شهد التاريخ على مر العصور حروباً ونزاعات بين المجتمعات الإنسانية تحاول كل منها قتل أو تشويه أو تعطيل أكبر عدد ممكن من المجموعات البشرية الأخرى للوصول إلى"هدف معين"، ولعل أبرز تلك الحروب التى تطورت في تاريخنا المعاصر هي"الحروب الأهلية الثقافية"أو ما يعرف"بالإرهاب الثقافي"الذي يدور بين التيارات الفكرية الثقافية المختلفة، وكذلك ما يعرف بالحرب المشروعة التي لا أعلم لها مفهوماً تاريخياً سياسياً محدداً سوى أنها حرب مثل غيرها تشن ضد الإنسانية وتعمل على إضاعة المكتسبات المادية والبشرية تحت غطاء شرعي يعمل على تزوير أهدافها الحقيقية تاريخياً بحيث لا تعتبر بمثابة جريمة، بل واجب لخدمة أهداف جوهرية وشرعية لمصلحة طرف معين، كما إن المعايير أوالشروط المستخدمة لإضفاء أي حق شرعي على الحرب تكون عادة غير محددة بشكل دقيق وعلمي، وإنما بشكل نسبي، مثل هذا الأمر قد تجاوز في واقعنا المعاصر إلى اختلاط بعض صور ومفاهيم الحروب والجرائم العادية مع مفاهيم الإرهاب كونها في نهاية المطاف تهدف إلى معنى واحد معين يمثل في واقعه اقصى درجات العنف المنظم ضد الإنسانية. أما في المجتمعات الإسلامية فإن مفهوم الحرب يلتقي مع مفهوم الإرهاب في زاوية العنف، فمثلاً: التوقف عند القراءات الحرفية للنصوص القرآنية من بعض رموز التيارات الإسلامية المعاصرة وفهمهم للفكرة القائلة إن أمانة الإسلام هي"أمانة مقدسة"فإن المفهوم من ذلك يؤكد على أن السبيل الوحيد لحفظ"الأمانة المقدسة"- بحسب فهم أبرز تلك الرموز القيادية - يتمثل في استخدام العنف كأداة إجبارية قد تتخذ شكلاً مأساوياً من خلال الإرهاب الذي يمارس القتل"باسم الله"داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها على اعتبار أن التهديد من وجهة النظر الاصولية لا يأتي إلا من الدول الغربية، وأن المجتمع الإسلامي يجب أن ينظم نفسه وفق مؤسسات إسلامية دون الاكتفاء بأن يكون الأفراد مسلمين، والنموذج المؤسساتي ذو الطابع الإسلامي المتشدد يتولد عنه في الغالب عنف خاص ضد جميع الأنظمة الايديولوجية الأخرى التي تسعى إلى اطلاق آليات مختلفة ومغايرة لما ينبغي أن تكون عليه الأشياء في واقع المجتمعات وزمانها. وما يعطيها قناعة بالنسبة إلى الكثير من المسلمين كونها تنظر إلى العلاقة مع التاريخ وكأنها علاقة مباشرة مع الحاضر، بمعنى أنها تعيد"تفعيل الماضي في الحاضر"من خلال مقاربتها الاصولية للنصوص المقدسة ورغبتها في استعادة الإسلام بكليته دون أن تعمل على تخليص المعتقد من الأشكال والصياغات المطبوعة تاريخياً، الأمر الذي يجعل العلاقة غير النقدية للإسلام بالتاريخ تفتقر إلى التفسير التاريخي، خصوصاً إن الحقيقة تتشكل أيضاً من خلال التاريخ، فيمنحنا إشراكه في دراسة النصوص المقدسة معرفة وتحديداً وتأويلاً لتفسير هذه النصوص بعد أن يقرأ بكامله دون تجزئة أو فصل بعض أجزائه عن الأخرى، والمسألة التاريخية من منطلق الوعي الإيماني الذي يبحث عن نفسه ضمن التحولات التاريخية للمجتمع والأزمان، ولكون الحقيقة التي تتشكل من التاريخ لا يمكن فصلها عن الحقيقة الأخلاقية القائمة على الشعور، فإن ذلك يجعلها تملك"سر الجمال"ولهذا فهي مخيفة أحياناً، وتخيب آمالنا كثيراً، ولكي نتمكن من اللحاق بها علينا أن نعي بأننا لكي نتصرف في متابعتها يجب أن نتوقف كثيراً للمراجعة حتى نتمكن كمؤرخين وباحثين من تحرير أنفسنا أولاً من الحكم المسبق ومن الهوى، عندها فقط نكون صادقين علمياً وتهمنا النتائج التاريخية قبل غيرها التي نستشرف من خلالها المستقبل، ومهما يكن الأمر فإن العنف والقتال يتخذ كلاهما معنى معين إلى التغيير الفعال لأنه يبقى الوسيلة الأخيرة في يد الإنسان للإفلات من مأزقه، ومن خطر الاندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق، كما أنه بمثابة السلاح الأخير لإعادة شيء من الاعتبار المفقود إلى الذات من خلال التصدي مباشرة، أو المداورة للعوامل التي يعتبرها مسؤولة عن التبخيس الوجودي الذي حل به، لذلك فهو يعتبر لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين خصوصاً عندما يشعر الإنسان بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي أو يفشل في إقناع الآخرين بالاعتراف بكيانه وقيمته. العنف من الجانب النفسي يمثل الوسيلة الأكثر شيوعاً لتجنب العدوانية التي تدين الذات الفاشلة بشدة عبر توجيه هذه العدوانية إلى الخارج بشكل مستمر كلما تجاوزت حدود الاحتمال الشخصي، أو توجيهها إلى الداخل ضمن العصبية الواحدة التي تتفرع بدورها إلى عصبيات متقاتلة سياسياً أو طائفياً تصل حد التصفيات الدموية إذا تطلب الأمر ذلك، أما العنف من الجانب التاريخي فإنه يشخص على حالتين متناقضتين، فهو إما أن يكون عشوائياً مدمراً يذهب في كل اتجاه، أو يكون بناءً يوظف في أغراض تغيير الواقع السيئ، لكنه في النهاية يبقى موجوداً إلى الأبد حتى وإن اتخذ له ألف وجه ولون واتجاه، طالما أن هناك مأزقاً وجودياً يمس القيمة الذاتية للإنسان، وضعية مولدة للتوتر الداخلي. لهذا فإن ما يحدث داخل العصبيات الأصولية الدينية المنتشرة في عالمنا العربي والتي تعتبر ذاتها كفئة ناجية من الضلالة وصاحبة العقيدة الصحيحة التي يتعين عليها تطهير الأرض من الفئات الضالة والقضاء على الشرور والآثام ما هي في واقعها النفسي - الاجتماعي سوى عصبيات عرقية أصولية تنهار أمامها العلاقات الإنسانية ليصبح فعل القتل وهدر الدماء والتصفية ممكناً من دون أي شعور بالإثم أو المسؤولية، بل إن فعل القتل وإباحة هدر الدماء لن يكون مبرراً من وجهة نظر كل من ينتمي إلى مثل تلك الأصوليات الدينية المتشددة، وإنما يرقى ذلك إلى مستوى الإحساس بالواجب، والرسالة النبيلة، والقضاء على الضلال والفساد، واستعادة الحق، لذلك فهو يتم بحماس ونشوة الجدارة من أجل القيام بنشر الرسالة وحمل الأمانة المقدسة عبر استعادة ثقافة العصبية لسلطانها. ولكن تبقى في كل الأحوال والأزمان إنسانية الإنسان مرهونة بالشرط المؤسس لها، والمتمثل في ضرورة الاعتراف بإنسانية الآخر من أجل إبقاء الباب مفتوحاً أمام اللقاء الإنساني الدائم، والشراكة الإنسانية في الوجود والمصير. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]