور الأميركي - الإيراني ببرنامج مشترك يتعلق بالصفقة المزدوجة التي لا مكان لدول الخليج العربي فيها، وحسمت إيران ذلك برد حاسم على مقترح تم تداوله منسوباً إلى قطر، ونفى الشيخ صباح الخالد وزير الخارجية الكويتي الرغبة الجماعية لذلك في المؤتمر الصحافي في ختام القمة. وفي ذات المؤتمر، سألتُ الوزير عن الخطوات المتوقعة لتصحيح المسار مع تركيا بعد توتر، جراء الحملة الإعلامية التي تعرضت لها ورئيس وزرائها أردوغان من وسائل إعلامية خليجية. وبالتالي، فقدان حليف استراتيجي مهم ليس له تجارب مُرّة مع دول الخليج كإيران. وبالبراغماتية الصرفة يُشكل حضوره توازناً استراتيجياً مهماً، فأجاب بوجود غرف لقاءات استراتيجية وشراكة اقتصادية مستمرة، ولم يُشر إلى الأزمة الأخيرة، وفي سؤال للكاتب للأمين العام الدكتور عبداللطيف الزياني عن علاقة ما تضمنه البيان من استماع لآراء المثقفين والمفكرين في الخليج برؤاهم في الإصلاح السياسي الحقوقي، اكتفى الزياني بالقول:"فلنترك الأفعال تُجب". ومع أمل الجميع بأن تُجيب الأفعال معززة ما صدر من بيانات لمجلس التعاون أو ما أغفلته من ضرورة ملحة للإصلاح السياسي، فإن هاجس تحول المجلس إلى كرنفال خطابي لا يدفع إلى تنسيق ومواقف مشتركة لمصالح الشعوب والمنطقة يبقى حاضراً، وقد يتصاعد في المستقبل، ويجد بعض الأعضاء المظلة الخليجية غير مجدية، بناءً على التوازن الجديد والبحث عن المصلحة الفردية لكل نظام سياسي، وهنا تحتاج الدولة الرئيسة، وهي الشقيقة الكبرى السعودية إلى إعادة تقييم جادة لسياساتها الخارجية وخطابها وترتيب البيت الداخلي إصلاحياً، لكي تعبر بثقة وطلب ذاتي من دول وشعوب الخليج لمشروع الاتحاد الخليجي، وحتى لو تراجعت عنده أية دولة، فإن زخم التأسيس السليم سيضغط عليها للالتحاق بالركب، كما أن على دولتين خليجيتين أخريين قطعتا شوطاً بالتنسيق مع إيران، أن تُدركا أن بعض هذا الاختراق لا يَضّر بالوحدة الخليجية فحسب، بل يُهدد وحدة الجغرفيا السياسية لدول أخرى، نقول ذلك كرسالة لعلها تصل قبل أن يغرق المركب. * باحث سعودي. [email protected]