هل حقاً أن الكتابة لا تغير من الواقع المؤلم شيئاً؟ ليس من السهل تعطيل طاقات وطموح وآمال الشباب المتفجرة في سبيل بيان كيان الوطن والعيش بسلام وأمن بعيداً عن الإحساس بالغربة في الوطن، فأية وضعية تتناقض في واقعها مع معنى الشباب من حيث التعريف والمغزى ستؤدي إلى الخيبات والاستسلام، أو ردود الفعل الكارثية والانخراط في التطرف وأساليب العنف حيث تتاح ظروفه أمامهم بعد إصابتهم بخيبات الأمل الحياتية التي تولد الاحتقانات الذاتية المتصاعدة في نفوسهم، وتؤدي إلى الانفجار في أية لحظة. وضع أحد كبار منظري النظام العالمي الجديد والعولمة ويدعى"زيغينو بريجسكي"مصطلحات تهدف إلى خدمة الهيمنة الأميركية على العالم ومن ضمنها إطلاقه لمقولة"هندسة المجال الكوني"أو بمعنى آخر هندسة الكون على أساس جيوسياسي جديد يخدم مصالح أميركا في العالم، كما أطلق مصطلحاً آخر ظريفاً وخطيراً في أهدافه ونتائجه هو"رضاعة التسلية"وهو بمثابة دواء لإهدار طاقات الشباب المستغنى عنه في الدول المتخلفة كما أنه يعد من ضمن الوصفات السحرية للهيمنة الأميركية على العالم، حيث يرمي في نهاية المطاف مع تعدد اختلاف الفهم للمعنى إلى تخدير الوعي الإنساني من خلال استخدام وسائل الإلهاء والتسلية حسب آراء معظم علماء النفس المعاصرين. وقد سارعت وسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد بمئات قنواتها الفضائية الكونية إلى شغل ساعاتها اليومية المستمرة ببرامج التسلية بهدف استقطاب الشباب إليها وهم أكثر الفئات الاجتماعية من حيث العدد السكاني في مختلف دول العالم، وكذلك بسبب أن مثل تلك البرامج الموجهة للتسلية أو العمل على صناعتها أو ابتكارها تعتبر من أضخم الأعمال التجارية ربحاً وازدهاراً وانتشاراً خاصة في عالمنا العربي، لذلك تكثر القنوات الفضائية التجارية التي استطاعت فرض معاييرها وتوجهاتها على بقية المحطات التقليدية بسبب رتابة الأخيرة، وقحط برامج قنواتها الوطنية. وبدء السباق لهذه القنوات في عرض مختلف أساليب التسلية المسطحة للوعي والمخدرة للمعاناة الإنسانية التي تحاصرنا بأزماتها وتحدياتها في هذا الوقت من كل جانب، ولم تبق للقضايا العامة أو الوطنية أي مكان واسع سوى شغلها حيزاً ضيقاً بين فقرات التسلية التافه معظمها من أجل تحويل الأنظار، وإلهاء العقول عن التفكير في القضايا الحساسة والمصيرية! إن للوعي من المنظور النفسي - الاجتماعي وظيفتين رئيسيتين تتركز حول المراقبة والتوجيه، فالوعي يراقب الذات والمحيط ويضبط الفكر والسلوك الإنساني، بينما يكون للتوجيه وظيفة تسمح للشخص أن يبدي أفكاراً وسلوكاً للوصول إلى أهداف معينة أو إنهائها، كما أنه يرتبط مع التركيز والانتباه عند نقطة اليقظة الواعية المتبصرة التي تعمل التفكير التحليلي النقدي العقلي فيما يتجاوز السلوك الروتيني للمفاهيم والعادات اليومية. من هنا تلتقي سلبيات العولمة مع إهدار الوعي الإنساني في حربها على العقل والتبصر في الأمور. فالاستبداد في عالمنا العربي - مثلاً - يمنع الوعي، كما أن كلاً من العصبيات الطائفية والأصولية الدينية المتشددة تحاول بدورها إهدار الوعي من خلال فرض التعصب البغيض والدغمائية التي يتولد عنها فوضى مزعجة بسبب هيمنتها الفكرية ومنها العقل الإنساني من مجرد التفكير أو المساءلة ومحاولتها الدائمة فرض الأفكار والطروحات ذات العصبيات الماضوية"الظلامية"فقط بقوة السلاح أحياناً إذا ما تطلب الأمر ذلك لأنها ترى في إعادة إنتاجها للأفكار الماضية أفضل حالات التكيف مع كل عصر وزمان عبر إعادة إنتاجها وتوجيهها في تكرار ثابت مبوب وصارم ومحاط من وجهة نظر تلك المرجعيات باليقين المبين الثابت في عقولهم التي لا تسمح بالتغير مطلقاً. هنا يكون دورها متوافقاً مع دور العولمة السلبي الذي يسطح الوعي، ويستقطب الشباب، ويزين لهم ثقافات التسلية الجديدة فيمنع هو الآخر التغير، خاصة إذا ما علمنا بأن الوعي كما هو معروف في التفكير العلمي والفلسفي يُعد بمثابة الخطوة الأولى الصحيحة على طريق التغيير الإيجابي. قد يخالفني الكثير من القرّاء الكرّام إذا ما استمريت في طرحي هذا بانحياز إلى جانب سلبيات العولمة فقط، دون طرح بعضاً من أهم إيجابياتها، خصوصاً في ما يتعلق بعملية انفتاح آفاق المعرفة والاطلاع لدى الشباب والمشاهدين على القنوات الفضائية بشكل عام، التي توفر من خلال انفتاحها الإعلامي الهائل أسواقاً جديدة يتم عبرها التفاعل لمختلف الثقافات، والتواصل في التأثير والتأثر على المستوى العالمي، مما يتيح فرصة فعلية لإغناء نوعية حياة الفرد والجماعة بسبب قدرتها على جعل العالم كله حاضراً أمام الانفتاح الكوني الإعلامي ساعة تشاء. أما ما يتعلق بتوفر قواعد المعلومات التي جاءت بها العولمة، وتعدد القنوات الفضائية الإعلامية وازدياد أعداد الصحف والمجلات المقروءة فإنها جميعاً قد ساهمت في كسر الحجر على الأذهان البشرية، ووسعت من دائرة الاطلاع ما أدى إلى تنوع في عدد المرجعيات والطروحات التي ساعدت على تجاوز تحكم المرجعيات المحلية الجامدة في مختلف الدول، كما ساهمت في تعرية الكثير من أنظمة الاستبداد السياسي على المستوى العالمي، وفضحت وما تزال الكثير من أوجه الفساد في السياسة والمجتمع والاقتصاد من خلال فرضها درجة من الشفاهية التي توفر فرصاً للمسألة، هذا في نفس الوقت الذي ساهمت فيه بتوفير فرص حقيقية لجيل الشباب والناشئة للمعرفة والرؤية الأرحب عن طريق عرضها لبرامج موجهة تدعو إلى ضرورة محاولة الاستقلال في الرأي كمقدمة للاستقلال في اتخاذ القرار عبر الإفلات من الحصار الإعلامي الذي طالما فرضته المرجعيات المحلية وخاصة الدينية منها داخل كل دولة، بالإضافة إلى أن العولمة وفرت عبر قواعد المعلومات والإعلام الكوني، المفتوح فرصاً تثقيفية للشباب غير مسبوقة من خلال مختلف البرامج والمواقع التي تعرض إنجازات البشرية واختراعاتها على مرّ عصور التاريخ من أجل الإبداع والاكتشافات الحديثة التي تهدف إلى تطوير الحضارة الإنسانية المعاصرة، وأسست علاقات تحمل المزيد من المساواة بين الجنسين كمقدمة للوصول إلى المزيد من التكافؤ في الفرص، ووسعت من إمكانيات التشاور والمشاركة على كافة المستويات . * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]