لا يختلف اثنان في أهمية دور التجارة في حياة الفرد والمجتمع وترابط الأمم، فهي تكاد ترتبط بكل مناحي الحياة ظاهرها وباطنها، منذ القدم خصوصاً في عصرنا هذا، وقد اهتم الإسلام بالتجارة وتنظيمها وأولاها أهمية خاصة، إذ جاء في القرآن الكريم عن التجارة مع الله ذكر التجارة الدنيوية، وحذر وتوعد بشدة المطففين، والتطفيف ليس في الوزن والكيل فحسب، بل يشمل عموم أنواع الغش والغبن، فنبينا عليه الصلاة والسلام، تعاطى التجارة قبل البعثة وعرف الكثير من أسرارها وأغوارها وأهميتها للإنسان وعمارة الكون،"عليكم بالتجارة ففيها تسعة أعشار الرزق"، وقد مر صلى الله عليه وسلم على صرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال يا صاحب الطعام، ما هذا؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، ثم قال"من غشنا فليس منا". وقال صلى الله عليه وسلم"التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". أليس هذه أعلى مراتب الفوز التي يتسابق إليها أولو النهى من المؤمنين المتقين، الذين يبذلون أرواحهم في سبيل الله، والذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، لقد أكد الصادق الأمين بأن التاجر الذي يمارس عمله بكل صدق وأمانة، يتقرب إلى الجنة بقدر ما يمضي من عمره، في حين أن غيرهم من الصادقين مع الله يبذلون الكثير من أجل الوصول إلى بعض مما خصه الله للتاجر الأمين الصدوق. إن مظهر الإنسان وهيئته هما أبرز وأول ملامح معرفة هويته، يلي ذلك التعرف على مجتمعه بل وعقيدته وثقافته ومدى أصالتها وضعفها وخصوصيتها، وهي السمة الأولى من هويته الأصلية، وهي الرسول الأول للتعريف بهما بينه وبين الآخرين، وبعد ذلك تتحدد وتحدث أمور أخرى، لا تنفصل بأي حال عن النظرة والهيئة الأولى وطبيعتها، وتذكارها غالباً لا يغيب عن البال حتى بمرور الوقت، وقد يكون اللقاء الأول في الغالب هو أساس في تحديد طبيعة العلاقة في ما بعد وما يترتب عليها. ولذا فملابس الإنسان الغلاف الأول لهذا الكائن ولهويته، فإذا كان التعريف الأساسي أصلاً مخالفاً للأصل فهذا خلل، وليس خافياً ما تعج به الأسواق من السلع، وطريقة الإعلان الاستفزازي عنها الذي لا يراعي شيئاً من خصوصياتنا. هنا يبرز أكثر من سؤال، من خلف هذه الظاهرة؟ ومن الذي بيده الوصاية في صناعة هويتنا الجديدة؟ ومن الذي يقايض الجواهر بالأحجار؟ وإلى أين ستنتهي بنا الهرولة إلى فقد وضياع هويتنا وهي أهم سمات السيادة الفكرية والخصوصية الاجتماعية، وإلى أي حد سنتجرد عن هويتنا الأصلية؟ هل بالقدر الذي نستهلكه وتكشفه عن أجسادنا تلك الملابس الغريبة والشاذة؟ أم بقدر صحوتنا واستنكارنا لهذا الاستخفاف بعقولنا والحفاظ على أموالنا المهدرة؟ أم بقدر إحساسنا بما قدره الله لنا؟ كنتم خير أمة أخرجت للناس. فنحن أصحاب هوية عريقة واضحة، فرضناها يوماً ما على الآخرين، وأصبح مطمح العقلاء منا الحفاظ على هذا الشرف، فرضاؤنا بتبدل الأدوار من أعلى إلى أسفل، قطعاً سيكرس ذلك تدريجياً غياب مظهر الهوية، وتلقائياً ضعف الانتماء، وذلك يورث ضحالة العقول وتهميش الشخصية، ويلغي احترام الآخرين لنا، واحترامنا لذاتنا، فنحن نقلد من نعجب ونقتدي بمظهرهم وبسلوكهم وأخلاقهم وربما بعقائدهم. الحمد لله أن لدينا متاحف متطورة قل وجود نظير لها، تقصدها قصداً لخصوصيتها من مختلف دول العالم، وهي تقتني الكثير من تراث ومقتنيات العصور والأجيال السابقة التي تجسد عمق الخصوصية، التي تبهرنا وتأسرنا مشاهدتها، ونعجب بما وصل إليه أجدادنا من رقي فنهم وعمق حضارتهم، الذي وصل إلينا بعضه كأنه أنتج بالأمس لدقته وبراعته، الذي جعله يقاوم عوامل الطبيعة والزمن، وصنعت في ظروف بالغة القسوة ولا تمتلك شيئاً مما بين أيدينا من الوسائل والتقنيات، ولكن الأجيال المقبلة بماذا ستذكرنا، وكيف سيتعامل الأحفاد والأجيال المقبلة في تراثنا الذي خلفناه لهم، والذي لا يختلف عن مثله في أوروبا أو أميركا أو حتى في الصين واليابان؟ بهذا يثبت لنا بالقطع أن التجارة ضرب من العبادات والقربات إلى الله سبحانه وتعالى، وخدمة للوطن والمواطن وعمارة للدارين، ولكن عندما تتحول التجارة إلى إضعاف للانتماء ومسخ للهوية، ونستبدل بها هوية جديدة مستوردة، صنعها لنا من يجهلون الحلال والحرام من ديننا الحنيف ويجهلون قيمنا وخصوصياتنا، هنا الكارثة بل الطامة. إن المتأمل للسلع التي تملأ المحال التجارية، خصوصاً في ما يرتبط بمظهر الهوية الوطنية والسمة الدقيقة للمجتمع كالملابس وأدوات الزينة والحلاقة وبعض المطاعم وغيرها، يعيش حالاً من الذهول والحيرة والألم معاً، ويشعر بأن الهوية قد نُحرت بل سحلت في الطرق والشوارع، وبيعت بأبخس الأثمان ومن الشاري ومن البائع؟ ومن الضحية ومن الرابح؟ إلى هذا نخلص بأن للتاجر المعني بذلك دوراً أساسياً في انتشار وتعميم هذه الظاهرة وغيرها، ومن البديهي أن تنحصر المسؤولية فيه، فهو الذي يصمم ويستورد ويسوق وينفق مئات الألوف أو الملايين في إعلانات، بعضها أقرب إلى إعلان التمرد على القيم وجرح المشاعر السوية واستفزازها، وإغواء للبعض الذين تتوسع دائرتهم يوماً بعد يوم بقدر ذلك الجهد والمماراة وضحالة عقولهم، وكل ذلك بإسهام مباشر للعديد من الفضائيات الماجنة، لعله من أجل الربح منزوع الخير والبركة، وغاب عنه أنه صمام الأمن الاجتماعي الأول والقيم في المجتمع، وأن للتاجر دوراً عظيماً وقدرة خارقة في تكريس الهوية والانتماء والقيم والتكافل والرقي بالمجتمع. فرتبة التاجر الأمين الصدوق في الدنيا والآخرة تستحق التسابق إليها ولكن وفق المعايير والمفاهيم التي علمنا أيها معلمنا الأول عليه أفضل الصلاة والتسليم، الوثيقة الصلة بالقيم والأخلاق والترابط والتكامل الاجتماعي، ولكن من أغوتهم ثقافة"البزنس"ومن ليس لهم من التجارة إلا السجل، ومن صنعتهم مقابلات المصادفة وغفلة الزمن، هم الدخلاء على الصنعة وهم من أفسدوا ومحقوا تسعة أعشار الرزق، فقلبوا ظهر المجن على الأصحاب الأصليين لأشرف المهن وأبركها وهي التجارة. [email protected]